عندما ذهبت إلى بيته في المرسى، بالضواحي الشمالية لتونس العاصمة في الساعة التاسعة والنصف صباحا، وجدته محاطا بالكثير من الكتب الفرنسية والعربية، وجميعها في التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وغير ذلك. فالرجل معروف بقراءته المعمقة في مختلف المجالات، وبثقافته الواسعة، وبحرصه الشديد على مواكبة كل مايجد من جديد في عالم الثقافة والفكر والفلسفة والأدب وغير ذلك. قال لي إنه انتهى من إعادة قراءة “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، الذي كان قد قرأه في سن الشباب، وأنه بصدد قراءة كتاب الراحل الكبير عبدالرحمن منيف عن الصحفي والمثقف المغربي اللامع محمد الباهي الذي عاش سنوات طويلة في باريس ومات بالسكتة القلبية عقب أشهر قليلة من عودته إلى بلاده ليرأس تحرير جريدة “الاتحاد الاشتراكي”. قال لي إنه سيقرأ “أرض السواد” وأيضا “مدن الملح” لأن عبد الرحمن منيف يسلط فيهما الأضواء على أحداث مهمة عرفها جزء كبير من العالم العربي خلال القرن العشرين. وأضاف أن الرواية تهمه أكثر من الشعر الذي تحول في جانب كبير منه إلى “ثرثرة موجعة للرأس” حسب تعبيره. والحقيقة أن الجلوس إلى د. هشام جعيط والتحدث إليه، متعة كبيرة في حد ذاتها. وهو الذي ينتمي إلى واحدة من أعرق العائلات ومن أكثرها محافظة في تونس العاصمة، تمكن من أن ينحت شخصيته بنفسه، معتمدا في ذلك على القراءة والمطالعة والتعرف على ثقافات الأمم الأخرى، وعلى الثقافات الغربية تحديدا. ومنذ البداية، نأى بنفسه عن الهيجان السياسي والإيديولوجي الذي كان ولا يزال يعصف بالعالم العربي مشرقا ومغربا منذ الخمسينات من القرن الماضي وحتى هذه الساعة، ليوجه اهتمامه وجهوده إلى القضايا الحارقة والموجعة التي يواجهها الإنسان العربي. كما أنه أعاد قراءة التاريخ الإسلامي، مقدما أفكارا جديدة وفريدة من نوعها في هذا المجال، ولأنه كان ولا يزال محافظا على استقلاليته الفكرية، فإنه لم يلق الاهتمام الجدير به في نظام الرئيس بن علي المخلوع. بل إن السلطات الأمنية سحبت منه جواز سفره في السنة الأولى من عهد النظام المذكور. وفي هذا الحوار الذي أجريناه معه، يكشف لنا د. هشام جعيط جوانب مهمة من مسيرته الفكرية، ويقدم لنا آراءه في العديد من القضايا السياسية والثقافية وغيرها... التكوين ? تربيت في وسط ديني محافظ، لكنك انفصلت عنه فكريا في فترة الشباب.. كيف تم ذلك؟ وأي تأثيرات كانت وراء هذا الانفصال؟ ? الوسط الاجتماعي والعائلي أساسا كان فعلا وسطا متدينا محافظا لكنه أيضا مكتسبا لثقافة. فأبي كان شيخا بالزيتونة وجدي كان من كبار الكتاب على النمط القديم وعمومتي كانوا أيضا مشائخ سواء منهم الشاب أو المتقدم في السن مثل العزيز جعيط. الرجل الورع حقا في صباي كان جدي ولقد كان متصوفا ينتمي إلى التيجانية ومكتسبا لمعرفة جدية في ميدان الشعر والأدب بصفة تكوينه ومولعا بقراءة الحديث بصوت عال، ولع تقى وليس فضول. هؤلاء أدخلوني في سن الخامسة إلى الصادقية وبالخصوص أبي، وهذا خلافا لما جرى عليه الأمر بالنسبة لأقاربي من سني ومن جيلي الذين سجلوا “بالليسيه” الفرنسية حيث كان التعليم فرنسيا