أحلام ضائعة
(القاهرة) - كنت أصغر موظفة تلتحق بالعمل في هذه المؤسسة الحكومية مع أربعة رجال وثلاث نسوة جميعهم متزوجون، وإن كان الفارق في العمر بيني وبين بعضهم ليس كبيرا فقد يصل إلى ما بين خمس وعشر سنوات ووجدتهم يتعاملون كأسرة واحدة فانضممت إليهم في تعاملاتهم والمجاملات التي كانت بينهم وفي معظم الأحيان نتناول طعام الإفطار معاً وبلا ترتيب أو تنظيم، يتولى أحدنا هذه المهمة كل صباح تقريباً والأعمال الموكلة إلينا لا تستغرق أكثر من ساعة أو ساعتين في اليوم وبقية ساعات النهار نكون في فراغ لابد أن نسده بالثرثرة في أي شيء من السياسة والرياضة والاقتصاد والأمور الحياتية حتى صرنا كتباً مفتوحة لبعضنا ونعرف ربما أدق التفاصيل التي تحدث في البيوت وتصرفات الأبناء والزوجات والأزواج والجيران والأقارب.
وأنا لا أحب أن تصل علاقة العمل إلى هذا الحد واستطعت أن أحتفظ لنفسي بكل الخصوصيات المنزلية وأكتفي بأن أسمع أكثر مما أتكلم حتى لا أضطر إلى الحديث لأحد عن أشياء في بيتنا لا أحب أن تخرج عن جدرانه بجانب أنني وجدت أن من حولي يريدون أن يتكلموا أكثر مما يسمعون علاوة على أنهم أدمنوا «الفضفضة» ويحبون أن ينقلوا ما يدور في بيوتهم، وخاصة النساء فلا نستغرب أن تشكو واحدة من شقاوة طفلها والأخرى من تمرد ابنتها والثالثة من مطالب أفراد أسرتها ولا يخلو الحال من شكاوى الرجال، فهذا لا يعرف كيف يستريح في ظل صخب أبنائه وذاك يعاني من إهمال أولاده وعدم اهتمامهم بدروسهم وآخر لا تكف حماته عن تنغيص حياته وتكدير صفوها بالتدخل الدائم بينه وبين زوجته.
ورغم الود الظاهر في هذه العلاقات فإنني لم أكن أبداً راضية عن الانفتاح الكبير بين الزملاء والزميلات فلم يضعوا للتعامل حداً ولم يحتفظوا من الأسرار إلا بما لا يستطيعون البوح به أو الكلام عنه ولا يمكنني أن أغير هذه السلوكيات لأنني أصغرهم ولأنهم اعتادوها وأصبحت من الرسوخ بحيث يصعب على مثلي زحزحتها وأحياناً أتساءل لو حدث خلاف بين امرأتين أو رجلين أو أي اثنين منا هل يمكن أن تكون هذه المعلومات التي توصف أحياناً بأنها عيوب إلى أسلحة للحرب أو الدفاع أو الهجوم فتنقلب الصداقة إلى عداوة أكبر لا يمكن التصالح بعدها؟ وقد حدث مثل ذلك كثيراً بين زملاء وجيران وإن لم يحدث هنا حتى الآن لكنني متوجسة من حدوثه ومتخوفة من نتائجه.
هذا الصباح كان زميلي الأقرب المجاور لي مباشرة بمكتبه عابساً على غير عادته رفض أن يتناول الإفطار معنا ليس لأنه سبقنا بتناول الطعام، ولكن لأنه لا يجد شهية على الإطلاق ليس هذا فقط، بل كان يدخن بشراهة ويتناول القهوة فنجاناً تلو الآخر وبينهما كوب شاي ثم لجأ إلى الانغماس في العمل ولاذ بالصمت المطبق بشكل لم نعتده منه وعندما سألوه عن سبب تلك الحال لم يرد إلا بالنفي الموجز: لا شيء لكن مع الإلحاح عليه أفصح عن أن خلافاً نشب بينه وبين زوجته بسبب إسرافها تطور إلى مشاجرة معها انتهت بتركها للبيت وظلّت هذه المشكلة هي محور حديثنا لمدة أسبوع كامل والجميع يحللون وينصحون ويختلفون ولا أحد يريد أن يعترف بأن الأخطاء متبادلة من أي زوجين إنما يرى كل واحد وترى كل واحدة أن الطرف الآخر هو الجاني والمقصر ولا أملك في هذه الحال إلا التعجب.
