ناصر جبران.. بحر الصورة ولغتها
لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموماً، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح متكئاً لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون..
هنا إطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس.
ماجد نورالدين
صنّفه بعض النّقاد ضمن قائمة الشعراء الجديد في المشهد الثقافي الإماراتي، والتي تضمّ قائمة كبيرة من المبدعين المحليين من بين أسمائها: حبيب يوسف الصايغ، عارف الخاجة، أحمد راشد ثاني، كريم معتوق، سارة حارب، وآخرون. كما صنّفه عدد من النقاد في مجال كتابته للرواية والقصة القصيرة ضمن قائمة الكتاب الذين ارتبطوا ببيئتهم المحلية ارتباطاً وجدانياً وثيقاً، وبخاصة المكان (البحر)، بحيث شكّل “ثيمة” أساسية وحضوراً روحياً وتاريخياً في أعمالهم تحت مظلة (الأدب الملتزم)، المعني بتحقيق معادلة الأصالة والمعاصرة، على نحو الاختصاص الذي تكرّس في أعمال نجيب محفوظ التي التصقت إنسانياً ووجدانياً واجتماعياً وسياسياً بنموذج (الحارة) معنى وتأسيساً وفكراً وحالة اجتماعية، ويأتي في مقدمة هؤلاء الكتّاب: عبد الحميد أحمد، سلمى مطر سيف، مريم جمعة فرج، أسماء الزرعوني، علي أبو الريش، ناصر الظاهري، وآخرون. نتحدث باختصار شديد عن الشاعر والقاص الإماراتي ناصر سلطان عبد الرحمن جبران، وهو صاحب تجربة حافلة ومتعددة الاتجاهات ويستمد قوة تأثيره من غنى إيقاعاته وتوظيفه عناصر المشهد اليومي والذكرى وغموض التفاصيل لإنجاز نصّ يستخدم السرد وتشكيلاته بكثافة بارزة. في مجال قصيدة النثر تفرّد جبران عن أبناء جيله بإثارة سؤالين مهمين هما: سؤال “التشخيص”، وهو عنصر فنّي يعطي القصيدة أبعاداً جديدة، بل ويجعل منها كائناً فنياً أكثر صحة وسلامة وعمقاً وتوهجاً. والسؤال الثاني يتمثل في “الحوار” بنوعيه، الخارجي الذي يدور بين شخصين، والدّاخلي الذي يمثل حواراً ذاتياً بين الشاعر وداخله، أو ما يعرف في فن المسرح بـ”المونولوج”، بحيث يدعم هذا الاستخدام بوضوح خروج القصيدة الجديدة من الأفكار المجرّدة العامة إلى التجارب التي تتجسد في شخصيات ونماذج، ومن أمثلة ذلك ما جاء في قصيدته المعنونة بـ”ماذا لو تركوا الخيل تمضي”:
“بلعت جفاف الرّيق/ وأحسست الصفحات أفاعي تسكن/ صدري/ وجبالا تشطر حلقي، فتبعّد ما بين الشّفة السفلى والعليا/ وشعرت بشيء كالغثيان/ يكبر في أحشائي.. يتفجر/ يطفر كالسيل الخارق/ لا يثنيه السّل الممتد/ تجشأت بعسر.. تقيأت/ شلالا يمرق كالبحر/ لن تهزمه سحب الزيف.. لن تقهر/ ماض كي لا يرتد/ تلمست شفتي بأناه/ آه ما أسعدني/ جميل أن يترك للمرء لحظات قبل الشّنق/ يتنفس فيهل/ يختم مضمون وصيته/ بعبارات ينادم فيها خلجات/ النفس”.
وكما يبدو من قراءة هذا المجتزئ من القصيدة، نجد توافر عنصر “الحكاية السردية” الذي يتجاوز النمط الغنائي إلى “بوح” إنساني، لا يبتعد كثيرا عن نمط القصيدة الدرامية ذات الإيقاعات المستقلة، وذات الأحداث والصور الفنية المتداخلة والمتطورة، كما نجد نوعاً جديداً من استخدام الحوار الذي يرد على لسان الشاعر نفسه في القصيدة، ويشكل عنصراً أساسياً في بنائها الفني، ولعل هذا الأسلوب هو الأقرب إلى مناخات الشاعر الكبير نزار قباني.
