شددت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب من إجراءات الفحص المتعارف عليها لكبرى شركات التكنولوجيا، في حين تكثف عدة ولايات من جهودها لمنع ثالث ورابع أكبر شركات الاتصالات اللاسلكية الأميركية من الاندماج.
ويبدو من ظاهر هذا كله أن الخناق بدأ يضيق على الشركات الكبرى، ليمنعها من التكتل في كيانات ضخمة تقتل المنافسة في الأسواق، فتشيع أجواء من الاحتكار، وهو ما تمنعه التشريعات الراسخة منذ عقود.
ولكن الصورة ليست وردية تماماً.
فقد اعتاد المواطن الأميركي على متابعة العناوين العريضة في الصحف لأحدث تطورات شركات التكنولوجيا الكبرى وأعمال الدمج عالية القيمة، إلا أن مشكلة الاحتكار الحقيقية تكمن تحت سطح هذا كله، دون أن يدرك أحد.
فمن الملاحظ تقلص مستوى المنافسة في السوق الأميركية، لتوسع الشركات في تركيز النشاط من خلال صفقات للضم بقيم ضئيلة في الأغلب الأعم، مما يتعذر معه على هيئات المراقبة ومكافحة الاحتكار رصدها.
ويمكن القول إن هذه الأنشطة «الصامتة» للدمج وتركيز النشاط لا تقل ضرراً عن نظيراتها الأضخم قيمة والأشهر إعلامياً، كممارسات شركة جوجل التابعة لمجموعة ألفابيت العملاقة، أو شركة آبل، وفيسبوك، وأمازون.
ومن الملاحظ أن فترة الأعوام العشرة الماضية، شهدت تقلصاً واضحاً في عدد القضايا التي يحركها قسم مكافحة الاحتكار التابع لوزارة العدل الأميركية، ضد اتفاقيات تضر بالمنافسة أو تتسم بطابعها الاحتكاري المكشوف.
ويمكن القول إن العقد الماضي شهد استقراراً في حالات الطعن على أنشطة الاندماج بين الشركات التي تحركها الوزارة، أو المفوضية الفدرالية لمكافحة الاحتكار.
بمعنى آخر، أن البيانات المتاحة توحي بأن السلطات الأميركية باتت أكثر سماحة مما كانت عليه من قبل.
فمازالت المفوضية تطعن في أنشطة الدمج التي ينتج عنها منافسان، أو أربعة على الأكثر، في ذات النشاط، ولكنها تتغاضى عن التدخل منذ عام 2005 إذا ما أسفر الاندماج عن قيام خمس إلى ثماني شركات متنافسة.
فماذا حدث؟ يتحقق عدد كبير من أنشطة الاندماج والضم والإلحاق من خلال صفقات صغيرة محدودة القيمة، لا تخضع لاشتراطات الفحص الفدرالية المتعارف عليها.
فحتى عام 2001، اشترطت التشريعات إخضاع الصفقات التي تربو قيمتها على 15 مليون دولار للمراقبة من سلطات مكافحة الاحتكار.
واعتباراً من ذلك التاريخ، رفعت القيمة إلى 90 مليون دولار لدواعي النمو الاقتصادي.
بل وتقفز القيمة إلى 360 مليون دولار في حالة صفقات الشركات الكبرى ذات الطبيعة الخاصة، كشركات التكنولوجيا والمستحضرات الطبية.
وأظهرت دراسة أعدها الباحث توماس ولمان، من جامعة شيكاجو، أنه بعد هذه التغييرات، انخفض عدد إشعارات التحفظ على الصفقات بنسبة 70%، بينما قفز عدد حالات الاندماج التي لا تتطلب إبلاغاً مسبقاً للجهات الرقابية المعنية بنسبة 50% تقريباً. وقبل عام 2001، شكلت الصفقات الخاضعة للفحص وتقل قيمتها عن 50 مليون دولار نسبة 35% تقريباً من الإجمالي.
وبعد ذلك التاريخ، تقلص عدد مثل هذه الصفقات إلى حد الانعدام تقريباً.
وأعد ولمان بحثا آخر رصد فيه أنشطة الاندماج بين مراكز غسيل الكلى في الولايات المتحدة.
وأظهرت البيانات التي جمعها تفاوتاً كبيراً في الأوضاع بين عامي 1997 و2016.
فبينما أصرت المفوضية الفدرالية لمكافحة الاحتكار في عام 1997 على ضرورة توسيع قاعدة الخدمة بين الشركات، فإذا بها تتجاهل الأمر في عام 2016 لتصبح شركتين فقط، تهيمنان على 77% تقريباً من مراكز الغسيل الكلوي.
ولم يفصح البحث عن أثر هذا التطور على صحة المرضى، ولكنه أشار إلى تقلص عدد الممرضات إلى الفنيين، وزيادة عدد المرضى إلى ماكينات الغسيل الكلوي المتاحة.
وخلص البحث إلى تراجع مستوى الرعاية، ولكنه لم ينف تحسن مستوى الكفاءة.
وتشهد السوق الأميركية، حالياً، حالات لا حصر لها من تركيز النشاط عن طريق الاندماج بين الشركات المتماثلة، وفي مختلف المجالات. ويمكن القول إنه منذ عام 2001 شهدت الولايات المتحدة ارتفاعاً كبيراً في حالات الاندماج «الصامت» هذه ما بين الشركات، فظهرت كيانات عملاقة تدريجياً، دون أن يشعر أحد.
ولكن هذا لا يرجع إلى إهمال الأجهزة الرقابية في عملها، بل إلى تغير قواعد اللعبة لدرجة يتعذر معها تتبع هذه الأنشطة، كما كان الحال من قبل.
بقلم: جريج إيب