حظى حفظ القرآن الكريم بمكانة رفيعة جدا في قلوب الجزائريين، ويحرص الآباء على تعليم صغارهم القرآنَ منذ سن مبكرة، فلا يكاد يبلغ الصبي الرابعة من عمره، وبخاصة في الأرياف، حتى يبعثه أبوه إلى المدرسة القرآنية بالمسجد أو الكتّاب أو الزاوية لحفظ القرآن، ويتخذه بعضُهم كتعليم تحضيري للمدرسة ويكتفون بتحفيظ أبنائهم ما تيسر لهم من السور قبل بلوغ سن السادسة ودخول المدرسة الرسمية، بينما يتخذه آخرون غاية في حد ذاته ولا يقبلون بما دون حفظ أبنائهم القرآن كاملا لاتنقص منه آية تنتشر في الجزائر ثلاثة أنواع من مدارس تحفيظ القرآن؛ يتعلق النوع الأول بالمدارس القرآنية التابعة لوزارة الشؤون الدينية، وهي تقع داخل المساجد أو في محيطها كأن تُبنى مدرسة قرآنية بجوار المسجد وعلى أراض وقفية وهي ملحقة به إدارياً. وبحسب إحصائيات وزارة الشؤون الدينية بالجزائر، فإن هذا النوع من المدارس يبلغ عددها 2574، وتضم 4556 قسماً أي بمعدل قسمين تقريباً لكل مدرسة، وتستقطب حاليا 178404 طالب قرآن، ويؤطرها 4478 معلما حافظا للقرآن كله. أما النوع الثاني من المدارس القرآنية فيتعلق بالكتاتيب، وتقع أساساً بالريف، ويفتحها «شيوخ» حفظة ٌ للقرآن ببيوتهم أو بجوارها عادةََ، وتتميز بتواضع بنائها وبساطته الشديدة، ويتلقى «الشيوخ» أجورهم الشهرية من التلاميذ، وهي بمثابة مدارس حرة ولكنها لاتخضع لقانون أو ضرائب ولا تتطلب رخصة لفتحها. الكتاتيب في مواجهة التجهيل شاعت الكتاتيب بكثرة في العهد الاستعماري الفرنسي ردا على سياسة التجهيل التي اعتمدتها فرنسا بحق الجزائريين لمنع تشكُّل الوعي لديهم، وساهمت هذه المدارس بفعالية في حفظ الاسلام والقرآن وكذا اللغة العربية وإفشال مخطط فرْنسة الشعب الجزائري طيلة 132 سنة من الاحتلال (5 يوليو 1830- 5 يوليو 1962). وبعد الاستقلال، واصلت رسالتها الحضارية، وتخرَّج فيها آلافُ الأئمة فضلاً عن تأهيل تلاميذها الذين تلقوا فيها «تعليما تحضيريا» لمزاولة حياتهم الدراسية الرسمية بنجاح كبير، وعادة ما يحتل طلبتُها المراتب الأولى في المدارس الرسمية ويتفوقون على أقرانهم الذين تلقوا تعليما تحضيريا «عصريا»، كما يتميز طلبة الكتاتيب بالتمكن التام من اللغة العربية بقواعدها ونحوها وصرفها ويكتسبون ثروة لغوية كبيرة، وقد أمدَّت الكتاتيب الجزائرَ بالآلاف من المدافعين عن اللغة العربية الذين يواصلون الآن رسالة المجاهدين والشهداء في الوقوف بوجه الأقلية المُفرنَسة بالجزائر. ويبلغ عدد الكتاتيب حالياً 2344 كتّابا تضم 2348 قسما، ويدرس فيها 85488 تلميذا ويؤطرها 2533 معلما. والملاحظ أن دور الكتاتيب تراجع منذ عقدين تقريباً مقارنة مع فترة الستينيات والسبعينيات، فأغلق الكثير من الكتاتيب أبوابَه لأسبابٍ عديدة، منها وفاة عدد معتبر من «الشيوخ» المؤسسين لها واتجاه تلاميذهم الذين حفظوا القرآن على أيديهم إلى العمل في المدارس القرآنية الرسمية التابعة لوزارة الشؤون الدينية لضمان تلقي رواتب منتظمة على الأقل. زوايا ومعاهد حرة النوع الثالث من المدارس القرآنية، يتعلق بالزوايا الصوفية التي يخصِّص بعضُها فضاءً لتحفيظ الأطفال والمريدين القرآنَ الكريم، ويبلغ عددُ الزوايا المعنية 328 زاوية وتضم 15563 طالبا من بينهم 4322 طالبة، وتضمن الزوايا النظام الداخلي لـ 8366 طالبا تابعا لها. ويمكن إضافة «المعاهد