بحتا. فلم يكن والدي يرضى فيما أعتقد أن أحرم من معرفة اللغة العربية، وكان يحب أيضا أن أعرف الفرنسية التي حرم من تلقينها. والصادقية كانت رمز هذا الازدواج الثقافي. لقد كانت عند أبي اهتمامات بالعصر الحديث عن طريق المجلات والكتب المصرية، ولم يكن اهتمامه منصبا فقط على التراث الديني من قرآن وحديث وفقه، ولعله لم يكن متضلعا في هذا الميدان، فبقي شيخا صغيرا من الدرجة الثانية ولم يرق كثيرا في السلم الزيتوني. بالرغم من ذكائه من الممكن أنه كان سياسيا فاشلا أو رجل اجتماع فاشل لعدة أسباب بالطبع، إلى حدود سن 18 سنة كنت منسجما مع وسطي، فكنت متدينا مؤمنا حقا وإلى حد ما محافظا اجتماعيا ومتضلعا في معرفة اللغة العربية والأدب العربي. فالفرنسية كانت لغة أجنبية تماما بالنسبة إلي لا يتكلم بها أحد في البيت ولا في عائلة أمي المتسعة، وكنا نعيش في “المدينة” ولا نحتك بالفرنسيين سوى ـ وفيما يخصني ـ أساتذتي بالصادقية. وكانت عائلة أبي وكذلك عائلة أمي تعتبران قبل الاستقلال ومنذ زمن طويل من كبرى العائلات في تونس، من ذوات المجد التليد وكان هذا المفهوم شائعا آنذاك ومعترفا به ويضرب بعروقه في التراث العربي القديم. لكنها لم تكن واعية بما طرأ من التغيرات الاجتماعية التي حصلت في الخفاء وبما سيحدث من بعد من ثورة اجتماعية مغطاة بغطاء المطالبة بالاستقلال. فالحركة الوطنية كانت ضد المستعمر لكنها أيضا وفي الخفاء كانت انقلابا اجتماعيا سيبرز أكثر فأكثر بعامل الزمن. فيما يخصني، في فترة الشباب الأول، في سن السابعة عشرة، وبسبب ولعي بالثورة الفرنسية، ابتعدت عن النظرة المحافظة اجتماعيا، وقد يدخل في هذا التحول عامل شخصي فرداني هو شعوري بنجابتي في الميدان المدرسي وأن هذا لا يأتي إلا بالكد والعمل، وصرت أكثر فأكثر لا أعتمد على أي انتماء اجتماعي أو عائلي، بل على الذات، وازداد هذا الوعي بمر الزمان في فترة الشباب (من 20 إلى 25 سنة) وهو في نفس الوقت امتلاء وجداني بقيمة المجهود الشخصي، وولع بكل ما هو فكري وعلمي، ولكنه شعور يكرس العزلة التي في الحقيقة لم أكن لأكرهها. من وجهة الاتجاه الفكري والديني، تأثرت بقراءاتي لطه حسين وللعقاد وغيرهما مثل أحمد أمين في سن الشباب الأول، وطه حسين أساسا وكان مفكرا تحديثيا. قال لي يوما أبي، ولا بد أني كنت أذكر له كثيرا أفكار طه حسين: إن هذا الكاتب قد عدل الآن مواقفه القديمة ـ يعني “في الشعر الجاهلي” ـ وعاد إلى إسلام صحيح وإني أراك شابا حائرا تتساءل فاشتريت لك “على هامش السيرة” فاقرأه. وفعلا قرأته وأعجبني الكتاب. وفي نفس السن، طالعت كتب الفلاسفة الفرنسيين من القرن الثامن عشر وكتاب آخرين معاصرين، وكان تأثيرهم ضعيفا علي باستثناء التشبع بالأدب والكتابة الأدبية واستيعاب أكثر للغة الفرنسية ومشاعر الإنسان الحديث. كل هذا سرى في أعماق العقل الباطن، وهو لا يمت بصلة إلى العالم الذي من حولي الذي كنت أعيش فيه. في تلك الفترة، كنت أعيش هذه الثنائية دون تشنج وفي بعد لا بد أنها لعبت دورا في نحت شخصيتي أو فلنقل في تفكيكها. إن سنة الفلسفة وعمري ثماني عشرة سنة كانت حاسمة. في الحقيقة لم أكن شيئا من ذلك، فالمعتزلة وأفكار “روسو” و”فولتير” وديدرو” لا تمت إلى الفلسفة جملة، ولم أكن أسمع ذكرا لـ”كانت” و”برغسون” و”ديكارت” وغيرهم. هم أناس جدد دخلوا في حياتي. كان اكتشاف الفلسفة بمثابة الفتح والتجلي ولا أعني بذلك فقط الميتافيزيقا بل وأيضا علم النفس والمنطق والأخلاق. التأثر ? كيف عشت الحياة الثقافية والفكرية لما كنت طالبا في باريس؟ ومع أي تيارات فكرية وفلسفية وأدبية تعاطفت؟ ? لم أكن مهتما بالسياسة عندما كنت طالبا وكنت أعتبر أن السياسة أقل بكثير من الفكر والمعرفة وأن عظماء الرجال ليسوا كبار الغزاة أو مؤسسي الممالك أو رجال التاريخ بل كبار المبدعين في الفن والعلم والفكر، وهذا خلافا لما بدا لي من خيارات أبي بالرغم من أنه شيخ، لكن الوسط الذي تربيت فيه في صباي كان يبجل كثيرا مفهوم “العلم” ولم أنتبه إلا بعد زمن طويل أن هذا العلم هو العلم الشرعي وأنه يجلب بالأساس وضعية اجتماعية ليس أكثر. ثم أن هذا الوسط قلب اتجاهه فوجه بنيه إلى تعلم ما هو أوروبي لأنه التيار المغلب وفهمت فيما بعد أن الدراسة تعني بالنسبة للتونسيين مكسبا تجاريا. ولا توجد البتة محبة للمعرفة في حد ذاتها. هذا ما جعلني أكثر فأكثر أحكم حكما قاسيا وسلبيا على بلدي وعلى الوسط الذي خرجت منه. كلهم برجوازيون بالمعنى الفاسد للكلمة أو بورجوازيون صغار طامعون في الصعود الاجتماعي، وكلهم ماديون وخاضعون: هذه صارت قناعتي الآن. وهذا ينطبق على الكل وعلى القسم الأوفر من الإنسانية. لقد قرأت الكثير مما كتبه “ماركس” في فترة الشباب الدراسي باستثناء “رأس المال”. أعجبتني كتاباته التاريخية والفلسفية، لكني لم أمل إلى ما اعتبرته أيديولوجيا، فلم أجد هنا أفكاره مقنعة. ولذا فلئن تكونت لي صداقات مع مواطني الشباب من أصحاب الاتجاه الشيوعي، ولئن حاولوا جلبي إلى “قبيلتهم”، فإني لم أنزلق في ذلك عن عدم اقتناع، إنما كنت أفضل مخالطتهم على الوطنيين والدستوريين، لقد رحبت كثيرا بالاستقلال وكنت وطنيا دون مبالغة، لكن المشاكل الثقافية كانت هي التي تشدني إليها، وفي مجال السياسة حرب الجزائر أكثر من تحرير تونس. في تلك الفترة فعلا، كانت قضية الجزائر هي التي تشد اهتمام كبار المثقفين الفرنسيين، ولذا تتبعت مواقفهم عبر جريدة “لوموند” أو “الأكسبرس”، وفي بعض الأحيان حضرت محاضراتهم. أما التيارات الفكرية، فلم يكن يوجد في الخمسينات جديد يذكر أو لم أكن أعرفه. لكني طالعت الكثير في مجال الأدب: “بروست” والروائيين الأمريكان و”دوستويفسكي” و”تولستوي” و”كامو” و”سارتر”. ولسارتر عندئذ تأثير كبير علي وكان يمكن أن أحسب سارتريا. واهتممت أيما اهتمام وشغف بالسينما وبالأفلام الكلاسيكية القديمة والجديدة الطارئة سواء لوحدي أو فيما بعد مع زوجتي. ولا ننسى أني كنت طالبا جادا وأن زملائي في دار المعلمين جديون أيضا في عملهم، ولم يكن لهم همّ سوى حصولهم على المعرفة. وطوال الخمسينات، لم أتعرف على إخوان من المشرق ولم أعبأ إلا قليلا بما كان يجري هناك، بل إني لم أعد أقرأ بالعربية سوى القليل القليل. التفكير ? في بداياتك كمفكر، اهتممت بموضوع الشخصية العربية الإسلامية في فترة التحولات والتقلبات الكبرى التي عرفها العالم العربي الإسلامي خلال الخمسينات والستينات بالخصوص ما هي الظروف التي أنتجت مثل هذا التفكير؟ ? لما رجعت إلى تونس، عينت كمساعد في كلية الشريعة وبقيت هناك خمس سنوات بمشيئة من المسعدي وزير التعليم عندئذ. ولقد بدا لي حضوري بتونس آنذاك بمثابة التقهقر: فتونس هذه لم تعد البلد الذي عرفته، وهي بعيدة عن أن تكون باريس. من حسن الحظ، في هذه السنوات من المنفى الداخلي، كان لي وقت طويل للمطالعة، فاهتممت بالفلسفة والأنتروبولوجيا والتحليل النفسي خارج إطار التاريخ. قرأت لسارتر وريمون آرون وفرويد ويونغ وأدلار وروجي باستيد والأنتروبولوجيين الأميركان وأيضا الكثير للمستشرقين ولمحمد إقبال وطه حسين “الفتنة أساسا” لكني في نفس الوقت، كان اهتمامي منصبا على المصادر العربية القديمة مثل الطبري وابن سعد والأغاني واتجهت نحو البحث في التاريخ الإسلامي. وكتبت ما كتبت في هذا المجال عن تاريخ المغرب أساسا وقد جمعت الآن ما كتبت عندئذ وسيصدر عن دار الطليعة مع بعض الزيادات. في هذه الآونة من البعد عن المجتمع الأكاديمي، كنت أولي اهتماما بالغا للخطاب السياسي والحضاري الصادر في تونس والمشرق العربي وإفريقيا وكل هذا العالم الجديد الذي برز للوجود. كنت عالمثاليثيا “نسبة إلى العالم الثالث”، ولعل هذا من أجل ما جنيته في الستينات من حضوري في وطني إذ لاحظت الكثير من الأمور وزرت المغرب الأقصى وعددا من بلدان إفريقيا وتناقشت مع بعض الرجالات ليس أقلهم شأنا بورقيبة نفسه وأحمد المستيري. لقد كنت مهتما بالفكر الديني والفكر الوطني والقومي خارج عملي كباحث، وكتبت مقالات هنا وهناك وكنت أود أن أتجه نحو المقال. ليس المقال الأدبي ولكن الفكري إذ كانت تستثيرني عدة قضايا، وكنت دائما أؤجل ولوج الموضوع حتى عرض علي صاحب دار “السوي” وهو أيضا مدير مجلة “اسبري” أن ينشر لي كتابا في موضوع ذي صلة بتجديد الفكر الإسلامي بالصيغة التي أراها، وقد حدث هذا في سنة 1966 أو 1967. كنت مترددا، متكاسلا، وكان أيضا يشدني التدريس في كلية الآداب حيث نقلت. لقد راودتني كثيرا فكرة الهوية العربية ـ الإسلامية لما رأيت من اتجاه في تونس نحو محو الإسلام كانتماء وأساس للهوية ونحو غربنة مجحفة وغير سوية، ولم أكن راضيا عن الابتعاد عن القومية العربية على أنها هي أيضا مجت الانتماء الإسلامي، ورأيت ضرورة التركيب بين العنصرين ثم إني كنت مهتما بمشكلة التغير أي هذه العويصة: كيف التغير الجذري دون فقدان الأنا الحضارية؟ كانت هذه المشاكل تطرح نفسها علي بإلحاح. والأقرب عندي الآن أن هذا الطرح ليس فقط نتاج التجربة والمطالعة، بل أيضا له جذور ذاتية أعني محاولة تركيب شخصيتي المنقطعة على نفسها: جانب غربي عميق وجانب عربي ـ إسلامي أعمق منه. وفي ذلك أيضا نقد مقنع لخيار بورقيبة الذي اعتبرته تغريبيا مزيفا، كما في ذلك ثورة على انعدام حداثة أصيلة لا في الشخصية الثقافية فحسب، ولكن أيضا في تراكيب الشخصية النفسية. لقد قرأت في باريس في صيف 1968 كتاب “في سبيل البعث” لميشيل عفلق: بهرت بالكتاب إذ لم أكن متعودا على مثل هذا التفكير بالعربية. هو تفكير جريء قومي وحداثي في آن واحد، لم يقلقني فيه إلا شيء واحد