وفي ذات القصيدة ستجد توظيفاً جميلاً لأسلوب التناص، وهو كما نعلم استخدام مبكر في القصيدة الحديثة، لكن جبران يضمن لقصيدته تناصاً من نوع آخر، مثقل بروح التاريخ السحيق، كما يستلهم جانباً من التراث الإنساني، على نحو ما نجده في هذا المقطع:
“كانت بنتا شرقية/ خلّفها الفينيقيون هناك/ عند شواطئ بيبلوس تغتسل/ أشرعة جالت حوض البحر المتوسط/ نشرت حبا وسلاما/ كانت مهدا للأحلام.. للأيتام/ قمرا يغفو فوق سرير الليل/ كان نبي الفقراء/ يذرع أرض الشام برمّتها/ مهدور دمه من قحطان ومن عدنان/ وكل فخوذ الأسر العربية/ تتجمع خلف ثراه.. تتبع ظله/ رايات صعاليك البدو المنسيين/ سهوا من قائمة زكاة الفطر.. تناصره”.
لا بد من الإشارة إلى أن هذه القصيدة المحكمة لا تستمد ثراءها الدلالي أو الفني من لغتها فقط، فاللغة هنا تطفح بالكثير من المعاني والرموز، لكن براعة التكوين والنسيج القصصي يكمنان في الواقع في الشكل المدهش التي تأطرت داخله الصور والمعاني المغرقة في الزمن، لكنها استخدمت بصورة معاصرة تجعل السرد فيها يتحرك بأكثر من وظيفة ويبث رسائل متعددة يقوم فيها السرد الوصفي في الغالب بالعبء الأكبر منه، وشرارة الشعر في هذه القصيدة لا تندلع من لغتها وصورها بل من بنيتها السردية أيضا، وهكذا تصبح الصور الحسّية للكلمة ذات معنى مهم ودلالي بالنسبة للمتلقي، إنها صور مفعمة بالخيال الخصب أيضا دون اكتظاظ للمعاني، حيث تلعب المفردة الواحدة عند جبران دوراً مهماً في استطالة الصورة الفنية الحافلة بالتموجات التي تفصح عن مهارة عالية لدى الشاعر في بناء ومضاته التي تقود حتما إلى حالة شعرية مكتملة.
البحث عن الهوية
حينما نتحدث عن ناصر جبران كروائي لا نعرف لماذا يتوارد في الخاطر الربط بينه وبين نجيب محفوظ سواء على المستوى الحياتي، أو على المستوى الكتابي وفنيات القول القصصي، وبخاصة حرصه الشديد على أن تمسك موضوعاته بالبيئة المحلية، فهو مراقب يقظ، ينظر بعين فاحصة لكل ما يدور في مجتمعه من تغيرات في خضم مجتمع متحول كالمجتمع الإماراتي، حيث تنزاح قيم أصيلة جميلة، أمام طوفان القيم الجديدة التي أتت بها التحولات العاصفة. أما الذين يعرفون الكاتب صاحب المواهب المتعددة كإنسان، فيدركون أهمية (المقهى) في حياته، حيث كان مثل هذا المكان يمثل بالنسبة له صالوناً أدبياً، يعكس مدى قربه من الأصدقاء والناس والبيئة الشعبية المحلية، إلى جانب ما تختلط به أصوات فناجين الشاي والقهوة بأصوات المتحدثين في شؤون الحياة والأدب والسياسة، بحيث يفضي ذلك كلّه إلى تكوين أفكار وتوظيف معنوي أو مقدمات لأعمال روائية أو شعرية نابعة من روح الحياة والمكان، وبهذا الإيقاع جاءت روايته الوحيدة “سيح المهبّ”، لتؤسس وتنسج من جنبات “المقهى” حكاية مجموعة من الشخصيات، يتحدث عنها الراوي ويرصد حياتها المتحولة كقراءة موازية، تماما كما يعبر شريط سينمائي أمام المشاهد، ولكن جبران هنا ليس مشاهداً أو مراقباً محايداً، إنّه يرى ما هو أبعد من عوالم البشر القابعين على مقاعد متجاورة في مكان يعج بأشخاص من جنسيات مختلفة، ضائعون في زحام مدينة كبيرة قديمة، في تعبير تحذيري نحو مشكلة التركيبة السكانية، وفي لغة جميلة شفافة يعبرّ الكاتب عن وجهة نظره من خلال أحد أبطال الرواية: “رجعت لأحضان التراب المترامي والفضاء الذي لم تتوغل إليه مخالب المدينة.. أبصرت من بعيد أشجار الغاف المتناثرة في هذا التيه وهي تحرس الكثبان وتتطاول برؤوسها مثل نساء حاسرات قذفت بهن الظهيرة فخضن راجفات في ماء السراب الشفيف”.
