بعدما انقضى قرن ونيف على ظهور ما اصطلح عليه بأدب المهجر، بات للقول فيه نواظم وفواعل جديدة، لا يستوي من دونها. فالهجرة التي قد تكون طوعية وطموحاً دراسياً أو مالياً، أو نزوعاً إلى المغامرة أو الرحلة، قد تكون أيضاً طوعيةً مستبطِنة لإكراهات عميقة أو ظاهرة، مثل الفقر أو الكوارث الطبيعية أو التنافر الإثني أو الديني والطائفي والمذهبي. أما إذا بلغ التنافر حد التناحر، فالإكراهات تكون جهيرةً ومحتدمة، والهجرة بالتالي تصير تهجيراً. وكل ذلك قد يكون داخلياً مما راجت تسميته بالنزوح، أو خارجياً، وقد يكون فردياً أو جماعياً، وإن تكن درجة الجماعي في التهجير والنزوح أعلى.

يشتبك حديث الهجرة والتهجير بحديث المنفى الطوعي أو القسري، الفردي أو الجماعي. ومن أسف أن كل ذلك قد تضاعف أضعافاً مروِّعة بعد الاستقلالات العربية ومثيلاتها، وبالاطّراد مع توحش العصبيات والديكتاتوريات، حتى بات ما كان من هجرة وتهجير زمن الاستعمار والحروب العالمية والزلازل الطبيعية، نعمةً بالقياس إلى ما نحن عليه وأمثالنا، وبخاصة بعد الأحداث في سوريا واليمن وليبيا وغيرهم سنة 2011، وهو ما أطلق عليه الربيع العربي.
لقد ظل الشعر طوال عقود غالباً في أدب المهجر، قبل أن تبدأ الرواية، وسريعاً، بالانشغال بالهجرة والتهجير، حتى باتت لنا مدونة كبرى. وربما يكفي لنتبين كم هي هذه المدونة كذلك أن ينوف على العشرين عددُ الروايات السورية التي تمحورت حول الهجرة والتهجير، وصدرت بعد أحداث 2011.

من الإنطولوجيا
في ثلاثية حنا مينه «حدث في بيتاخو»، وبخاصة في جزئها الأخير (المغامرة الأخيرة ـ 1997)، قذفت الهجرة بالكاتب زبيد الشجري إلى الصين. وينطوي هذا الجزء، كما الثلاثية على ما يوحّد الكاتب مع البوهيمي وزير النساء زبيد الشجري، مثلما هو الأمر في روايات حنا مينه الأخرى التي تدور حول الهجرة («الربيع والخريف»، «فوق الجبل تحت الثلج»، مثلاً). وقد كانت هذه الرواية رائدة في الميل بفضاء الهجرة شرقاً، بعدما ظلت الغلبة عقوداً لفضاء الهجرة غرباً.
لقد كانت ولا تزال السيرة (السيرة الروائية – الرواية السيرية – التخييل الذاتي) هي الاستراتيجية الحاكمة لروايات الهجرة والتهجير، كما في رواية حليم بركات «طائر الحوم» (1988) التي مالت بفضاء الهجرة إلى أميركا، وصدّرها الكاتب بقوله: «تفرّجْ يا حبيبي وشوفْ/‏‏ حليم بركات ع المكشوف».
وعلى الرغم من أن الكاتب كان قد هاجر إلى أمريكا منذ عام 1966، فقد كتب: «لم أحسّ نفسي يوماً أن هجرتي هجرة حقيقية». ويعلل ذلك بعمق انتماءاته. والحق أن بتر المهاجر أو المهجَّر لانتمائه لا يكاد يظهر في المدوّنة الروائية المعنية. وتذهب «طائر الحوم» أبعد باللحن المتوارث في هذه المدونة (رفض المهجر) فيخاطب الراوي أمريكا: «أنت أيتها الحضارة المقنعة أرفضك» ويصمها بالإرهابية والبربرية.
تؤكد الإنطولوجيا الروائية العربية أن باريس هي الحاضرة دوماً كفضاء للهجرة. ومن بين كثير تذهب الإشارة إلى رواية الياس الديري «عودة الذئب إلى العرتوق» (1982)، التي رسمت فرار سمران الكوراني من الحرب اللبنانية 1975 ـ 1990، ثم فراره من المدينة القاسية التي يستحيل لقاؤه بها: باريس، مثله مثل الراوي المتماهي مع الكاتب في رواية «تفريغ الكائن» (1995) لخليل النعيمي، حيث تصير باريس مدينة النور المظلمة، واللامبالية اللئيمة... بينما انتمت إلى باريس حبيبته التي هاجرت معه. وعلى العكس من بطلي روايتي الديري والنعيمي هو رواية محمد برادة «موت مختلف» (2016) التي رسمت هجرة المغربي منير إلى (بلاد الأنوار). وعبر عقود منير الباريسية تأتي أيضاً سير الهندي المهاجر راجي، والفرنسية كوليت في هجرتها للهند. وعلى الرغم من التفاعل الروحي والثقافي والجنسي العميق بين المهاجر والمهجر، فقد تتوج ذلك بانفصال الزوجين منير وكاترين.

