عز الدين بوركة

خرج الفن أول ما خرج إلى الوجود من الجدران، جدران الكهوف بالتحديد. فعلى الجدار استطاع الإنسان أن يخلد لما خبِره من صعاب ووحوش وما عاشه من حياة وما عرفه من عادات وغيرها... وبالتالي صانعاً أول أشكال التعبير الفني، من خلال تلك الرسومات التي رسمها مستعيناً بأصباغ طبيعية داخل الكهوف التي استوطنها هارباً من برودة ووحشية العالم الخارجي.
يتصل الفن بالجدار والإنسان إذن منذ أزمنة سحيقة وبعيدة، منذ أن سكن البشر الأوائل الكهوف والجبال. وقد ظل الفن متجذراً في الهوية البشرية وحاضراً في كل إنجازات الإنسان، خاصة في الشق المعماري. إذ لن نستطيع إيجاد حضارة إلا وقد زيّنت جدران مبانيها ومعابدها ومقابرها (الأهرام نموذجاً) ودورها برسومات، تختلف طبيعتها وأدوارها، إلا أنها تبقى ذات ملمح فني خالص. ما يجعل ثنائية الفن والجدار لم تنفصل قط مع التقدم الحضاري في كل الأزمنة، وإنْ اختلفت أشكال الحضور.

طابع ديني
الإنسان من حيث هو صانع للفن، ظل مهووساً بالجدار، كمسند وحامل لصوره وتعابيره الفنية. والتي كانت في البدء تحمل طابعاً دينياً، يسمح للبشر الأوائل للتقرب من أجدادهم وآلهتهم. وقد وجدت المسيحية أيضاً في الجدار دوراً مهماً لرسم «التعاليم الإنجيلية»، وتقريبها للمسيحيين غير المتعلمين، أما الإسلام فقد جعل من جدران المساجد عامرة بنقوش وتزاويق مجردة تحمل طابعاً روحانياً يتماشى مع الجمالية الإسلامية التي تتغنى بالطبيعة، باعتبارها فضاءً لتأمل خلق الله.
ورجوعاً إلى القواميس، نجد الجدار مرتبطاً بلغة بالثبات، أي البقاء على الحالة الأولى والاستقرار. وهذا ما كان يسعى إليها الإنسان الفنان الأول وهو يخلد لعالمه، حينما وضع يده الملطخة بالأصباغ الترابية على الجدار، أي أنه أراد أن يخبر الآتين من بعده بكونه ثابتاً وباقياً في مكانه، وإن على الأقل بشيء يخلّد له (بصمة يده في هذه الحالة). وإنْ أردنا التعمق أكثر لغوياً، سنعود إلى اللغة السنسكريتية، حيث نجد اشتقاقات الجدار (تايكوس) تدل على حائط المدينة والدور (أي تويكوس)، كما تدل على علامة الكتابة (ستويكوس). أي أنه المكان الأول الذي استطاع فيه الإنسان أن يُعلّمَ (من العلامة) أثره في الحياة، وأن يتعلَّم من الآباء والأجداد.

