عندما يكون الفن بهجة للروح
لا أحسب أن هناك شهادة أكثر بلاغة في التعبير عن روحها المعطاءة ووجهها الإنساني، ولا ما هو أفصح في تجسيد وجهها الثقافي ووعيها البصري، وحبها للعمل الثقافي بشكل عام والفن بشكل خاص من الكلمات التي قالتها عن نفسها رداً على سؤال عن طبيعة المشاعر التي تتولد في أعماقها عندما تجد نفسها أمام عمل فني جميل، أو تقتني عملاً يأخذ مكانه في روحها قبل أن يحتل حيزاً في مكانها الجغرافي ليزين البيت ويشيع فيه موسيقى اللون وعذوبة الجمال المبصور.
تقول الشيخة شيخة بنت سيف آل نهيان رئيسة مؤسسة “تحقيق أمنية” الإماراتية وضيفتنا في هذا الحوار: “لعلها، وتعني لحظة اقتناء العمل الفني، إحدى أروع الأشياء التي أقوم بها، فما أجمل أن يعيش المرء في مكان ومن حوله تحف نادرة تعيده إلى زمن إبداعها وإنجازها. وأنا عموماً لا أقتني عملاً لندرته فقط، إنما أقتني العمل الذي يشدني، والذي يجد صدى في داخلي، وأشعر أنه يجتاحني من الداخل ويبهر قلبي قبل أن يسحر عيني، لكن عموماً تعجبني المدرسة الانطباعية، وأعمال الخزف، والحروفيات، وبعض الأعمال الحداثية، وأعتقد أن امتلاك عمل فني ساحر قبل أن يكون نادراً هو السحر بحد ذاته، وحين أشغف بعمل ما أعمل على اقتنائه لأنه يضفي شيئاً من البهجة إلى روحي”.
فاتحة القول.. بهجة
البهجة، نعم.. هذا هو السبب الذي يدفعنا إلى إسعاد الآخرين، والتصالح مع الذات يجعلنا نمد بيننا وبين من يحتاجون إلى عنايتنا “حبل وصال إنساني” يسمو بالروح إلى مدارج لا يعرفها إلا الواصلون.. والرغبة في إسعاد الآخرين كانت فاتحة القول في حوارنا معها والتي كانت أيضاً الميزة الخاصة لمعرض “افتح قلبك في الإمارات”، المعرض الذي عكس في وجه من وجوهه نبل الفن، فضلاً عن دوره في بناء الإنساني العقلي والنفسي والوجداني، وفي تعزيز هذا النوع من العلاقات المجتمعية البناءة عبر مؤسسة “تحقيق أمنية” الإماراتية التي تقوم سموها بالإشراف عليها ورعاية أعمالها ونشاطاتها المختلفة.
تقول الحكمة الأثيرة “أن تشعل شمعة خير ألف مرة من أن تلعن الظلام”، وهذا بالضبط ما تحاول الشيخة شيخة أن تفعله من خلال مؤسسة “تحقيق أمنية” الإماراتية، حيث تقول عن هذا المشروع وهدفه: “يأتي هذا المشروع الذي تم تحقيقه بين مؤسسة “تحقيق أمنية” و”أوبرا غاليري” في صلب ما ذكرته عن دور الفن، فكما أن للفن دوراً في بناء الإنسان فكرياً ونفسياً ووجدانياً، كذلك تلعب المشاريع الإنسانية والخيرية هذا الدور لكن بشكل آخر. ومن هنا فإن مؤسسة “تحقيق أمنية” أرادت أن تقول إن الفن يساعد في حماية إنسان، وفي إسعاد طفل، وفي تعزيز مفهوم التكاتف المجتمعي، وأنه بات بإمكان كل من يريد اقتناء عمل فني مهم أن يحقق أمنية طفل، وأن يضيء شمعة في عتمة أوجاعه، هذا ما أردناه، وهذا ما تحقق، والحمد لله”.