كتب الدكتور حسن مدن حول الرواية تحت عنوان “مقهى ناصر جبران” بقوله: “في المقهى ستستعيد شخوص “سيح المهب” مسار حياتها السابق، حيث يمسك الكاتب بأيادينا على مهل ليعرفنا بالمسارات الغامضة التي شكلت حياة هذه الشخوص وقذفت بهم إلى مصائر صعبة، لكنهم يظلون مسكونين بالحنين إلى فسحة الألفة التي طواها الزمن في حركته السريعة”.
سمات الشخصية الخليجية
توظيف المكان (المقهى) في الرواية يمثل ملاذاً آمناً للشخصيات، ليصبح مع الكشف عن حالاتها النفسية أداة تعبيرية عميقة الدّلالة في تشريح المشكلة الإنسانية الواقعية في سياق المكان كاستشراف، أشبه بعنصر كاشف لما سيواجه هذه الشخصيات لدى مغادرتها المكان، أما الكاتب فيحمل في داخله شحنة غاضبة باتجاه العلاقات الإنسانية المعقدة، فكان عليه الغوص في عوالم فئات اجتماعية متنوعة بعضها من الشرائح المسحوقة تحت عجلات المدينة، والمغري هنا ليس في إعادة طرح قضية التركيبة السكانية بقدر ما هو توظيف لهذه المسالة بحيث تصبح ورقة إدانة للقيم الجديدة المؤثرة سلباً على موضوع الهوية الوطنية والثقافية، وتمتاز صياغة مشاهد الرواية بجرأة عالية في اللغة والتعبير ومناقشة قضية واقعية ما زالت آثارها ممتدة حتى يومنا هذا، وهي في الواقع مشكلة خطيرة تتعدى ما تصدى له الكتّاب المحليون في تناولهم لإشكاليات مجتمع التحول من فساد اجتماعي وثراء فاحش وغلاء مهور وصعود طبقات على حساب طبقات أخرى، والتسلط الأبوي وتهميش دور المرأة، والزواج من أجنبيات, إلى معالجة شؤون الزمن الحالي الحافل بممكنات غنية للكتابة المرتبطة بمصير الإنسان على هذه الأرض، والتنبيه إلى إشكالية ذوبان الإنسان المحلي في جموع بشرية وثقافات متعددة ومشاعر الاغتراب والضياع التي تنتابه وهو في وطنه، تحقيقا لمشروع المحافظة على سمات الشخصية الإماراتية من خلال السرد الذي يواجه صدمة الحداثة.
رواية التشخيص
بالعودة إلى رواية “سيح المهبّ” نجد أن عنوانها يحمل الكثير من الدلالات الرمزية المعبرة عن مواقف الكاتب الناقد لما يجري من تطور متسارع في البلاد على حساب الإنسان بوجه عام، والمثقف بوجه خاص، فحوّل مدينته إلى فضاء مسرح كبير بمشهد تجري أحداثه من داخل مدينة ما بعد الحداثة، حيث أحد المراكز التجارية الضخمة بما تحتويه من صالات ومطاعم ومقاه وأضواء وحركة بشرية تحتشد فيها الألوان والملابس واللهجات، يبدأ السارد (الراوي) بكشف مكامن عوالم المكان أو توصيف للبعد المكاني من خلال حركة الأشخاص التي تكشف عن حالة معاصرة تناقض حالة المجتمع قبل ظهور النفط ممثلة في بطل الرواية (حميد) السارد الرافض لكل ما هو رخيص في عالم المدينة الجديد: “زحام بشري فائض.. وثمة شاشات تلفزة كبيرة معلقة بالسقوف تتعلق رقاب الخلق مأثورة بها متابعة بثها المتواصل بالرقص والغناء والموسيقى الهابطة الضّاجة بالعنف والجنون والخصور الراعشة برخص على أتفه إيقاع”. من هذا المشهد الاستهلالي ينطلق الفصل الثاني من الرواية في مقهى هو أشبه بمسرح تتناوب الشخصيات بالظهور على خشبته، لتكشف كل واحدة عن جانب من حكايتها مع