ما بعد الزلزال
في رواية جنان جاسم حلاوي «شوارع العالم» (2002) تجتمع الهجرة والتهجير داخل العراق معهما خارجه. فإلى الاتحاد السوفياتي عبر دمشق، فالسويد، يهاجر سالم آملاً باللجوء. لكن الخيبة تعود إلى دمشق، حيث يلتقي بأخيه زكي هارباً من الحرب ليتابع إلى الاتحاد السوفياتي، بينما يقرر الأبوان النازحان إلى المخيم الحدودي أن يعودا إلى مدينتهما: البصرة، ولسان الرواية يختمها بقول الأم زينب «نحن لن نغادر إلى أي مكان».
في رواية سوسن جميل حسن «خانات الريح» (2016) تنشب التراجيديا السورية للهجرة والتهجير، ابتداءً بالنزوح مما تصوره الرواية فيمن فرّ إلى اللاذقية من آلة الموت في حلب أو إدلب أو الرقة أو درعا أو حمص.. أما الشطر الأكبر من هذه التراجيديا فتخرج الرواية به إلى تركيا فالبحر الذي يلتقم ما قدر له من المهجَّرين ويلفظ الباقين. إلى البر اليوناني، فإلى برلين.
كما في رواية «شوارع العالم» يحضر اللجوء العراقي إلى دمشق قبل أن يتابع إلى برلين. لكن المركزي في الرواية هو اللجوء السوري إلى برلين كما تبدى في حيوات الشخصيات المحورية: وافي ورفيدة ونوارة، وما طرأ في برلين من قصص الحب والزواج. وقد أبدعت الرواية في الحبكة المتفجرة بالدلالات، ابتداءً مما يحمل وافي من كابوس قطع الرؤوس، إلى عمله في شركة لتصميم المواقع والدعاية، حيث الرأس المعجزة لغونتر المشلول.
ومن السعي العلمي إلى زرع الرأس في الجسد، تأتي الدعوة إلى زرع الرأس العبقري لغونتر في الجسد الشاب لوافي. فغونتر الذي ينادي وافي: يا متممي، يا جزئي الناقص، ويتساءل: «لماذا لا أكون جزءك الناقص؟» متيقن من أن رأسه المنتج وجسد وافي المثمر سوف ينتجان حياة مثلى. وسيؤدي كل ذلك بوافي إلى الانهيار العصبي، حتى إذا عوفي، ختم الرواية الجنينُ المنتظر له ولنوارة، مما يشع بوعي مختلف للذات وللآخر.
مع رواية شهلا العجيلي «سماء قريبة من بيتنا» (2015) ينفتح فصل جديد وزاخر من التراجيديا السورية للهجرة والتهجير إلى الخارج، ابتداءً أيضاً بالنزوح في الداخل، مما تتولى سرده (جمان) التي قذفها الزلزال إلى عمّان، حيث ارتهنت للعمل في قضايا اللجوء، وغرقت في قصص النساء المهاجرات والنازحات. وعبر ما تسرده ذلك، لا تفتأ تعود إلى أمس قريب لها في حلب أو في الرقة، وأمس بعيد وأبعد في الرقة أو في سوريا.
«أنا هنا لا لأقدم لأحد شيئاً، بل لأهرب من الحرب»: وفي هذا الجأر ـ والجؤار ـ يشتبك ما يتصل بالذات بما يتصل بالآخر، حيث تمزق الساردة البراقع عن الوجوه التي تتبرقع بالمعارضة.
