هاشم صالح

ينبغي أن نعترف بالحقيقة حتى ولو كانت جارحة: البلدان العربية والإسلامية عموماً لا تستطيع أن تتحمل حرية البحث في الشؤون الدينية بالشكل الكافي. هناك سقف معين لا يمكن تجاوزه. بالطبع هناك استثناءات. هناك بلدان أكثر حرية وتسامحاً من بلدان أخرى. ولكن عموماً فإن من يريد تكريس نفسه للتعمق في دراسة العقائد الدينية بكل حرية ينبغي أن يوطن نفسه على شد الأمتعة والأحزمة والرحيل إلى بلدان الغرب وجامعاته. وهذا ما حصل لثلاثة من كبار مفكري العرب والإسلام في العصر الحديث هم: الباكستاني فضل الرحمن، والجزائري محمد أركون، والتونسي عبد الوهاب المؤدب. وهذا ما سنتعرض له تفصيلاً فيما يلي.

فضل الرحمن.. من المنفى.. إلى المنفى
المفكر الباكستاني فضل الرحمن (1919- 1988): ولد في عائلة علم ودين وأدب في باكستان. فوالده مولانا شهاب الدين كان أحد علماء زمانه. وعلى يده تعلم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، بالإضافة إلى الفلسفة وعلم الكلام. ثم التحق بجامعة البنجاب، حيث تعلم اللغة العربية ونال شهادة الماجستير. وبعدئذ سافر في بعثة دراسية إلى إنجلترا وجامعة أوكسفورد تحديداً، حيث نال أطروحة الدكتوراه عن الفلسفة لدى ابن سينا. وعلى الرغم من اهتمامه الشديد بالفلسفة، إلا أنه كان منغمسا جدا في العلوم الإسلامية التقليدية، وبخاصة التاريخ وعلم الأخلاق. وما إن تخرج من جامعة أوكسفورد حتى أصبح أستاذا للفلسفة الإسلامية في جامعة درهام بإنجلترا من عام 1950 إلى عام 1958. ثم أصبح أستاذاً زائراً في معهد الدراسات الإسلامية بجامعة ماكجيل بكندا. ولكن في عام 1961 وبعد أن ذاعت شهرته استدعاه رئيس باكستان محمد أيوب خان لكي يعود إلى البلاد ويشرف على المعهد المركزي للبحوث الإسلامية في إسلام آباد. وكانت مهمة هذا المعهد مساعدة السلطة على إصلاح المجتمع على ضوء الروح الفكرية المستنيرة للمفكر الشهير محمد إقبال. والمقصود بإصلاح المجتمع هنا إصلاح برامج التعليم الديني بالدرجة الأولى. فقد كانت عتيقة بالية لا تليق بعصر الحداثة والتقدم. وبما أن الرئيس أيوب خان كان زعيماً متنوراً فإنه أسس هذا المركز من أجل بلورة توجه جديد للفكر الديني في الإسلام. ولكن البرامج البحثية التي قدمها فضل الرحمن للمركز لقيت معارضة شديدة من قبل المحافظين ورجال الدين المتشددين ذوي العقلية القديمة المتحجرة، بل وهاجمه بعض الشيوخ بعنف بعد أن ضعفت سلطة محمد أيوب خان، ولم يعد قادراً على حمايته منهم أو من براثنهم كما ينبغي. وعندئذ أطلق بعض الظلاميين فتاوى دينية تكفره، بل وتعتبره مرتداً عن الإسلام! هذا في حين أنه كان من أتقى الناس وأكثرهم طهارة وتمسكاً بالقيم الإسلامية النبيلة.
ووصل بهم التعصب إلى حد الدعوة صراحة إلى قتله، تنفيذاً للواجب الشرعي بقتل المرتد. وكل ذلك لأن تفسيره العقلاني والليبرالي المتنور للإسلام كان مختلفاً عن تفسيرهم الظلامي الذي عفا عليه الزمن. وعندما أحس بالخطر حمل حمائله فوراً وهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يحدث ما لا تحمد عقباه. وهناك عينوه أستاذا للدراسات الإسلامية في جامعة شيكاغو، وبدءاً من تلك اللحظة تفرغ كلياً للبحث والتدريس، وراح يصدر كتبه الكبرى تباعاً. ولولا أنه هاجر إلى أميركا لخسرنا بعضا من أهم الكتب التجديدية عن الإسلام وتراثه الكبير. نذكر من بينها: «الإسلام والحداثة» عام 1982. ثم: «الاحياء والإصلاح في الإسلام» (طبعة جديدة عام 1999)، ثم «المواضيع الكبرى الواردة في القرآن الكريم» (طبعة جديدة. عام 2009)، الخ..