الحياة، ونلتقط من شخصيات الرواية بطلها (حميد) المختنق بزحام المدينة، ثم شخصية (آدم) الغريب الذي جاء من مكان غير محدد، ليشتغل (عامل مصعد) في أحد الفنادق، ثم الفتاة الأجنبية المستهترة بكل القيم الاجتماعية، وهناك شخصيات وشرائح اجتماعية مختلفة مثل المواطن الذي لا عمل له سوى تصفح الجريدة، واكتشاف المتناقضات التي تجري من حوله. من خلال هذه الأنماط قدم لنا الكاتب ومضات توحي بسلوك مجتمع ما بعد الحداثة، حيث بطل وحيد (حميد) ممسك على جمر القيم الأصيلة، فهو حتى نهاية الرواية يمثل الثبات في الاتجاه المعاكس، انه يحلم بعيون مفتوحة في مشهد هو أشبه بشريط سينمائي يعرضه علينا الكاتب، حيث الرفض القاطع لكل مقومات العولمة الجديدة بكل ما جلبته من تحضر زائف يسعى لتهميش الإنسان وتغريبه. لكن (حميد) هو النموذج السّوي في الرواية، ولعله القادر من بين الشخصيات على فهم معادلة هوية الإنسان والمكان كونه يتمتع بوعي أصيل، وانتماء حقيقي لهويته وأرضه، متمسكاً بالطبيعة ونقائها وعفويتها، حيث (البحر) و(الصحراء) بامتدادهما نحو المستقبل: “هاأنا أسبح في عوالم من التناقضات العاصفة.. لماذا يجهزون على كل شيء جميل، ويعاقبون النّقاء ويخنقون الأرض؟”.
يتمتع الكاتب بتلك الخصوصية المحلية المستمدة كما ذكرنا من باطن المكان لدرجة أن الدكتور نجيب العوفي وضع غالبية قصص جبران ضمن إطار (القصص البحرية)، فقد كتب تحت عنوان “الخصوصية المحلية في القصة القصيرة الإماراتية” ونشرت في كتاب أبحاث الملتقى الثالث للكتابات القصصية والروائية في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1993، كتب عن قصة (ميادير) للكاتب ناصر جبران بقوله: “تنفتح بنا قصة ميادير لناصر جبران على البحر، بدءاً من عنوانها، وميادير كما يشرحها القاص في حاشية القصة مفردها ميدار، والميدار يعني “الشّص”، وهذا الانفتاح البدئي على البحر هو في الآن ذاته انفتاح لساني على الخصوصية المحلية، وأول جملة في القصة هي جملة خروجية وإبحارية “خرجوا كعادتهم عصر ذلك اليوم”، والإبحار كما المحنا هو أول واهم حافز حكائي في القصص البحرية، ومنه مباشرة ينطلق الإبحار السردي ويندفق موج الكلمات”. أما القصة بمجملها فتعبر عن عمق انتماء الكاتب لقضيته الرئيسية (الأصالة والمعاصرة) من خلال التعبير عن بيئة البحر كمكان مؤثر في سلوك ومعتقدات الشخصيات، بل وكاشف عن واقع المجتمع البحري بكل قيمه وثقافته: “انطلقوا والبحر مدى، مخلّفين وراءهم مدن الإسمنت الفارغة، وشريطاً من النخل المتباعد مثل نساء يترقبن في هلع عودة القفال، وقفن منتصبات فوق رمال الساحل” (ميادير ص 7). إضافة إلى بلاغة التشبيه ورمزيته في الفقرة السابقة، نلمح الجانب المشهدي التصويري البانورامي، الذي يوحي بخصوصية تضاريس المكان البحري، المتكون من البحر ومدن الإسفلت وشريط النخيل ورمال الساحل، ولعلها وقائع بسيطة ومباشرة ولكنها عميقة في مدلولاتها وتأثيراتها، من خلال البعد المشهدي التصويري الذي ساعد في تقديم نص سردي مكثف ومقتصد في كلماته ومنفتح في أسئلته على فضاءات كثيرة.
