محمد عريقات (عمّان)

سلمى الخضراء الجيوسي (1928)، شاعرة وناقدة وباحثة، عاهدت نفسها على الاستمرار بمشروعها الأدبي والثقافي، في فترة زمنية لم تكن لتتقبل بعد من المرأة أن تكون ناشطة في محيطها الاجتماعي والثقافي، ولكنها كما تقول عن نفسها لم تلتفت ولو مرّة واحدة إلى الوراء، رغم العقبات والهجمات التي سعت إلى إحباط مشروعها، فواصلت مشروعها البحثي لإنقاذ الثقافة العربية من التهميش الذي كانت ترى أنها لا تستحقه، وسعت لتبرهن للآخرين على أهمية الثقافة العربية وقيمتها، وساعدت على إعادة الثقة إلى قلوب الشبيبة العربية بأهمية موروثهم، والدور الذي لعبه في الحضارة الإنسانية.
وحول ذلك، تقول سلمى الخضراء، التي تقارب على المئة عام من العمر: «رميت كل شيء آخر وراء ظهري؛ وكانت تتوالد الأفكار في مخيلتي، فأسجلها في ضميري ثم أسعى إليها واحدة بعد الأخرى. وحققت أغلبها على امتداد الزمن، ولو عانق العرب المسؤولون الغاية التي سعيت إليها لحققت أضعاف ما حققت. كنت أكاد لا أنام ولا ألجأ إلى التسلية والراحة على الإطلاق. كيف يرتاح القلب إلى مشهد الخراب وتهم التخلف واللاإنجاز؟ كيف يأنس في الحياة وهي مهانة؟ كيف يرضى القادر على حماية، ولو شيءٍ من السمعة والكرامة والحق، أن يتخلف عن ذلك لحظة واحدة؟ وما معنى كل وزارات الثقافة العربية إذا هي لم تتحدَّ أوضاع الثقافة العربية المتردية في العالم؟ ولكني لم أستسلم لليأس لحظة واحدة، بل صبرت وأنجزت، وأنا أقول: سيجيء يوم يرون رؤياي، ويشدون أزر هذا العمل بكل قواهم مع آخرين يجيئون بعدي. وأظن أن ثمة تحركاً هنا وهناك يبشر بالخير».
ولدت سلمى الخضراء الجيوسي، صاحبة الديوان الشعري «العودة من النبع الحالم»، في مدينة السلط الأردنية لأب فلسطيني وأم لبنانية، هاجرت بعدها العائلة إلى القدس، وتلقت سلمى الطفلة تعليمها في مدرستها، ومن ثم انتقلت للدراسة في الجامعة الأميركية ببيروت، الأدب العربي والإنجليزي، وفيها برزت كشاعرة وناقدة ومترجمة، حيث حملت رسالتها الجامعية عنوان: «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث»، ونالت عليها شهادة الدكتوراه عام 1970 من جامعة لندن.
هدف مشروعها إلى نقل الثقافة العربية إلى العالم الناطق بالإنجليزية، بالتعاون مع عدد من الأساتذة في جامعة ميتشغان، وأطلقت عليه اسم «بروتا»، حيث بدأت تظهر إصداراته عام 1980، وصدر عنه أكثر من خمسين مجلداً باللغة الإنجليزية. وفي عام 1990 أطلقت مشروعها الثاني، وهو «رابطة الشرق والغرب» وهدفت من خلاله إلى تقديم الحضارة العربية والإسلامية قديماً وحديثاً باللغة الإنجليزية، من أجل إزالة المفاهيم الخاطئة والآراء النمطية عن ثقافات العالم العربي/‏‏‏‏ الإسلامي، المشروع الذي صدر عنه كتابها حول الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس عام 1992، ثم كتابها الموسوعي «حقوق الإنسان في الفكر العربي: دراسات في النصوص». وقد كُرّمت سلمى الخضراء الجيوسي، على جهدها البحثي والأدبي من معظم دول العالم، وكان آخرها منذ أيام قليلة، حيث تم تسليمها وسام الثقافة والعلوم والفنون الممنوح من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وشارك في حفل التكريم، الذي أقيم في رابطة الكتاب بالعاصمة الأردنية عمان، بحضور وزير الثقافة الفلسطيني الدكتور عاطف أبوسيف، رئيس الرابطة الباحث محمود الضمور، والشاعر مراد السوداني أمين عام اللجنة الوطنية للثقافة والعلوم في فلسطين.
وفي الحفل، قالت سلمى الخضراء الجيوسي في كلمتها: «الفعل الثقافي الذي لاحقته عبر عقود من الزمن، كان بسبب إدراكي لخطورة وضعنا، وأهمية الدور النهضوي والنضالي الذي يمثله الفعل والعمل الثقافي. لقد خلخل الاستعمار ثقة الكثيرين منا بثقافتنا الحضارية، وهذا برأيي سبب أساسي في الضعف السياسي الذي نراه في العالم العربي. لقد غيّب الجهل العام بالإرث الحضاري قدرةَ الفرد العربي على أن يجمع بين هذا الإرث الإنساني الغني جداً، وحداثة علاقة متجددة تساعد في إرساء بوصلة التحرر الضرورية لإنقاذ وطننا ومستقبلنا».