أركون.. الخروج من الأقفاص والانغلاقات
المفكر الجزائري محمد أركون (1928 - 2010): عندما أنهى محمد أركون أطروحته لدكتوراه الدولة عام 1969 بدرجة الشرف الأولى كان أمامه خياران: إما أن يعود إلى الجزائر كأستاذ في جامعاتها وإما أن يبقى في فرنسا ويصبح أستاذاً في جامعة السوربون. وتردد للحظة على ما يبدو ولكنه فضل الخيار الثاني في نهاية المطاف. لماذا؟ لأنه أدرك بحدسه الثاقب أنه لن يستطيع إكمال بحوثه التجديدية الريادية عن التراث الإسلامي إذا ما عاد إلى الجزائر. فالتقليديون والمحافظون والإخوان المسلمون لن يتركوه مرتاحاً ولن يسمحوا له بالبحث العلمي والأكاديمي الحر عن موضوع حساس جدا هو موضوع الدين. هل يمكن أن يتركوه يصول ويجول بكل حرية في مشروعه الكبير: نقد العقل الإسلامي؟ مستحيل. المقصود هنا نقد العقل الإسلامي التقليدي المتزمت الذي يتمسكون به كل التمسك. وبالتالي فلولا أنه بقي في باريس لما استطاع إحداث كل تلك الثورة الفكرية التي أحدثها على مستوى العالم العربي والإسلامي كله.
نقول ذلك وبخاصة أن أركون ذهب في التجديد مسافة أبعد بكثير مما فعل فضل الرحمن. لقد كان راديكالياً أكثر منه دون أن يتخلى عن إعجابه بالإسلام وتراثه العظيم. فقد طبق المناهج النقدية الحديثة على التراث العربي الإسلامي وأضاءه بشكل غير مسبوق. نقصد بذلك المنهج التاريخي والمنهج اللغوي الألسني والمنهج السيميائي الدلالي والمنهج الاجتماعي والمنهج الانتربولوجي، ثم أخيراً التقييم الفلسفي. لو لم يبق أركون في باريس، حيث ينعم بجو الحرية الكاملة في التنقيب والبحث الأكاديمي والحرية الفكرية لما أتحفنا بكل هذه الكتب المتلاحقة عن التراث. نذكر من بينها: أولا أطروحته عن النزعة العقلانية والإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري/‏‏‏ العاشر الميلادي. جيل مسكويه والتوحيدي. 1970. ونذكر أيضا كتابه عن قراءات في القرآن. وصدر لأول مرة عام 1982. ولا ننسى كتابه الشهير الذي يشكل عنواناً عريضاً لكل مشروعه الفكري: «نقد العقل الإسلامي» 1984. ثم لا ينبغي أن ننسى كتابه الهام الصادر بالإنجليزية مباشرة تحت عنوان: «اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي المعاصر» عام 2002. ولا ينبغي أن ننسى أيضا كتابه الصادر تحت عنوان: «النزعة الإنسانية والإسلام»، عام 2005. فهو هام جداً ورائع بكل المقاييس. ثم أخيراً أود الإشارة إلى كتابه العظيم ذي العنوان الأساسي: «ألفباء الإسلام/‏‏‏ كيف الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة؟» العنوان الثانوي أهم من العنوان الأساسي. وذلك لأن كل مشروع محمد أركون الفكري يتلخص بهذه الكلمات الخمس القلائل: الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة. والمعنى واحد في نهاية المطاف. فالهدف هو: الخروج من العقلية القروسطية المتحجرة التي تهيمن على وعي المسلمين اليوم ولا يستطيعون منها فكاكاً. الهدف هو الخروج من الأقفاص المذهبية أو السجون الطائفية التي نجد أنفسنا محصورين داخلها منذ نعومة أظفارنا. الهدف هو الخروج من الانغلاقات اللاهوتية التكفيرية الإخونجية الداعشية التي تكاد تفجرنا كلياً حالياً وتفجر العالم معنا أيضاً.

المؤدب..نتاج دانتي وابن عربي
المفكر التونسي عبد الوهاب المؤدب (1946- 2014): هو أصغرهم سناً. وينتمي إلى جيل تلامذتهم أو حتى تلامذة تلامذتهم فيما يخص فضل الرحمن. ولكنه لا يقل أهمية عنهما من حيث النقد الراديكالي للعقلية التراثية، هذا إن لم يزد. فهو تنويري محض دون أن يتنكر لتراثه العربي الإسلامي الأصيل. وهو ذاته يعترف بأنه محصلة التنوير العربي والتنوير الفرنسي في آن معاً. إنه نتاج دانتي وابن عربي، الجاحظ وفولتير، ابن رشد وكانط، الخ.. إنه ينتمي إلى مرجعيتين ثقافيتين ولغتين وحضارتين. ولا يشعر بأي مشكلة من جراء ذلك. على العكس يشعر بأنه اغتنى كثيرا بهذه الازدواجية. كان عبد الوهاب المؤدب قد ولد في تونس العاصمة في أحضان عائلة عربية تنتمي في أصولها الأولى إلى الأندلس.