أبوظبي.. ودربها الثقافي
لم يكن ممكناً الإطلالة على العالم الفكري والاهتمامات الفنية للشيخة شيخة من دون الحديث عن النهضة الثقافية التي تشهدها الإمارات بشكل عام وأبوظبي بشكل خاص على أكثر من مستوى، خصوصاً على الصعيد التشكيلي.. للتعرف إلى نظرة سموها إلى هذا الحراك الثقافي وإلى أين يقود مستقبلاً، حيث ترى أن “ما شهدته الإمارات قبل أربعة عقود من حراك اقتصادي بالدرجة الأولى كان على درجة كبيرة من الأهمية، بحيث أسس لبنية تحتية قادرة على حمل مرتكزات الثقافة التي نتمنى الوصول إليها سريعاً، والتي بدأنا نقطف أولى ثمارها. صحيح أن هذه الثمار قد لا تكون ناضجة تماماً إلا أنها تؤكد أن بيئة الإمارات باتت خصبة، فما نشهده من تمازج شعوبي وثقافي في هذا البلد يشير إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي التواصل بين تلك الثقافات. ربما لم نصل إلى مفهوم التمازج بين الثقافات الموجودة هنا حالياً لكننا على الدرب سائرون، وسوف يقودنا ما نحن عليه الآن إلى ما وصلت إليه الدول المتقدمة والعريقة”.
هنا تبدو العاصمة أبوظبي مثالاً جيداً يوضح الفكرة كما تضيف سموها: “ولنأخذ على سبيل المثال العاصمة أبوظبي، كيف كانت وكيف أصبحت الآن كمنطقة جذب اقتصادي وسياحي ورياضي وثقافي أيضاً. فقد ارتأت حكومة أبوظبي ممثلة بصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، وبدعم من الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة أن تكون هذه الإمارة متميزة، فإلى جانب دعم مشاريع الإعمار، ها هي تثبت للجميع أنها معنية جداً بالثقافة، ليست العربية فقط، إنما العالمية أيضاً، فبدأت بتعريف العالم على الإمارات الحديثة، وعلى توجهها المعرفي والثقافي، فذهبت إلى الآخر لتقول له من هي بثقافتها وعاداتها وتقاليدها، وهدفها كسر الصورة النمطية التي ألصقت بالعربي، ثم بدأنا نراها تقيم شراكات على درجة كبيرة من الأهمية مع أكبر عواصم ومدن الثقافة، فمن باريس جلبت اللوفر، ومن أميركا جلبت غوغنهايم، وبالتالي بدلاً من أن يذهب العاشق للفن إلى هاتين المدينتين صار بإمكانه أن يأتي إلى أبوظبي ليشاهد عن قرب أهم الأعمال التشكيلية.
نعم.. لقد تمحورت رؤية حكومة الإمارات حول مد جسور الثقافة بين الغرب والشرق، بين المنطقة العربية والمناطق الأخرى من العالم، وهذا ما تحققه اليوم، وما سنراه خلال السنوات القليلة القادمة، وبالطبع سيقودنا هذا إلى مكانة مهمة”.
تغيير الفكر النمطي
جرى الحديث ويجري حول أهمية المشروعات الفنية الضخمة التي تقوم بها العاصمة أبوظبي ومن أهمها المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات، وثمة تساؤلات عن المردود المأمول من هكذا مشروعات، وكيف يمكن أن تنعكس إيجابياً على الفنان التشكيلي المحلي وعلى الحركة التشكيلية في الدولة.. وترى الشيخة شيخة بنت سيف آل نهيان أن حكومة أبوظبي “منذ إعلانها عن تلك المشاريع باتت محور حديث كل معنيِّ بالثقافة بمفهومها الشامل. أعتقد أن هذا المعنيّ كان مليئاً بالدهشة والانبهار وأحياناً بالتشكيك النابع من سؤال: “كيف يمكن لهذه المدينة الناشئة أن تقوم بهكذا عمل جبار”؟، لكن أبوظبي أثبتت أنها قادرة على إنجاز مثل تلك المشاريع التي سيكون لها أثر كبير في تعزيز دور الثقافة في المنطقة، وبالتالي تغيير التفكير النمطي بالفنون التي هي خلاصة فكر وعمل الإنسان، والشاهدة على تقدمه.صحيح أن الإمارات تستورد تلك الأعمال الفنية من بلدان أخرى، غير أنها في الوقت ذاته تفرد مساحة أكبر للفنانين الإماراتيين، وتعطيهم الفرصة ليكونوا عالميين، وتسهل لهم الظروف للالتقاء بالفنانين من مختلف الدول، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير يحسب لها، ومن شأنه أن يعزز ثقة الفنان الإماراتي بمنجزه الفني الذي يقدمه، ومن شأنه أن يثري الساحة التشكيلية في الإمارات، وكما أن الإمارات حاضرة في أهم المعارض والملتقيات التشكيلية، فإن أهم المعارض أيضاً صارت حاضرة هنا”.