الخصوصية المحلية
تقوم البنية الحكائية في “ميادير” ذات الإيقاع اللاهث على خروج جماعة من الصيادين (جاسم، خميس، سالم الهير، راشد، سعيد، حمد) إلى عرض البحر بحثا عن الرزق، لكن الجماعة تفاجأ بتوقف محرك القارب، وتشابك الخيوط الصائدة بجسم ثقيل، سرعان ما تكشف لحظة الدهشة عن جثة إنسان طافية، تسترها بزّة عسكرية، متزامنا ذلك مع اقتراب قطع أسطول حربية نحو قاربهم: “وانشغل الكل بدهشة المجهول يلفهم صمت رهيب.. الأيدي تسحب الخيوط برفق كما لو أنها تتوجس مغبّة ابتلاعها وانحشارها في جوف سمكة كبيرة، انقطع خيط وتبعه آخر. وقبل أن تنفثئ دهشة الصيادين ويصحوا من رعب المفاجأة ويحسموا في أمر الجثة، أيحملونها أم يتركونها وديعة لمياه الخليج، تقترب من قاربهم قطع أسطول حربية فرضت سطوتها على مياه البحر، حاجبة خلفها جمال الأفق” (ميادير، صفحات 24، 25، 26). ما بين الكدح وسطوة القوة، يفرز المشهد التراجيدي الذي رصده الكاتب بعناية شديدة صورتين متناقضتين للخير والتواصل مع الحياة ممثلا بقارب البحارة الباحثين عن رزقهم، فيما تعكس صورة الأسطول الحربي خطر القوة المتسلطة التي تتهدد الهوية والبحر، ليصل بنا ناصر جبران في النهاية إلى إدانة حكائية بليغة لكل أشكال الحرب والعنف، في مرثية تقدم دلالة حيّة على استمرار البقاء. لا شك أن الكاتب نجح في بناء أحداث قصته بناء هارمونياً نمت أعضاؤه نمواً طبيعياً في مكان ثابت متحرك، كما يلفت الانتباه تلك اللغة التصويرية المرتفعة ضمن قالب (التضاد) أو المفارقة في بناء المشهد القائم على بساطة اللغة القصصية العامل الأجدى والأنفع في توصيل النص إلى متلقيه.
وتعتبر قصة “شيء ما في غير مكانه” قمّة القصص التي كتبها ناصر جبران بروح سردية عالية تتكئ كليا على منظور تجلّيات الذات الرومانسية، وهي غير ذلك عبارة عن ديالوج طويل يعكس رؤية ثقافية عن انكسار العلاقات الاجتماعية والإنسانية والعاطفية من خلال شرح علاقة فاشلة بين زوجين تعكس جانباً من عالم الزيف الاجتماعي الذي يتأسس على قواعد الخداع والغدر والمتاجرة بالعواطف، مما يكشف عن انهيار عميق لإنسانية الإنسان. هذا ما نكتشفه من بنية القصة وبطليها (الزوجين) وأولادهما الذين لا يظهرون إلا في نهاية الحكاية، التي على الرغم من بنيتها الساخرة العبثية، إلا أنها بطلتها (الزوجة) تمتلك مشاعر دافئة ورفض للقيد الاجتماعي، يدفعها في النهاية إلى ترك زوجها: “حملت الأم أغراضها البسيطة، ثم دنت من سريره، أخذت طقم أسنانه وتنحت جانباً، بينما أخذ الابن أحد الأطراف، والصغرى الطرف الآخر من أطرافه الصناعية، والكبرى أخذت فصّ عينه الزجاجية، ثم غادروا غرفته باتجاه ضوء النهار”. قدم القاص ببراعة وصفية دقيقة شخصية الزوج بمحتواها الشكلاني من حيث اختلافها، فهو يرتدي (طقم أسنان) ويعتمد في حركته على أطراف صناعية، ومن جانب محتواها النفسي، فهي شخصية سادية تستمع بتعذيب الزوجة بكلامه الجارح وانتقاداته التي لا تتوقف، كما أنه مريض بكل أمراض العصر من ترف زائف وزيف اجتماعي، وتظاهر فيه الكذب يشنق الحقيقة، أما الزوجة التي نعرف لها اسماً محدداً، في محاولة من الكاتب لإضفاء طابع الشمولية عليها، فهي تتمع بذكاء حاد وانتباه شديد إلى قضيتها وحياتها مع زوج فاشل، وقد تصدرت النص من خلال (الوعي المونولوجي) الواقعي أو (الحلمي)، وهنا تتعمق إشكالية سبر الذات والإفصاح عن مكنوناتها السيرية الرومانسية ورؤاها الثقافية تجاه العلاقة بين الذات والآخر، وقد تشكلت الشخصية بصورتها الأنثوية الكاملة والمحورية التي تتشكل من خلالها رومانسية الحدث الذي يتم في مكان واقعي واحد (البيت) ومكان متخيل (عالم جديد)، وما بينهما يتنقل الصراع الداخلي بين إهانات زوجها المتكررة لها، وبين تسلط والدها الذي أجبرها على زواج أصبح بالنسبة لها دالة مأساوية، كما أنها شكّلت ضمن أنوثة اللغة السردية، بحيث جاءت اللغة الشاعرية مستمدة لجمالياتها من الشخصية الأنثوية أولا وأخيراً.