وهو اعتبار الرسول فقط زعيم العرب وانتفاء البعد العالمي والروحي، وقد كنت رأيت عن كثب الإيمان الحقيقي وما يجره من صفاء القلب. عرفت أناسا نظموا حياتهم حسب القيم الأخلاقية الدينية. من جهة أخرى، بصفة تكويني كمؤرخ في الغرب، لم أكن لأعير القيم الوطنية والقومية مطلقية ما. والمطلقية عندي ذات أهمية بالغة، خلافا لما اتجه إليه عبدالله العروي في تفكيره وخلافا لكل الفكر السياسي العربي: المطلقية في معنى الوجود، في ماهية الحياة والحب والموت. عندي، في قرارة نفسي، اتجاه ميتافيزيقي لا يمكن محوه. هذا ما أقلقني عند عفلق وفي الكتاب الذي أصدره العروي عام 1967. الغرب ? الموضوع الآخر الذي اهتممت به هو موضوع العلاقة بين العالم العربي الإسلامي والغرب والذي كان قد اهتم به أيضا أغلب مفكري عصر النهضة... وبعد النهضة، هل تعتقد أنك قدمت رؤية جديدة لهذا الموضوع؟ وهل ترى أنك كنت مختلفا عن المفكرين العرب الآخرين في تقييمك للعلاقة بين العالم العربي الإسلامي والغرب؟ ? صحيح. اهتممت بهذه المسألة وقدمت تحليلا في كتابي “أوروبا والإسلام” عن رؤية الغرب للإسلام كدين وحضارة. لكن هذا المؤلف نصفه مخصص لتحليل ماهية الإسلام وماهية الغرب وتقديم نظرة في فلسفة الثقافة. وقد أثرت فيه مسائل كانت تشغل ذهني. إلا أن هذا الكتاب لم يحظ باهتمام القارئ العربي باستثناء علي حرب. فكل ما استثار نظر النقاد هو القسم المخصص لنقد الفكر الغربي في رؤيته إلى الإسلام. وما تبقى هو الأهم لأنه تحليل لتراكيب الثقافة الغربية. وعلى العكس من ذلك، فالغربيون أعجبهم الكتاب وقرأوه وترجموه إلى الإنجليزية والأسبانية. ذلك أنه اعتبر عملا هاما في استقراء هذه الثقافة وقد كتب من طرف مغربي عربي ومسلم. وهو يقترب في هذا المضمار من مؤلف خير الدين “أقوم المسالك” فقد قدم نظرة عن أوروبا زمانه وعن أسسها الثقافية والسياسية والدينية. وتقديمي ليس بالتقديم المدرسي لإنجازات أوروبا، إنما هو تأمل في مصير هذه الثقافة على شكل المقال. وواضح أن رواد النهضة لم يكونوا ليعرفوا شيئا مقنعا ومعمقا عن الغرب. هم لا يعرفون شيئا يذكر وقد خرج كتاب إ. سعيد في نفس السنة حول الاستشراق وهو تحليل لامع لنظرة الغرب إلى الشرق، واعتبر المؤلف أن الشرق مفهوم اختلقه الغرب وهو أيضا نظرة كلية وعاطفية استهوت أفئدة العرب. لكنه أبعد ما يكون عن النقد الابستيمولوجي للاستشراق العلمي، فسعيد لم يكن يعرفه وما كتبه عنه ليس بذي قيمة بل سطحي. لقد كال العرب في تلك الفترة وما قبلها وما بعدها كل الشتائم للاستشراق وهو بعد قد انتهى، لكنهم بالطبع لم يفقهوا منه شيئا ولم يطلعوا على أهم ما أنتجه من مثل أعمال “غولد تسير” و”ماسينيون” و”فلهاوزن” و”شاخت” وقبلهم “نولدكه” وغيرهم. هؤلاء علماء جادون كان في الماضي يعتبرهم أناس من مثل طه حسين وأحمد أمين وعبدالرحمن بدوي وقد ترجموا لهم كتابا. أعتقد أن ما يعيبه المثقفون العرب وأنصاف المثقفين على الاستشراق هو اتخاذه المسافة اللازمة إزاء الإسلام للبحث العلمي، وقد باتوا لا يفقهون ماهية البحث العلمي. كتاب سعيد منحاز وتهجمي وإيديولوجي. على أن في الاستشراق أيضا انحياز وتحقير للإسلام دون أي شك. النهضة ? هل تعتقد أن العرب عرفوا نهضة حقيقية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟ وإن كان الأمر كذلك فما هي برأيك أسباب نكسة هذه النهضة؟ ? استفاق العالم الناطق بالعربية داخل مجال الإسلام في منتصف القرن التاسع عشر مع رجال دولة مثل محمد علي في مصر وأحمد باي في تونس، فقاموا بإصلاحات. ذلك أن هذه الرفعة لم تكن موجودة في التاريخ الإنساني ابتداء من القرن السادس عشر، وكانت خاضعة ومنحطة. ولم يقدر هؤلاء القادة على أي إنجاز فعال: فالهوة اتسعت بين أوروبا والشرق طوال المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى حدود استعماره مع أواخر القرن، حقا وجدت إصلاحات إدارية وعسكرية، لكن العالم العربي كان كله خاضعا إما لتركيا وإما لفرنسا وبريطانيا، وما كانا قادرين على إصلاح حقيقي، بل إن مفهوم الإصلاح كان لا معنى له في كل العالم الإسلامي. ولما وجد إصلاح ديني وحضاري في أواخر القرن، كان ذلك مفيدا لأنه حاول تغيير النظرة إلى الدين وحاول إنهاض حضارة بأسرها مع جمال الدين وعبده وتلاميذهما. عندئذ وجد مجهود عام في إصلاح السياسة والمجتمع والدين لن تظهر جدواه إلا ببطء وبعد زمن طويل. الإصلاح الأساسي أتى به الاستعمار في مصر وتونس ثم في الهلال الخصيب. وكتاب مثل كتاب الكواكبي حول “طبائع الاستبداد” لم يكن أن يجد صدى في الواقع السياسي والمجتمعي ولا أن تطبق أفكاره. إنما هذا المجهود العام دخل في أفق الفكر التحديثي مع الثلاثينات. بخصوص مفهوم النهضة كاستفاقة عامة، فلم تكن لتعني سوى انفتاح إجباري على العالم الحديث أتى من موازين القوى مع أوروبا ثم من الوصاية ولا أقول الاستعمار فهو لم يحدث حقا إلا في الجزائر مع الاستيطان والتهميش المطلق لأبناء البلد. ماذا تعني سوى ذلك كلمة “نهضة” في أوائل القرن العشرين عندما نرى أن بعد الحرب الكبرى وفي سنة 1919، كان كل العالم الإسلامي محتلا من طرف الغربيين: أندونيسيا، الهند، تركستان، العراق، سوريا، مصر وشمال إفريقيا. هنا استثناء صغير بالنسبة إلى إيران وتركيا لكنهما كانا إما خاضعتين وإما مهددتين. إذا وجدت استفاقة ففي الأذهان وهي نتيجة الصدمة الغربية. ما هو أهم هو تكوين الحركات الوطنية: في تركيا، في مصر، في العراق، في تونس بعد الحرب الكبرى وفي أوائل العشرينات، ودخول هذه الحركات في غلاف جديد مختلف عن مفهوم الإصلاح: فهو صراع سياسي واقعي سيؤتي أكله في إزاحة الاستعمار، وفي تركيا عبر التغيير الجذري الذي قام به مصطفى كمال. يمكن أن نقرر أنه وجدت حركية في العشرينات: تأسيس العراق الحديث وسوريا الحديثة، إقامة مملكة في الجزيرة العربية، حصول مصر على شبه استقلال ذاتي في سنة 1922، حركة نسائية مع قاسم أمين وهدى شعراوي الخ... أنا لا أريد إطلاق كلمة “نهضة” على هذا، فهو رد فعل على الصدمة الغربية وانفتاح على العالم فقط. وقد أعانهم على هذا الأوروبيون سلبا وإيجابا أو دون قصد. بالمعنى الدقيق والحقيقي مفهوم النهضة إن هو إلا ترجمة لمفهوم “الرنيسانس” الغربي الذي طال إيطاليا في القرن السادس عشر. فهو مفهوم ثقافي بالأساس، وقامت النهضة في أواخر القرن التاسع عشر في بلاد