المال والفن.. أي علاقة؟
تطرح مسألة العلاقة بين المال والفن بين الفينة والأخرى على بساط البحث، وفي التجربة الإماراتية ما يقدم نموذجاً ضافياً على الدور الذي يمكن أن يلعبه رأس المال الخاص في خدمة الفن والإسهام في انتشار الذائقة الفنية السوية في المجتمعات، فالإمارات، والحديث هنا للشيخة شيخة بنت سيف آل نهيان، “تستثمر في بناء الإنسان، وتضع إمكانياتها في سبيل تطوير معارفه على جميع الأصعدة، ومنها بالتأكيد مايتعلق بالفن بمختلف جوانبه. وأستطيع القول إنه بإمكان رأس المال الخاص أن يسهم في انتشار الذائقة الفنية إذا كان مدركاً أهمية الاستثمار في عالم الفن، فانتشار صالات العرض، وإقامة المعارض، وخلق روح المنافسة بين الفنانين من خلال المهرجانات المعنية بالفنون التشكيلية والبصرية كل هذا يساهم في تحريك رأس المال الخاص، ويساعد في إيجاد حراك فني على سوية عالية، وعلى المدى الطويل نسبياً سوف نصل بالفعل إلى مفهوم “المال في خدمة الفن الراقي”.
ندرة نقدية
وفيما يخص عدم مواكبة النقد الفني للمنجز الإبداعي على صعيد الفن التشكيلي، وهي معضلة عربية بامتياز، تفرق الشيخة شيخة هنا بين الدول العربية وبين الغرب.
تقول: “ربما يصح هذا الكلام في العالم العربي، فما يبدعه الفنانون التشكيليون أكثر وأكبر وأهم مما يكتب عن أعمالهم، وذلك لأن هناك ندرة عربية في عدد النقاد الحقيقيين الذين تخصصوا في هذا الجانب من العلوم، لكن في الغرب النقد أهم بكثير، وهو قائم على علم وعلى معرفة وعلى تفكيك وتحليل موضوعي للعمل الفني. والأمر الذي يؤثر في ذلك سلباً أو إيجاياً مدى توافر الأعمال التشكيلية من حولنا ومدى استفادة النقاد من البيئة الفنية التي توفرها الإمارات والتي تساعد على تقديم الأعمال النقدية ذات السوية العالية والمتوازية مع إنجازات الفنانين”.
شغف ورقي
في وقت تتراجع فيه معدلات القراءة الورقية أمام زحف الإنترنت والإقبال على القراءة الإلكترونية خاصة لدى الشباب، تنحاز الشيخة شيخة إلى الورق، إلى هذا الشغف الجميل الذي ينفتح في الروح حين نفتح كتاباً ورقياً، والتي تراه جزءاً من طقس القراءة عند كل من يعشقون أن ينهلوا من الكتاب الورقي.