تكمن مهارة الكاتب في صياغة موضوعه في براعته على تصوير الحالة النفسية للبطلة، التي نجحت في دفعنا لمعيشة حالتها وظروفها، في إطار فضاء سردي في مكان تقاطعت فيه كل متناقضات الحياة الإنسانية القائمة على عادات اجتماعية بالية، حيث بالإمكان بناء رؤية شمولية لحياة الإنسان المعاصر من خلال حدث بسيط في ظاهره.
نفحات الروح والوطن
ومن ضمن ما أصدره ناصر جبران كتاب بعنوان “نفحات الروح والوطن” وصدر عن منشورات دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2007، ويفجر من خلال صفحاته العديد من الأسئلة والقضايا المتعلقة بشجون الحياة والإبداع، والوطن كحالة ثقافية، وليس كحالة جغرافية. قدم للكتاب الناقد والقاص عبد الفتاح صبري ونجتزئ: “ناصر جبران أحد مؤسسي تيار الرفض في الأدب الإماراتي كرد عفوي على انهيارات الزمن العربي وعلى هدر قيم الوطن. إن ناصر قد استشعر هذه التغيرات في المجتمع، نفوراً من سطوة هذه السلوكيات الجديدة وغير المألوفة، فكانت حالة التعارض واضحة معلنة لعنكبوتيتها وقيمها المادية التي طمست خلفها حرارة العلائق الاجتماعية الحميمة. إن المتأمل في كتابات ناصر جبران سيرى هذا الوجع الذي يحاول البحث فيه درءا له ومتأملاً فيه لمحاربته، سنرى ذلك في القصة القصيرة وأيضاً في الكتابات النثرية الأخرى، وفي النصوص التي بين أيدينا سنرى الكاتب لم تتبدل عزيمته ولم تهن حروفه أو تبهت، فتمسكه بنهجه قائم وواضح، وعند إمعان النظر في نصوصه الثرية سنراه يجوب الوطن والعالم والروح بحثاً وتنقيباً عن الإنسان والتراب الصافي المنثور على صفحة ممتدة من المحيط إلى الخليج”. وفي ذات السياق يكتب الزميل عمر شبانه عن تجربة جبران من خلال كتابه بقوله: “نصوص ناصر جبران هذه رحلة بين الزمان والمكان والإنسان، رحلة توسع معنى المكان والوطن ليطاول كل أوطان الإنسان، فهو يرصد مكان الخراب والانهيار العربي على مدى زمن طويل، بحرقة لافتة، لغة ومشاعر. كما يتناول جبران الوطن كحالات ثقافية أبرزها معرض الشارقة الدولي للكتاب ومهرجان المسرح، والى ذلك يتناول شؤوناً سياسية مثل القمم العربية وغيرها”.
كاتب وكتب
ناصر سلطان عبد الرحمن جبران مواليد إمارة عجمان عام 1952، حاصل على درجة “الليسانس” في العلوم البريدية، شغل منصب المفتش العام للهيئة العامة للبريد بالإمارات، عضو مؤسس لاتحاد الكتّاب والأدباء بالإمارات، وعضو مجلس إدارة الاتحاد وأمين سرّه لعدّة دورات حتى عام 1992، نائب الأمين العام وعضو مجلس الأمناء لمؤسسة سلطان العويس الثقافية.
صدر له خمسة مؤلفات هي: ماذا لو تركوا الخيل تمضي، ديوان شعر، عن منشورات المجلس اللبناني الجنوبي بيروت 1968، و”ميادير”، مجموعة قصصية، منشورات اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، الشارقة 1989، وديوان “استحالات السكون”، منشورات دار الحوار، اللاذقية 1993، وله مجموعة قصصية بعنوان “نافورة الشظايا”، ومجموعة مقالات نشرت تحت عنوان “عطر الحقول” دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة 2003، وله مجموعة مقالات تحت عنوان “محطّات في حياة النّاس”.
وصدر له رواية واحدة بعنوان “سيح المهب” عن منشورات وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، واتحاد كتّاب وأدباء الإمارات. حصل على درع اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيسه عام 1994.