ألكساندر وايلد زميل رئيسي بمركز ويلسون في واشنطن للمرة الأولى خلال ما يزيد على نصف القرن، انتخب التشيليون رئيساً لهم من "اليمين السياسي". وعلى رغم حدة التنافس الانتخابي خلال الشهر الأخير من السباق الرئاسي، فإن فوز رجل الأعمال المليونير والسيناتور السابق "سباستيان بنيرا" كان متوقعاً. وفي حين يتجه اهتمام المعلقين والمحللين السياسيين للنظر إلى دلالة هذه الانتخابات الأخيرة، وما تعنيه بالنسبة لتشيلي وأميركا اللاتينية بأسرها، من المفيد أن نكرس الجهد هنا للنظر إلى الإرث السياسي، الذي خلفه الائتلاف الحزبي المنتمي إلى "يسار الوسط"، الذي هيمن على حكم البلاد خلال الفترة 2010-1990. وضمن ذلك علينا الإجابة عما يعنيه استمرار التشيليين في انتخاب ذات التحالف السياسي الحاكم العام بعد الآخر، طوال العشرين سنة الماضية؟ والإجابة أن هذين العقدين تطلبا ما هو أكثر من مجرد الممارسة السياسية العادية. فقد كانت تشيلي في أشد الحاجة لإعادة بناء الديمقراطية نفسها، بعد مضي 17 عاماً من حكم الجنرال الطاغية أوجستو بينوشيه، امتدت من عام 1990-1974. وساد خلال هذه الفترة نظام سياسي غير مسبوق في تاريخ تشيلي، سواء من ناحية طول فترة حكمه، أم وحشية الأساليب القمعية التي اتبعها، أم راديكالية الطموح السياسي لرموزه الطغاة. وفي مواجهة التيار "اليميني" الذي طالما التف حول الجنرال السابق بينوشيه، فقد كان على الائتلاف الحزبي، الذي حكم بعده أن يحكم البلاد بقدر عال من الكفاءة والديمقراطية. وهذا ما أوفى به الائتلاف "اليساري" بالفعل، إذ نجح في بناء مؤسسات ديمقراطية يعول عليها وتتسم بالشفافية والخضوع للمساءلة والمحاسبة، إضافة إلى نجاحه في التخفيف من وطأة ضعف البنية التحتية المادية والاجتماعية التي خلفتها الديكتاتورية السابقة. وعليه يمكن القول إن أهم تركة سياسية خلفها الائتلاف "اليساري" الحاكم سابقاً، هي تمكنه من جعل تشيلي أكثر حرية وديمقراطية وثراءً وحداثةً. غير أن هذه الدولة الأميركية اللاتينية الصغيرة، واجهت أزمة أخلاقية حادة في عام 1990، جراء انتهاكها المنظم والمستمر لحقوق الإنسان طوال فترة حكم الجنرال بينوشيه. وقد أسفرت العشرين عاماً الماضية من حكم الائتلاف "اليساري" الحاكم -خلال أربع حكومات متتالية- عن إحراز تقدم كبير في محو ذلك العار المخزي الذي خلفه ماضيها الأسود. فمنذ عام 2000 أدانت المحاكم الوطنية نحو 204 من المتهمين بجرائم حقوق الإنسان، بينما لا تزال التحقيقات مستمرة مع 325 آخرين. كما واجه بينوشيه وحده حوالي 300 تهمة على صلة بارتكابه لجرائم انتهاكات حقوق الإنسان، والاختلاس والتهرب الضريبي حين وفاته في عام 2006. وفي الاتجاه نفسه حولت رموز القمع الوحشي ومراكز التعذيب التي كانت تستغلها طغمة بينوشيه الحاكمة للتنكيل بالخصوم السياسيين مثل "فيلا جريمالدي"، وكذلك الجزء المخصص من مقبرة تشيلي للمقابر الجماعية، التي دفن فيها "المختفون" دون أسماء ولا عناوين، إلى متاحف ومواقع أثرية وطنية. إلى ذلك هناك ما يزيد على 100 موقع تذكاري على امتداد البلاد، أصبح يدل اليوم على مدى العزم الذي أبداه الائتلاف "اليساري" الحاكم سابقاً على تأكيد