جداريات أصيلة
وإنْ كانت تحمل الجدران صفة الثبات والبقاء، ما يجعل العمل الفني يحمل في طياته الصفات نفسها، ويكون بالتالي غاية لتخليد شيء ما، أشخاص أو أحاسيس أو مناظر أو أحداث أو تظاهرات... وإن كان أيضاً الجدار يعني فيما يعني (العلامة)، فالعمل الفني لا يكاد يخلو من العلامات، إن لم يكن في حالة من الحالات «علامة» واحدة مكتفية بذاتها. لكن مع التقدم الحضاري والتقدم السريع الحاصل في عالم الفن، سقطت هذه الصفات عن العمل الفني، وبشكل من الأشكال سقطت عن الجدار، فلم يعد العمل الفني مع المعاصرة (أو ما بعد الحداثة) يسعى للخلود والثبات والبقاء، فقد غدا راغباً في الزوال والعبور والانفلات. ولم يعد يرغب في أن يصنع «علامة» معينة، فهو لا يخبرنا بأي شيء أحياناً، من حيث إنه مكتفي بذاته. وحتى وإنْ كان جزء من الجدران (الجدارية) فهو قابل للمحو والزوال، والفنان (الإنسان الصانع للفن) لم يعد يهتم ببقاء عمله كعلامة مروره في المكان. وهنا نستحضر موسماً عربياً مهماً، يعتمد هذا الطرح في تعامله مع الجداريات الفنية، يتعلق الأمر بموسم أصيلة، حيث إنه قد بلغ هذه السنة عمره 41، منذ سنة 1978 بلا انقطاع. ما يعني أن عدداً مهماً وكبيراً من الفنانين قد مروا منه، تاركين جدارياتهم على جدران المنازل وسور المدينة القديمة. إلا أن سمة هذا المهرجان تكمن في «المحو» الذي يحدث كل سنة جديدة، للجداريات القديمة. فمع كل محو يُسمح برسم عمل فني جديد، كأن إضمار عمل يعني إحياءً لآخر. وهذه الميزة تجعل من موسم أصيلة محجاً مهماً لفنانين عرب وأجانب كثر، استطاعوا أن يتركوا بصماتهم (جدارياتهم) التي تخلدها الصور الفوتوغرافية، ما يجعل من جدران أصيلة معرضاً في الهواء الطلق للفن المعاصر، إذ إن أهم سمة لهذا الأخير هي المحو والانفلات. وليس من باب الصدفة أن يكون أحد أهم الفنانين المعاصرين المغربية خليل الغريب، من أبناء هذه المدينة الساحلية، يهوى الاشتغال على العمل الفني المنفلت والزائل، إذ جل أعماله هي من المتلاشيات والمواد السريعة الزوال كالخبز والورق والأصباغ غير الدائمة وغيرها. وعموماً وارتباطاً دائماً بالفن المغربي، كنموذج عربي، فقد أخذت فكرة الجدار حيزاً مهماً في تاريخ الفنون التشكيلية المغربية، منذ البدايات الأولى...
وذكراً لموسم أصيلة لهذه السنة، كان لنا فرصة الاطلالة على مجموعة الجداريات التي اشتغل عليها فنانون مغاربة وأجانب، وهي جداريات استطاعت –في أغلبها- أن تتماشى والجو الساحلي والمشمس لمدينة أصيلة، كما مع الألوان البيضاء والزرقاء السماوية التي تشتهر بها هذه المدينة الصغيرة، حيث نلمس (على سبيل النموذج) اشتغالاً فنياً على موضوع الخروج من العتمة (الظلمة) نحو النور والبهجة، وذلك من خلال أعمال الفنان التشكيلي رشيد باخوز الذي عمل على طمس معالم الحروف التي مدّها على طول الجدار، مشتغلاً على ألوان زاهية تنبعث من خلفية قاتمة، في إشارة إلى ما تحمله الحياة من إمكانية زاهية وبهيجة، كما أن الحروف المطموسة هي دلالة قوية على تأصل الروح الخيرة والإنسانية في حضارتنا العربية التي تنفتح وتمتد إلى كل الحضارات الأخرى. وفي جداريته التي تطل على البحر، استطاع الفنان التشكيلي محمد المرابطي أن يركب بين صباغة والكولاج، مستعيناً بمزق وقصاصات أوراق الجرائد، مركباً كل مفرداته في عالم من الخطوط والمثلثات والألوان، معنوناً جداريته بـ «الأخبار»، في محاولة إلى تصوير العالم الذي يعيشه إنسان اليوم من تعدد لا متناهي لمصادر المعلومات.

