أحمد عثمان (باريس)
أصدرت مطبوعات غاليمار الجزء الثاني من «الأعمال» ضمن سلسلة «البلياد» (أرقى السلاسل الفرنسية)، كما أصدرت الجزء الخامس من «مراسلات: 1885-1886» للمفكر الألماني فريدريش نيتشه.
قليل من الفلسفات ارتبطت بحياة أصحابها، مثل فلسفة نيتشه. في نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر، كان الفيلسوف مريضاً للغاية، ويعاني بعض المشاكل النفسية: انتهى الأمر باستقالته من جامعة بازل ووزع إقامته بين سويسرا ونيس (الجنوب الفرنسي). ومع ذلك، لم يستطع إنتاج فكر يسكنه أمل النقاهة. في هذا الصدد، تغطي الأعمال التي نشرتها غاليمار في الجزء الثاني مرحلة مهمة من حياته الفكرية والتي تمثل أيضا أساس فلسفته: «إنسان مفرط في إنسانيته» (1878)، و«فجر» (1881) و«المعرفة المرحة» (1882).
على اعتبار أن «مراسلاته» إضاءة بيوغرافية على حياته خلال العامين 1885 و1886، نجد أنها تستدعي حقيقة سيكولوجية وعاطفية تكمن في متنها كثير من المفاهيم النيتشوية: اختلال الجسد، منافذ السوداوية، الآلام البطنية والبصرية، والتي تمثل في نفس الوقت معاناته اليومية، هذه الحقيقة هي: كيف لا يرى المرء آثارها في أعماله، وهو الذي لم يكف عن تأويل تاريخ الفلسفة كما تاريخ مرض طويل؟ في «المعرفة المرحة»، انتقد نيتشه مفكري الغرب لكونهم عقدوا علاقة مزيفة مع الجسد، مما أبعد القراء عن الحياة الصحية والمبهجة. ولهذا السبب انتهى إلى إنكار شوبنهاور، معلمه السابق، الذي رأى أن فلسفته متشائمة، وملقحة بنزعة مسيحية ومناقضة للقوة الحيوية: «لا تنسي أنني أحتقر كائنات مثل (...) أ. شوبنهاور وكذا أشفق كثيراً عليها»، كما كتب لأخته.
وإلى ما سبق تنضاف عزلة ليست عاطفية فقط، وإنما فلسفية أيضاً؛ يشعر بأنه غير مفهوم فكرياً. من دون شك، وجد وهو القارئ المتحمس لمونتاني نفسه في قراءة لابواسيه (مؤلف «العبودية المختارة») القادر على فهم معنى أعماله. «في الحقيقة، لم أجد إلا ثلاثة قراء استقبلوني جيدا: برونو باور، جاكوب بروكهاردت، وهيبوليت تين، وأولهم توفي».
وعلى الرغم من الاعتراف المتنامي به، عانى نيتشه من النشر في ثمانينيات القرن التاسع عشر، حيث صدر له «ما وراء الخير والشر» (1886) بصعوبة بالغة.
في المقابل، كان الفن، بالنسبة له، سلوى كبيرة، الموسيقى، بالأخص، منحته مساندة بلا صدع. كتب الفيلسوف عن صديقه كوزليتز، الملحن الألماني المعروف تحت اسم بيتر غاست: «يعتبر اليوم جزءاً كبيراً من الأمل الذي يغذي الفن، وأرى أن موسيقاه من أجمل الأشياء التي منحتني إياها الحياة»، هكذا كتب إلى النمساوي إرنست فون شوش. عن أعماله الأوبرالية، أعجب نيتشه بمرحها، الذي اعتقد بضرورته في حياة كل إنسان، على عكس فاغنر، الذي أعد موسيقاه عاصفة، مسرحية ومغرورة. ليست البهجة فقط حالة من حالات الروح في الفلسفة النيتشوية، مرتبطة بمفهوم القوة، وإنما أيضاً تحدد الحياة الأخلاقية وتسمح بالتغلب على خيبات العدمية: أفق السلام وازدهار النزعات الفردية في عالم أصبح ممكناً بفضل البهجة. هو ذا وضع أصيل في مشهد الفكر، كما كتب نيتشه في رسالة إلى عمه برنارد ديشيل في عام 1886: «نزع (الفلاسفة) إلى تعميم التجارب السيئة وبسط الحساب الختامي للوجود بأسره». بالتأكيد، يتبدى أن منظور الشفاء الفلسفي والفيزيولوجي يشغل ذهن نيتشه: «معرفة إنسان شفي (...) تجتاحك الأمل، أمل الصحة، نشوة الشفاء». وهكذا تنتهي «رياح الشفاء» بالصفير في هذه المراسلات المكرسة لفلسفة قادرة على مداواة المرضى.