الحرة» للقرآن والعلوم الدينية إلى الأنواع السابقة من المدارس، وعددها 9 مدارس منها 3 بولاية غرداية بالجنوب الغربي للجزائر، بيد أنها تتميز عنها بأنها موجَّهة للكبار وتدرِّس أيضا مختلف العلوم الدينية لتأهيل طلبتها للإمامة مستقبلا. وعموما يبلغ العدد الإجمالي للمدارس القرآنية بمختلف أنواعها في الجزائر 5246 مدرسة تقوم بتحفيظ كتاب الله لنحو 288 ألف طالب. ولا تتوافر إحصائيات عن عدد المتخرجين فيها من الذين حفظوا القرآن كله أو أغلبه أو نصفه، ولكن الأكيد أنهم يعدّون بعشرات الآلاف. وخلافاً للكتاتيب والزوايا، فإن فتح مدرسة قرآنية في مسجد أو في محيطه الوقفي، يتم بموجب قرار من وزير الشؤون الدينية الذي يحدِّد تسميتها وموقعها، ويسند مهمة إدارتها إلى إمام المسجد عادة، ويتولى هذا الأخير تعيين معلم القرآن للتلاميذ من الذين تتوافر فيهم صفات الكفاءة وحفظ القرآن كله والحِلم وسعة الصدر، وتتكفل الدولة براتب المعلم ومصاريف صيانة المدرسة والتجهيز وتساعدها المؤسسات الخيرية في التمويل، كما يوجّه جزءٌ من رصيد أموال الزكاة إلى تمويل المدارس القرآنية، وهي تجربة جديدة استحدثتها الوزارة منذ سنوات قليلة. مخطط للتطوير على الرغم من أنها تابعة لوزارة الشؤون الدينية، إلا أن المدارس القرآنية المسجدية لا تكاد تختلف عن الكتاتيب سوى من حيث تفوُّقها في التجهيز وراتب المعلم الرسمي، بينما تعيش تسيُّباً واضحاً ولا تمنح أية شهادة للمتخرِّجين فيها من حفظة القرآن تؤهِّلهم للترشح لمسابقات الإمامة مثلا، وهو ما دفع الوزارة إلى التفكير بتطويرها وتثبيت دعائمها ومنح التكوين القرآني بها بُعدًا أكثر جدية. وبهذا الصدد تمَّ تنصيب لجنة خبراء تربويين ودينيين متكونة من 28 خبيراً لدراسة الموضوع في مدة 7 أشهر وقدمت مشروع «منظومة تعليم قرآني شاملة في الجزائر» وصاغت نظاما تعليميا موحدا للمدارس القرآنية ووضعت نظاما قانونيا داخليا لها. وتم الشروع في تطبيق نتائج عمل اللجنة فور تسليم عملها للوزير وموافقته عليها ليشهد القطاع بذلك العديد من الإصلاحات المهمة وفي مقدمتها إعادة تقنين القطاع وتنظيمه ومنح شهادات للطلبة تحدد بدقة مستوى كل طالب بناء على ما حفظه من القرآن، وستكون الشهادات رسمية معترفا بها تخوِّل لصاحبها الترشح بها لمسابقات الإمامة والتكوين الديني في المعاهد وغيرها من التخصصات. وتهدف هذه الإصلاحات إلى تفعيل تحفيظ القرآن في الجزائر وتحصين طلبته ضد الانحرافات المختلفة. والجدير بالذكر أن وزارة الشؤون الدينية اشترطت على الجمعيات الدينية التي تقدمت إليها بطلب الموافقة على بناء مساجد جديدة، ضرورة أن يشمل أيُّ مسجد جديد، مدرسةً قرآنية علما أن هناك 3 آلاف مشروع مسجد؛ مما يعني أن هناك 3 آلاف مدرسة قرآنية قادمة لتعزيز الـ2474 مدرسة قرآنية مسجدية الموجودة حالياً. ومع أن انتشار روض الأطفال والمدارس التحضيرية العصرية أدى إلى تراجع الاقبال على المدارس القرآنية بالجزائر في السنوات الأخيرة، لاعتقاد بعض الأولياء أن المدارس التحضيرية افضل لاعداد ابنائهم للدراسة، فإن الكثير من الآباء لا يزالون يفضلون إرسال أبنائهم إلى المدارس القرآنية، في القرى والمدن على السواء، وهذا لادراكهم لدورها الكبير في اتقان أطفالهم اللغة َ العربية واكتساب قاعدة لغوية متينة لا يمكن أن تقدمها المدارس التحضيرية بحسب التجارب.