وربما لهذا السبب كان يعتقد أن ابن عربي هو جده الأعلى القديم. وقل الأمر ذاته عن ابن رشد وبقية العباقرة الذين أنجبتهم الأندلس الزاهرة.. على أي حال كان والده أستاذاً لعلم أصول الفقه في جامعة الزيتونة الشهيرة. بل وحتى جده كان أستاذاً لعلم القراءات القرآنية فيها. وبالتالي فهناك ابن المؤدب الجد وابن المؤدب الحفيد مثلما أن هناك ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد..
كان عبد الوهاب المؤدب هاجر إلى فرنسا لإكمال دراساته العليا في السوربون عام 1967 أي وهو في العشرين من عمره. وبعدئذ أصبحت إقامته الدائمة هناك. وفيها نبغ وألف كتبه الأساسية التي أمنت له شهرة عالمية وليس فقط عربية. كما وأصبح أستاذاً للأدب المقارن في جامعة باريس العاشرة الواقعة غرب باريس، ويقصد بالأدب المقارن الأدب العربي والأدب الفرنسي. وقد ترجم رائعة الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» عام 1983.
ثم كرس جهوده لاحقاً لمواجهة حركات الإسلام السياسي من إخونجية وسواها. وهنا خاض معركته الفكرية على مصراعيها. وكان أول كتاب كبير وأشهر كتاب يصدره هو: «مرض الإسلام». المقصود مرض الإسلام بهذه الحركات المتزمتة التي تجهل كلياً جوهر الإسلام وجوهر العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. ونال على هذا الكتاب جائزة الأكاديمية الفرنسية. ثم أصدر بعدئذ عام 2006 كتاباً ثانياً بعنوان: «مواعظ مضادة». وهو يعني به مواعظ مضادة لمواعظ الأصوليين، وأفكار مضادة لأفكارهم. وفيه يتعرض لموضوعات شتى ويشرح فهمه الدقيق للإسلام التنويري الليبرالي.
وفي عام 2008 يصدر عبد الوهاب المؤدب كتاباً ثالثاً بعنوان: «الخروج من اللعنة الأبدية: الإسلام ما بين الحضارة والبربرية»، وفيه يواصل معركته الفكرية ضد الأصولية والأصوليين. ويقول بأنه ينبغي أحيانا أن ينفصل المثقف عن قومه لكي يستطيع تشخيص المرض الذي ينخر فيهم من الداخل. المقصود مرض التعصب والكره للآخرين لمجرد أنهم يختلفون عنا في المذهب أو الدين. نقول ذلك وبخاصة أن هذا الموقف السائد حالياً مخالف لصحيح العقيدة والدين. فالقرآن الكريم يدعو إلى التعايش السلمي والأخوي بين مختلف الأقوام والشعوب لا إلى الكره والتباغض. جاء في الذكر الحكيم: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..» (الحجرات، 13).
وفي كتابه «رهان الحضارة، أو رهان على الحضارة» الصادر في باريس عام 2009 يقول عبد الوهاب المؤدب ما معناه: لا يمكن للمسلمين أن يخرجوا من مأزقهم الحالي إلا إذا استعادوا فتوحات العصر الذهبي التي قضت عليها أو طمستها ظلمات عصر الانحطاط. ولكن حتى فتوحات العصر الذهبي لم تعد كافية وإنما ينبغي أن نضيف إليها فتوحات الحداثة التنويرية الأوروبية. وهي تتمثل أساسا بالقانون المدني الحديث وشريعة حقوق الإنسان والمواطن المضادة لفقه القرون الوسطى الظلامي التكفيري.
أخيراً لا بد من الإشارة بسرعة إلى الكتاب الموسوعي الضخم الذي أشرف عليه عبد الوهاب المؤدب بالتعاون مع المؤرخ المعروف بنيامين ستورا (من أصل جزائري). عنوان الكتاب هو: «تاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين منذ البدايات الأولى وحتى اليوم». منشورات ألبان ميشيل. 2013. وشارك في هذا الكتاب الجماعي 120 باحثاً وباحثة من مختلف البلدان العربية والأجنبية. إنه مرجع أساسي لا بد منه لفهم الجذور العميقة للصراع العربي الإسرائيلي الحالي. 1152 صفحة من القطع الكبير. طبعة فاخرة. للأسف ليس مترجماً إلى العربية حتى الآن.