الشام حول تجديد وإثراء اللغة العربية وهو عمل عظيم اضطلع به معجميون وأدباء ولغويون. العربية كادت تموت في القرون الأخيرة الماضية، بل صارت تقريبا لغة دينية، وانتشرت الحركة في مصر، فتكونت دور النشر والصحافة وكتب الأدباء الكتب وتواجد الشعراء. هناك فرق كبير بين المجال السياسي وهو خاضع وبين المجال الديني حيث قام الإصلاحيون فانتشرت أفكارهم عبر السلفية وبين اللغوي والثقافي الذي وحده يمكن أن يسمى نهضة. كل شيء انبنى عليه: الخطاب السياسي، الإذاعة فيما بعد، الصحافة، المدرسة، كتابات مفكري الثلاثينات وشيئا فشيئا انفتاح العرب على بعضهم البعض، وهو أساس المشاعر القومية فيما بعد لأن الأمة تبقى أمة ثقافية. عندما استقرت الأوضاع في الثلاثينات ظهر كتاب وفنانون بارزون في مصر والشام والعراق وحركة ثقافية عامة مهمة جدا بالنسبة لزمانها وهي امتداد للنهضة اللغوية لآخر القرن. لولاها لم تكن لتوجد هذه الحركة، لكنها تجاوزتها بأشواط، والأسماء هنا متكاثرة ومعروفة. بالطبع وجدت نكسة بدءا من منتصف القرن وازدادت حدة بعد انتصاب النظم الثورية ونظم الاستقلال في المغرب العربي. ما الذي جرى؟ العالم العربي بعد الحرب العالمية دخل في دوامة من الاضطراب ثم عندما استقر مشهد سياسي واجتماعي جديد شهد الدكتاتوريات وهو أمر جديد. لقد كانت البلدان العربية حبلى بمثل هذه التغيرات من قبل في أعماق المجتمع، ثم أن الوضع العالمي تبدل، فضعفت الدول الأوروبية وأمكن التخلص من هيمنتها، ودخلنا أيضا في وضع الحرب الباردة. الدكتاتوريات في المشرق قلدت السوفيات في إمساكها بالأمور، وكذلك في الجزائر. وفي تونس والمغرب، فإن فرنسا كانت كبيرتهم التي علمتهم الشعر. كل النظم العربية بعد 1952 غدت دكتاتورية أو استبدادية، وهو تقريبا ما حدث في أغلب بلدان أوروبا المتحررة الشرقية والمتوسطية بعد حرب 14: بولونيا وألمانيا وبلغاريا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال، وبالطبع روسيا. فهي ظاهرة أوروبية أتت متأخرة للعرب والعالم العربي. وفي تلك الفترة، كانت تطغى على العالم الثالث أفكار الثورة والتقدمية والإمبريالية، وكلها مأخوذة عن السوفيات والشيوعيين عامة، وهي تسهل تعبئة الجماهير ومراقبتهم. وهكذا صار المجتمع العربي إلى اليوم مجتمع مخابرات وتعذيب وتدمير للإنسان. وغياب الحرية يعني أيضا تدمير الثقافة. ومن الممكن أن تكون الظروف التاريخية، في الداخل والخارج، هي التي أملت هذه التحولات، وأن المجتمع العربي كان بدون ذلك يصاب بالعطب. فقد قامت هذه النظم بتحولات اجتماعية ضرورية وحاول البعض منها التصنيع، أي الدخول في العالم الحديث حقا. لكن الإيديولوجيات التي صاحبتها لا تؤمن بالحرية لإنجاز مشروعها الطوباوي وهو مضخم جدا. مع عبد الناصر، حصل شيء من الحضور العربي في المشهد الدولي، وهذا جر العرب إلى نوع من تعظيم الشخصية. ونتيجة لذلك، فعندما كان الواقع يصدمهم، يأتي الألم، ألم الهزيمة كما في 67. وهي مترقبة لأن إسرائيل إنما هي الحداثة الغربية بكل أوجهها. الهيجان السياسي والإيديولوجي له حدوده زيادة على كونه ليس يقتل الفكر الحر فقط، بل هو اغتراب الإنسان عن ذاته.