«اللامرئي» يقرأ الواقع الأميركي
يعود الروائي الأميركي الأكثر شهرة ربما، بول أوستر إلى عوالم وأحداث واقعية في روايته التي صدرت مؤخرا بنيويورك ولندن معا عن “الكلمة للنشر” بعنوان: “اللامرئي” أو الخفيّ، وقد حمل الغلاف الأمامي لطبعتها الشعبية عبارة: بول أوستر عبقري الرواية، في الأعلى.. يعود أوستر إلى الواقعي، إنما على نحو يجعل منه شديد الفانتازية وكأنما الأحداث والوقائع الروائية تحدث لأول مرة في التاريخ.
تبدأ الرواية مع العام 1967 أثناء الحرب على فييتنام مع طالب في جامعة كولومبيا في نيويورك، لكنها عبر الشخصيات ترقى بأحداثها إلى القرن الثاني عشر في إنجلترا، وتحديدا مع الشاعر دي بورن، الذي يتقمص هذا الطالب شخصيته وافتتانه بمشاهد الدماء وساحات الحرب والخراب، وذلك عبر حبكة روائية شديدة التعقيد وتستعصي على الشرح، بحسب عبارة المحرر الأدبي لجريدة “التايمز” اللندنية.
شخصية الشاعر/ الطالب الجامعي الطالع من روح القرن الثاني عشر عاش في بلاط الأمير هنري والد الملك هنري الثاني حيث كان شاهد عيان على المؤامرات والدسائس والحروب وجّد الكوارث البشرية التي قامت بها الجيوش.
أيضا هي استعارة عن واقع راهن عاشته أميركا أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي وشهد هذا الشاعر أثناء الحرب كيف جرى تبريرها وكيف فتكت بالبشر وما هي نتائجها، وذلك كلّه انطلاقا من المدينة الأثيرة على قلب أوستر، نيويورك، التي دارت أحداث أغلب رواياته فيها.
في الرواية أيضا استعادة لجحيم دانتي وكوميدياه الإلهية واستعادة لمشاهد مروّعة منه وإعادة رسم للوقائع الروائية فيها، واستدخال لها في المتن السردي للخفيّ أو اللامرئي.
وقد أشاع الناشر الفصل الأول من الرواية وجعله متاحا على الشبكة العنكبوتية كي يغوي القارئ بقراءتها كاملة وما يلي هو اقتطاعه من حوار يدور بين الشخصية الرئيسية الشاعر/ الطالب الجامعي دي بورن مع إحدى شخصيات الرواية التي تبدأ القول:
“...، غير واثق بما سأقوله تاليا، توقفْتُ للحظة ثم سألْتُ سؤالا تافها: وماذا تتعلم في جامعتنا الكئيبة هذه؟
الكارثة.
أهي الموضوع الرئيسي إلى حدّ ما، أليس بإمكانك قول هذا؟
بدقّة أكثر، كارثة الكولونيالية الفرنسية. أدرس مُقرَّرا جامعيا عن خُسْران الجزائر وآخر عن فُقدان الصين الهندية.
تلك الحرب الفاتنة التي أوْرَثتنا إياها.
أبداً لم أبخّس من أهمية الحرب. الحرب هي الأنقى، والأكثر تعبيرا عن الروح البشرية.
بدأْتَ تقول مثلما يقول شاعرنا ذو الرأس المقطوع.
أُه؟
أشعر أنك لم تقرأْه.
ولا حتى كلمة. فقط، عرفتُ عنه من الرحلة في دانتي.
كان دي بورن شاعرا جيدا، وربما، حتى شاعرا من الطراز الأول، لكنّه يشوِّش، على نحو عميق. كتب بضعة قصائد حبٍّ فاتنة ومرثاةً شاعت بعد موت الأمير هنري، لكنّ موضوعه الحقيقي، الذي أبدى حرصا عليه بعاطفة أصيلة، كان الحرب. لقد وجد متعته بالمطلق في الحرب. أدرك ذلك، قال دي بورن، فيما يقدم لي ابتسامة ساخرة، رجل يفتّش عن قلبي.
أتحدّث عن سعادة النظر إلى رجال يمثّلون بجماجمَ مفتوحةٍ لرجالٍ آخرين، وسعادة التفرّج على قلاعٍ متقوِّضةٍ ومحترقةٍ، وموتٍ برماح يطلع من الجوانب، إنها مادة لكتابة تجمِّد الدمَ في العروق، ولم يجفل دي بورن. فكرةُ ساحات القتال فقط، هي التي تملؤه بالسعادة.
أشعر أنك لست مهتما بأن تصبح جنديا.
أبداً، ذهبت إلى السجن عِوَضا عن القتال في فييتنام”.
ويعتبر بول اوستر أحد أبرز الكتاب الأمريكيين الأحياء ولعا بالسينما فهو كاتب سيناريو أيضا. وتصنف رواياته بأنها تقع ضمن ما يُعرف بتيار الواقعية القذرة، لكنه يرفض هذا التصنيف وينظر إلى نفسه على أنه “لاعب” نسيج وحده، غير أن السينما لعبت دورا هاما في تشكيل عالم اوستر. درس اوستر في أمريكا وعاش بعض حياته في أوربا قبل أن يقيم في نيويورك. ولعل ثلاثية نيويورك (مدينة الزجاج، الأشباح، الغرفة الموصدة) خلال العامين 1985 ـ 1986 واحدة من أفضل رواياته، وقد حققت نجاحا مدويا بين أوساط القراء والنقاد، فأعيد طبعها عدة مرات وفي أكثر من بلد أجنبي وترجمت آنذاك إلى العربية وصدرت منها طبعات عديدة بالعربية، ثم أصدر روايات أخرى من بينها “قصر القمر” و”بلاد الأشياء الأخيرة”، وترجمت إلى العربية وصدرت عن الدار نفسها، و”موسيقى الحظ” التي تحولت إلى فيلم سينمائي بالعنوان نفسه، و”وحيدا في العتمة”، وخلال العام الماضي أصدر روايته “الشيطان من ذيله”.