عدم تكرار حدوث هذه الممارسات القمعية الوحشية. كما أنشأت السلطات الحاكمة حينها، لجنتين رسميتين لتقصي الحقائق في عامي 1991-1990 و2004-2003 اضطلعتا بمهمة التوثيق الشامل لفظائع ووحشية القمع الذي مارسه نظام بينوشيه بحق المواطنين. ولم يكن ممكناً إحراز هذا التقدم دون وجود حركة قوية للدفاع عن حقوق الإنسان في تشيلي، مع العلم أن تلك الحركة كانت قد نشأت خلال أيام فحسب من انقلاب الجنرال بينوشيه في عام 1973. وعلى امتداد سنوات الديكتاتورية كلها، ظلت تلك الحركة بمثابة ضمير أخلاقي حي، ورمز للمقاومة التي كان لها قصب السبق في استعادة النظام الديمقراطي للبلاد. وعقب التحول الديمقراطي دفعت أسر الضحايا، بمساندة مجموعة صغيرة من المحامين العاملين في مجال حقوق الإنسان بالدعاوى القضائية المرفوعة وحرصوا على إبقائها حية، إلى جانب ممارستهم الضغوط المستمرة على السياسيين مطالبين إياهم بتحقيق العدالة ورفع الظلم عن الضحايا. ويعود الفضل في ذلك الإنجاز السياسي العدلي إلى جسارة القضاة الوطنيين الذين أعادوا للمؤسسة القضائية استقلاليتها وهيبتها، بعد أن فشلت هذه المؤسسة في الدفاع عن أبسط الحقوق الأساسية للمواطنين. وبسبب الأحكام العادلة التي أصدرها هؤلاء القضاة بحق جلادي الطغمة العسكرية، التي حكمت البلاد، فقد ساهم القضاة في أن تظل الجرائم التي ارتكبها الجلادون واضحة وضوح الشمس للرأي العام التشيلي. يذكر أيضاً أن لجنتي تقصي الحقائق، اللتين تم تأسيسهما بمبادرة من الرئيسين باتريشيو آيلوين وريكاردو لاجوس، تمكنتا من إرساء لبنة قوية للحقائق التاريخية. واستكملت هذه المبادرة بمؤتمر المائدة المستديرة المختص بالدفاع عن حقوق الإنسان Mesa de Dialogo الذي عقده الرئيس الأسبق فراي رويز-تاجيل. أما الرئيسة المنتهية ولايتها، ميشيل باشيليه -التي كانت ضحية للاعتقال والتعذيب في أيام عهد بينوشيه- فلم تكف عن السعي الدائم لجعل حقوق الإنسان أساساً للمصالحة الوطنية في بلادها. ولا شك أنها سوف تخلف وراءها معلماً تاريخياً بارزاً في تاريخ بلادها، هو "متحف الذاكرة" الذي تم افتتاحه للتو. بهذا نصل إلى القول إن رؤساء الائتلاف اليساري The Concertacion الأربعة الذين تعاقبوا على حكم تشيلي طوال العشرين عاماً الماضية، ساهموا في استعادة سيطرة المؤسسة الديمقراطية المدنية على المؤسسة العسكرية. وكانت هذه السيطرة بحد ذاتها، عاملاً رئيسياً ساعد القضاة كثيراً على محاكمة مسؤولي نظام الطاغية بينوشيه. كما يمكن القول إن حقوق الإنسان ظلت عامل وحدة بين ساسة الائتلاف "اليساري" الحاكم، حتى وإن كثرت خلافاتهم حول السياسات التي ينبغي التصدي بواسطتها لانتهاكات الماضي الوحشي الدموي وفظائعه. ختاماً: يعرف عن الرئيس المنتخب سباستيان بنيرا ابتعاده عن ديكتاتورية بينوشيه وعزمه على عدم تعيين أي من مؤيدي الطاغية في حكومته الجديدة. غير أن ذلك وحده لا يكفي، والمؤكد أنه سوف يواجه ضغوطاً قوية من قبل القوى "اليمينية" الأشد محافظة التي تقف خلفه. ومهما يكن، فإن عليه الحفاظ على الإرث الأخلاقي الذي خلفه الرؤساء الأربعة السابقون. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»