الجرافيتي.. فن إحياء المدن
وإنْ كان يعتبر فن الجداريات فناناً يصنعه فنان معروف، فبالمقابل إن فن الجرافيتي هو فن يصنعه في الغالب فنانون مجهولو الاسم. وفي الوقت الذي كانت فيه تعتبر الأعمال الجرافيتية نوعاً من التخريب الذي كان من الممكن أن يعاقب عليه القانون، صارت مجموعة من المدن العربية تزخر بأعمال جرافيتية تملأ الجدران وتؤثث فضاءات المدينة. ما يجعل الفنان يدخل في علاقة مباشرة مع محيطه والمشاهدين الذي بدورهم يندهشون لرؤية جدران مدينتهم تُعمرها أعمال جرافيتية متنوعة تتخذ لها حضوراً ينطلق من صور الإنسان العربي أو مما تعرفه المدينة من صخب أو هدوء أو مميزات خاصة تميّزها عن بقية المدن الأخرى. وقد خرج فن الجداريات بالتالي من الموسمية التي كانت طاغية بفعل انفتاح مجموعة من المدن على هذا الفن.
إننا مع فن الجرافيتي، نخلق نوعاً من الانسجام بين الفن والمدينة، ما يجعل المواطنين العاديين يتصالحون مع الفن والصورة، ويخلقون بالتالي نوعاً من الألفة بينهم وبين الفنان وفنه. وليست من باب المصادفة أن يكون المعنى الذي يحمله مصطلح الجرافيتي هو «الكتابة على الجدران»، وقد كان المسعى منه ترك الرسومات أو الأحرف على الجدران أو الأشياء بطريقة غير مرغوب فيها أو من دون إذن صاحب المكان. يعتقد أن ممارسة الجرافيتي موجودة منذ قديم الزمان، أيام الحضارة الفرعونية والأغريقية والرومانية، تطور الجرافيتي عبر الزمن واليوم يسمى بالجرافيتي الحديث وهو يعرف بالتغيرات العامة لملامح سطح عن طريق استخدام بخاخ دهان أو قلم تعليم أو أي مواد أخرى. ونشأ فن الجرافيتي الحديث في الستينيات من القرن الماضي في نيويورك بالهام من موسيقى الهيب هوب. وقد عرف المغرب (كنموذج عربي) شكلاً أولياً منه منذ بدابات الحركات النضالية الأولى، والتي شبت بين الأحزاب اليسارية والنظام (المخزن)، أي منذ العقد السابع من القرن الماضي، إذ كان يتم كتابة بعض أسماء المناضلين الذين استشهدوا أو اختفوا على الجدران، في ظل ما عُرف بسنوات الرصاص. وقد وجد هذا التعبير الفني مكاناً مهماً له وسط الجماهير الرياضية التي كانت تستغل جدران المدارس والجدران المهجورة في الشوارع العمومية، لترك جملها التي تهاجم بها «خصومها». وقد أخذ الجرافيتي شكلاً نضالاً جديداً في المغرب، مع حراك 20 فبراير ما بين 2011 وأواخر سنة 2012، حيث كان يعمد الشباب المتحمس لنشر شعاراتهم المطالبة بالتغيير الاجتماعي والإصلاح السياسي على جدران المدن. إلا أن المغاربة اكتشفوه بشكل جدي وفني في مهرجان «بولفار الموسيقيين الشباب» الذي كان أول مهرجان يشجع ويعرف بكل الفنون البديلة والمعاصرة كالروك والفيزيون. أتاح مهرجان البولفار الفرصة لفناني الجرافيتي المغاربة للتعريف بفنهم على جدران «الباطوار» (مجازر قديمة تحولت إلى فضاء ثقافي وفني بمدينة الدار البيضاء). وبفعل هذه الموجة المتحمسة لتزيين وتغيير واجهات المدن، تم السماح لمجموعة كبرى من الفنان أن يتفاعلوا مع محيطهم عبر رسوماته الجدارية الكبرى.

الجدار العربي الفني
ليس المغرب البلد العربي الوحيد الذي فتح جدرانه للشباب المتحمسين للتعبير عن علاقتهم بمحيطهم، وليس هو الوحيد عربياً الذي استطاع فنانون أن يرسموا جداريات تجمع بين بصمتهم وبين ما ربطوه من علاقة مع محيطهم. فقد عرفت مصر زخماً كبيراً من الأعمال الجرافيتية خلال أحداث 25 يناير، للتعبير عن مطالبهم الاجتماعية والسياسية. بالإضافة لما عرفته لبنان حيث ما يميز فن الجرافيتي اللبناني أنه نما في جوّ من الحرية فخرج إلى العلن شخصياً ولاذعاً لا يترك أحداً «من خيره أو شره» حتى ذاته. نذكر من تلك الأعمال الجرافيتية هذه الأمثال، العمل الجرافيتي الذي يحمل اسم «نحن معك» والقول مقرون بمطبوع لميكي ماوس في الإشارة إلى الفتوى التي أحلت دم هذا الفأر. ومن المعارض نذكر المعرض الذي أقيم في «مركز بيروت للفن» تحت عنوان «الجدار الأبيض». احتضن هذا المعرض إلى جانب 19 فناناً لبنانياً فنانين من أميركا وأوروبا وجاءت الخلطة منمقة تحت رعاية رسمية رافقتها ندوات وورش عمل إلخ. ولا تستثنى الإمارات العربية المتحدة من الموجة الفنية التي اكتسحت العالم العربي، بالتحديد «جداريات متحف دبي»، حيث تم فتح جسر مترو دبي أمام فرش الفنانين لإطلاق العنان لمخيلاتهم، ما نتج عنه أعمال أبدعتها أنامل عالمية، وقد شارك فيها نخبة من الفنانين العالميين، المنتمين إلى مختلف المدارس الفنية، مثل الألماني كايس ماكلايم، والليتواني إيرنست زاتشاريفتش، والفرنسي سيث، والروسية جوليا فولتشكوفا، وغيرهم من دول متفرقة، وجدوا في تراث الإمارات ومحتواه الغني بالقيم والعادات والتقاليد العريقة مصدر إلهام لأعمال مميزة، عكست مدى تفاعلهم مع مكونات الموروث الثقافي الإماراتي.
إذ يمكن القول إن الجدار والفن هما متلازمان أبديان، كلما تطور الواحد منهما تكور معه الآخر ولازمه، وقد عرفت البلدان العربية، رغم قليل من التأخر، ملامسة كبرى لتطور الحاصل، وفتحت جدرانها وأطلقت العنان لرؤى وأحلام الفنانين للتعبير بكامل الحرية.