عندما هدأت تلك العاصفة كان لي النصيب الأكبر في سماع أقوال زميلي بسبب القرب المكاني وعرفت التفاصيل التي كنت أنأى بنفسي عنها لكنها تأتيني رغم أنفي، فالرجل يشكو منها ومن كل تصرفاتها رغم أن بينهما ثلاثة أبناء وعشرة تزيد على 6 سنوات، لكن لم يصلا بعد إلى التفاهم ويرى أنها امرأة غريبة تسمع كلام أمها حرفياً وتنفذه من دون أن تفكر فيه أو في جدواه مع اعترافه بأنها ربة بيت ممتازة إلا أنها على العكس من ذلك تهمله ولا تهتم به وترفض أن تصلح أخطاءها أو تعترف بها وهي مثل الشريك المخالف تملأ الدنيا صراخاً وضجيجاً إذا ارتكب طفل أي مخالفة أو لم يفعل شيئاً طلبته منه تريد دائماً أن تبدو صاحبة العصمة والكلمة العليا في البيت وتضعه أمام الصغار في مواقف محرجة للغاية، وكما قال لي إنه تحمل ذلك كله وغيره من أجل الصغار لكنه لم يعد يحتمل خاصة بعدما فقد الأمل في إصلاحها.
استمعت إليه بتركيز وانصات لعل الكلام يخفف بعض معاناته إلى جانب أنني استشعرت أنه يريد أن يتكلم مع شخص يثق به وليس على الملأ، كما يحدث في كل المناقشات ومنذ ذلك الحين وهو يخصني وحدي بالحديث عن خلافاته مع زوجته لانه تأكد أن أسراره في بئر ولا أتحدث عنها مع أحد وقد بدأت أتعاطف معه من دون أن أسيئ إلى المرأة التي لا أعرفها وقد كنت حريصة على ألا أوجه إليها أي نقد أو لوم لأنني لم أسمع وجهة نظرها ولم أعرف أن كان ما يقوله زميلي صحيحاً أم مبالغاً في بعضه إلا أن حديثه معي لا يخلو من الإطراء على جمالي وحسن تصرفاتي والعقلانية في التعامل مع الأمور ولا يفوته أن يقارن بيني وبينها ليظهر الفوارق التي يعاني بسببها.
من الطبيعي أن تجنح أذني إلى هذه الكلمات الرقيقة واسترجعها عندما أعود إلى البيت لأنني لم أسمع مثلها من قبل ودعني لا أكابر مثل الأخريات فكل أنثى تسعد بمثل هذه الكلمات وإن أظهرت عكس ذلك أو حتى ثارت وهي ترفضها وجدتني أفكر فيها وتطور الأمر إلى الشوق لسماعها وانتظارها، وقد كان بعد ذلك كريماً في الإكثار منها وظهر عندي بعض الندم على أنني لم تكن لي تجربة حب أعيش فيها الأحلام وأحلق في دنيا الغرام ليس من قبيل العبث وإنما لتكون مقدمة للزواج وعندما أفيق أرفض هذه التصرفات الصبيانية التي لا تليق بي ولا بأسرتي ولا تتناسب مع تربيتي وان كنت أقر أنها جميلة ولذيذة.
تعددت الخلافات والمشاكل بين زميلي وزوجته ويتم الاصلاح بينهما لكن هذه المرة وصلت إلى نقطة النهاية وأخبرني أنها اللاعودة وتم الاتفاق بينهما على الطلاق ولم يبق إلا التفاصيل حرصاً على مستقبل الصغار كان يتحدث بنشوة وهو مقبل على هذه الخطوة لأنه - كما قال - سيتخلص من جبل يحمله على كاهله وسيعيش حياته بشكل حقيقي وبالفعل لاحظت تغيرات كبيرة فيه فقد تخلص من العبوس وتبدو عليه السعادة فعلا على عكس أي شخص مقبل على هذه الخطوة الهدامة وانعكس ذلك على علاقته بي فأكثر من إظهار ارتياحه لي ثم الميل العاطفي إلى أن صارحني بحقيقة مشاعره نحوي.