ولا تبدو سموها قلقة حيال انحسار الكتاب الورقي، ولا خائفة عليه أن يصبح نسياً منسياً كما يقول بعض المثقفين والناشرين والمشتغلين في الحقل الثقافي، بل وتؤكد أنه “لا يمكن أن يصبح الورق أصلاً نسياً منسياً بأي حال من الأحوال، فكيف بالكتاب إذن؟!، وما نراه اليوم أكبر دليل على ذلك، فها هي المخطوطات العربية والإسلامية واللاتينية أيضاً حاضرة بيننا، رغم مرور قرون عليها، ويعاد طبع معظمها في يومنا هذا. إن تصفح الكتاب، المجلة أو أي مطبوعة أخرى لها متعتها المرتبطة بطقوس مارسها الإنسان منذ آلاف السنين والتي لا يمكن أن تعوضها شاشة الكومبيوتر مهما كانت أهمية ما يعرض عليها. وإذا كان الكتاب الورقي سينتهي فلماذا تقوم أهم الدول على تحسين صناعة المطابع، وتطوير الطباعة الورقية؟.
أخيراً.. بقيت الإشارة إلى أن الشيخة شيخة هي منذ فترة من هواة الفنون التشكيلية، وتعرفت كهاوية على بعض مدارسها وأهم فنانيها، وأهم مواطنها كما تقول، لكن هذه الهواية لم تأخذها من اهتمامات أخرى أهمها القراءة، وهي تقرأ في مختلف الموضوعات المعرفية والأدبية، ومنها الأعمال الروائية والقصصية لكتاب عرب وأجانب والتي تقربها، حسب قولها، من عوالم كتَّابها، ومن وعيهم بالمحيط، وتطلعها على كم الإبداع الموجود في هذا العالم.
من يوميات طفل لا يزال قادراً على أن يحلم
في تقديمها للمعرض كتبت الشيخة شيخة بنت سيف آل نهيان هذه العبارات:
“غاب نهار آخر... زادت أيام شقائي نهاراً.. ودنت نهاية الرحلة نهاراً.. وتسرب الأمل كحبات الرمل في الكف.. لم يبق لي غير الصبر.. ورصيد من المعاناة يتراكم.. وشمعة تذوي.. وألم يستنسخ كل يوم.. وحياة لا تطاق.
لم يبق سوى دقات الساعة!، دقات الساعة ترعبني.. تقربني من موعد أتمنى أن أتخلف عنه.. تدنيني من ألم أعجز عن تحمله.. وتقذفني إلى غد أخشى ألا يكون له غد.
***
ويخبو الأمل.. لكني أتشبث بحقي في أن أحلم.. فألملم شظايا أحلامي المبعثرة.. أمسح بأناملي عنها الغبار.. أتأمل أمنياتي تلك.. أحدثها.. والحديث شجون.. أعتذر عن إهمالي لها.. فترنو إليّ بملامح ابتسامة ساخرة.. وأكاد أقسم أني سمعت أمنياتي تهمس لتقول: “أيحق لمثلك أن يحلم؟”.
أحلم..!
نعم! فمن له الحق بأن يصادر أحلامي؟
أحلم!! ولكن..
من يكترث بأمنيات الراحلين؟
أحلم..!
وهل أجرؤ؟
فيهمس ضمير إنساني.. أن “أطلب وأتمنى”.. ترددت.. تجرأت.. وفعلت.
***
وجاء ذاك النهار..
في غد كنت فيه - ككل غد - أرتعد خوفاً من مصيري فيه..
في ذلك النهار..
امتدت إلى بقايا ملامحي الإنسانية أنامل الرحمة، لترمم ابتسامة كانت قد ذبلت على الوجه.. ولتملأ القلب بهجة تزيح عنه ما استوطنه من يأس.. وتزرع في بيادر الفؤاد دوحة حنان يستظل بها عندما تتلبد الأفكار بغيوم من يأس وإحباط..
امتدت يد لتلون أحلامي بفرشاتها.. وتهمس كلمات سحرية.. فإذا بالأمنية تتحقق.. وإذا بالحلم يغدو حياة.. وموطناً ألجأ إليه هرباً من حياتي الذابلة..
***
واليوم.. وغداً.. وبعد غد.. أقول:
إن كان لقدري أن يخط كلمة الوداع في غدي.. فمن سينسى من رسم ابتسامة على هذه الشفاه اليائسة.. في وجوه الراحلين؟.
شيخة بنت سيف آل نهيان