تتلامح الظلال السيرية في الرواية فتزيدها ألقاً والتياعاً، سواء ما اتصل منها بالحرب /‏‏ الزلزال واللجوء والتهجير، أو ما تعلق فيها بالذات، وبخاصة بتجربة منازلة سرطان الثدي. وتتفجر الرواية بالأحداث والشخصيات والمواقف مثل الأكاديمي في جامعة دمشق، والذي تحول إلى معارض شرس للنظام، وصار نجماً تلفزيونياً، ونقرأ: «صرعوا رؤوسنا بالديمقراطية ودولة المساواة والحرية قبل ذلك، أنا لم أحفظ أسماء أحزابهم وتياراتهم. كله مثل بعضه. خربوا بيوت الناس وانتشروا في البلاد. ها هم يقهقهون في الإنتركوننتال والناس تموت كل لحظة بسببهم. أنا هنا بسببهم أيضاً». وتنهض في الرواية صورة مخيم الزعتري الشهير، إذ تزوره جمان كي تعد تقريراً حول وضع النساء في النزاعات المسلحة. وثمة تتعرف جمان على وجهها الآخر «الذي كان عليّ أن أكونه أو يكونه واحد من أسرتي». ومن صورة المخيم إبان إنشائه: الخيام والحمامات مسبقة الصنع، والكرفانات للموظفين، ومئات العاملين الذين قد يكون لكل منهم نكبته الخاصة، وجاء لينساها أو ليكفر عنها، أو ليهرب منها، مثل الدول التي تزود المخيم بالمعونات، وهي من كان لها يد طولى في تحويل ناس المخيم إلى لاجئين: «دول تقتل بيد وتدفع الدية بالأخرى». وليس عالم المخيم غير عالمٍ من الضحايا، يتحول بسرعة وينشطر ليكوّن ضحايا الضحايا وجلادين ولصوصاً وتجاراً ووعاظاً وناشطين اجتماعيين وسياسيين وشعراء وعشاقاً، وتحسب جمان نفسها الأقرب إلى عالم اللجوء من بين المتطوعين، لأنها وحدها من الرقة في ظل داعش، وإن تكن القلوب جميعاً في المخيم معلقة وراء الحدود.

تعبير متفجر
من روايتيّ سوسن جميل حسن وشهلا العجيلي، إلى روايات مها حسن «عمت صباحا أيتها الحرب» وخليل صويلح «اختبار الندم» وعبدالله مكسور «طريق الآلام» و... يتواصل متفجراً التعبير الروائي عن تراجيديا الهجرة والتهجير السورية. أما نظيرتها الفلسطينية فلعلها الأكبر والأفدح في تاريخ أدب المهجر العربي وغير العربي. ومن الحديث في هذا الأدب سأكتفي بالتمثيل برواية سامية عيسى «خلسة» (2014)، حيث المهجر هو أرض الصقيع المترامية من فلوريدا أوسلو إلى كوبنهاجن.
يبكي المهاجرون المهجّرون فرادى من البلبلة التي أصابتهم، ومع الوقت تقبلوا كل شيء، وصارت فلسطين فكرة، وحاولوا رتق التمزق بأنشطة سياسية واجتماعية وفولكلورية، تلاحقهم عبارات (ستيتلس) stateless أي: بدون وطن.
يتركز الزمن الروائي فيما عرف بالربيع العربي، أي في زمن الزلزال. وقد حاول عايش ورفاقه في أوسلو بدء ربيعهم، وانضم إليهم آخرون من مراكز اللجوء الأخرى في النروج، ونصبوا الخيام في ساحة أوسلو، وأحرق مهند نفسه ـ مثل البوعزيزي في تونس ـ أمام دائرة الهجرة، لكن لا أحد يأبه به إلا عابر أطفأ النار، ورفض أطباء المستشفى إسعافه لأنه بلا وطن.
ليس أكثر ولا أعقد ولا أدمى من قصص الهجرة والتهجير الفلسطينية التي يتشظى فيها الإنسان كما الأدب بين مواطن اللجوء في لبنان أو سوريا. فالتاريخ الفلسطيني الحديث مقطّع الأوصال مثلهم، ويرتبط بجغرافيا المهجر/‏‏ المهاجر التي يحلون فيها. وبما أن الهجرات العربية الجماعية تفاقمت منذ زلزال 2011، فما عاد الفلسطيني وحده في المهجر، وصارّ للسوري أو العراقي أو اليمني أو.. حصته من أدب المهجر الزلزالي. وها هي مخيمات اللاجئين السوريين تملأ الشاشات، ويتفرج عليهم الفلسطينيون، فيشعرون أنهم يتفرجون على أنفسهم. وها هو حسام في رواية (خلسة) يجمع التبرعات للاجئين السوريين ويوزع على المحتاجين منهم، وهو الذي ما عاد قادراً على العيش (خلسة)، وما عادت العودة إلى الأرض تشغله، بل العودة إلى الذات قبل أن تتبدد.
***
تلك كانت روايات/‏‏ فصول جديدة في أدب المهجر والهجرة والتهجير، يتعزز نسبها إلى التجربة الروائية الحداثية العربية التي سبقت زلزال 2011، وفي الآن نفسه، (تكتب) الفاجع في العالم الذي نعيشه وهو يتقوض، كما هو الأمر فيما تكتب الأصوات الشابة الجديدة من الشعر. وهذه الروايات/‏‏ الفصول الجديدة يتعزز نسبها أيضاً إلى ما تكتب الرواية في مختلف البلدان من تراجيديا الهجرة والتهجير: هل قرأت (بالفتح أو الكسر) رواية إيزابيل الليندي الجديدة «تبلة البحر للطويلة»؟