كان حجر في بني أسد، وكانت له عليهم إتاوة في كل سنة مؤقتة، فغبر ذلك دهراً، ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجبيهم، فمنعوه ذلك - وحجر يومئذ بتهامة - وضربوا رسله، وضرجوهم ضرجاً شديداً قبيحاً· فبلغ ذلك حجراً فسار إليهم بجند من ربيعة وقيس وكنانة، فأتاهم وأخذ سراتهم، فجعل يقتلهم بالعصا، وأباح الأموال، وصيرهم إلى تهامة، وآلى بالله ألا يُساكنوهم في بلد أبداً، وحبس منهم عمرو بن مسعود الأسدي، وكان سيداً وعبيد بن الأبرص الشاعر، فسارت بنو أسد ثلاثاً· ثم إن عبيد بن الأبرص قام فقال: أيها الملك؛ اسمع مقالتي: يا عين فابكي ما بني أسد فهم أهل الندامة أهل القباب الحمر والنـ ــــعم المؤبل والمدامة وذوي الجياد الجرد والـ ـأسل المثقفة المقامة فرق لهم حجر حين سمع قوله؛ فبعث في أثرهم فأقبلوا، فركبوا كل صعب وذلول، حتى أتوا على عسكر حجر فهجموا على قبته، وأسروه فحبسوه، وتشاور القوم في قتله؛ فقال لهم كاهنٌ من كهنتهم بعد أن حبسوه ليروا رأيهم فيه: أي قوم! لا تعجلوا بقتل الرجل حتى أزجر لكم· فانصرف عن القوم لينظر لهم في قتلهم؛ فلما رأى ذلك عِلْباء بن الحارث الكاهلي خشي أن يتواكلوا في قتله، فدعا غلاماً من بني كاهل - وكان ابن أخته - فقال: يا بني؛ أعندك خير فتثأر بأبيك! فلم يزل بالغلام حتى حرَّبه، ودفع إليه حديدة قد شحذها، وقال: ادخل عليه مع قومك، ثم اطعنه في مقتله· فلما رأى الغلام غفلة وثب عليه فقتله· ولما طعن الغلام حجراً ولم يجهز عليه أوصى ودفع كتابه إلى رجل وقال له: انطلق إلى ابني نافع - وكان أكبر ولده - فإن بكى وجزع فاله عنه، واستقرهم واحداً واحداً، حتى تأتي امرأ القيس - وكان أصغرهم - فأيهم لم يجزع، فادفع إليه سلاحي وخيلي وقدوري ووصيتي، وبين في وصيته من قتله، وكيف كان خبره· فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضعه على رأسه، ثم استقرأهم واحداً واحداً، فكلهم فعل ذلك، حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يلاعبه بالنرد؛ فقال له: قتل حجر؛ فلم يلتفت إلى قوله· فقال له امرؤ القيس: اضرب فضرب، حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك· ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره، فقال: حرمت على الملذات حتى أقتل من بني أسد مائة وأجز نواصي مائة· وكان امرؤ القيس قد طرده أبوه حجر، وآلى ألا يقيم معه أنفة من قوله الشعر - وكانت الملوك تأنف من ذلك - فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب· ثم قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً· وارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكراً وتغلب، فسألهم النصر، وبعث العيون على بني أسد، فلما كان الليل قال لهم علباء: يا معشر بني أسد، تعلمون والله أن عيون امرئ القيس قد أتتكم، ورجعت إليه بخبركم، فارحلوا بليل ولا تعلموا بني كنانة، ففعلوا· فتبع بني أسد، ففاتوه ليلتهم تلك، وأدركهم ظهراً، فنهد إليهم فقاتلهم، حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد· فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوه، وقالوا له: قد أصبت ثأرك فاستأجر من قبائل العرب رجالاً، فسار بهم إلى بني أسد، وتفرقت حمير ومن كان معه عنه، ونزل ببعض رؤساء القبائل يستجير بهم، وصار يتحول عنهم إلى غيرهم، حتى نزل برجل من بني فزارة، يقال له: عمرو بن جابر بن مازن، فطلب منه الجوار· فقال له الفزاري: يا ابن حجر، إني أراك في خلل من قومك، وأنا أنفس بمثلك من أهل الشرف، وقد كدت بالأمس تؤكل في دار طيئ، فاذهب الى السموءل بتيماء، هو يمنع ضعفك حتى ترى ذات عيبك، وهو في حصن حصين وحسب كبير· ثم مضى القوم حتى قدموا على السموءل، فأنشده الشعر، وعرف لهم حقهم، ثم إنه طلب أن يكتب له إى الحارث بن أبي شمر الغساني ليوصله إلى قيصر· ومضى حتى انتهى إلى قيصر، فقبله وأكرمه، وكانت له عنده منزلة· ثم إن قيصر ضم إليه جيشاً كثيفاً، فيه جماعة من أبناء الملوك، فلماذهب الجيش قال لقيصر قوم من أصحابه: إن العرب قوم غدر، ولا تأمن أن يظفر بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه· فبعث إليه حينئذ بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك؛ فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إليّ بخبرك من منزل منزل· فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها؛ فأسرع فيه السم وسقط جلده فلما صار إلى بلدة من بلاد الروم تدعى أنقرة احتضر بها فقال: رب جفنة مثعنجره وطعنة مسحنفره تبقى غداً بأنقره ورأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك، فدفنت في سفح جبل يقال له: عسيب، فسأل عنها، فأخبر بقصتها، فقال: أجارتنا إن المزار قريب وإني مقيم ما أقام عسيب ثم مات فدفن هناك·