أما ما إعتبرته صدمة فقد طلب الزواج مني وأقول صدمة لأنني لم أفكر أبداً في ذلك رغم ما وصلت إليه علاقتنا وان كنت أبادله نفس المشاعر وما حاولت أبداً أن اصطاد في الماء العكر ولا كنت استغل فراغه العاطفي ومشاكله مع زوجته وهو رجل ناضج تخطى الثلاثين وليس مجرد مراهق تهزه الكلمات الرقيقة وهو الذي كان يفعل هذا وليس أنا والأهم من ذلك كله أنني كنت واضحة معه وضوح الشمس في رابعة النهار فلن أكون أبداً زوجة ثانية تحت أي ظرف من الظروف ولم ولن أقبل أن ابني سعادتي على انقاض امرأة أخرى وتشتيت أسرة فعاد ليؤكد أنني لا علاقة لي بهذا كله وأنه اتخذ قراره الذي لا رجعة فيه سواء وافقت أنا على الزواج منه أو لا لكن سعادته ستكتمل لو قبلت.
عندما تأكدت أنني بريئة من أي توابع لهذه المشاكل ولا ذنب لي فيما سيحدث لهذه الأسرة وافقت على الزواج فأغرقني بمعسول الكلام وحلق بي في دنيا الغرام وجاءت التجربة التي كنت أحلم بها وأتمناها وان كنت أستعجل انتهاء علاقته بزوجته لكنني لم أطلبها ولم أتدخل لأنني ما زلت عند المبدأ الذي أؤمن به والموقف الذي لا يمكن أن أغيره وعشت عدة أشهر وأنا في سعادة غامرة ونلتقي بعد العمل لنخطط لمستقبل حياتنا، خاصة أنه أخبرني أنه سيترك أبناءه مع زوجته لأنه لا يستطيع أن يقوم بمسؤولياتهم، وبذلك ستكون حياتنا وحدنا أتخيل وأنا معه نغدو ونروح معاً من وإلى العمل مثل عصافير الكناريا وقد لا نسلم من الحسد بسبب ما بيننا من تفاهم ومودة ورحمة أجد فيه الرجل الذي أريد ويجد فيّ المرأة التي كان يتمناها وليشعر بالفارق بيني وبين زوجته الأولى.
وجاءت الزلزلة التي هزَّت كياني، فقد أعاد الرجل زوجته وتصالح معها ولم يكن هذا هو الذي حطم قلبي وكسر أضلعي ودمر أركاني، وإنما تنصله من كل ما قال وأنه لم يقصد الانفصال عن زوجته إلا من قبيل تهديدها وادعى أنها رفضت أن تتولى مسؤولية الأطفال وستتركهم له ولن يستطيع ذلك وحاول أن يضمد جراحي بكلمات وهمية وهو يعرف نتيجتها مسبقاً بأنه مستعد للزواج مني من دون أن يطلق زوجته لأنها لا ذنب لها فيما يحدث ووجدتني أسمع الحكمة من فم الثعلب اتهم نفسي بالسذاجة والإفراط في حسن النية بل الغباء وقلة الحيلة والخبرة بمكر الرجال.
الآن أريد أن أصرخ أو أشكو أو أجد أحداً أتحدث معه ليخفف عني آلامي ليلومني أو ينصفني ليوبخني أو يعذرني أود أن أعرف إن كنت على صواب أم خطأ، لكن لا أستطيع أن أبوح لمخلوق بحرف كنت أحسد زملائي وزميلاتي على ثرثرتهم وهم يخرجون ما بداخلهم بلا تحفظ فيا ليتني أستطيع أن أفعل مثلهم مع أنني استنكره لكنني في أشد الحاجة إليه الآن.