الرجوع إلى الماضي، إلى الجذور والأعماق، يساعد على فهم الكثير من ملامح المجتمعات وسماتها، سواء على المستوى السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الثقافي، فضلاً عن طبيعة شخصيات الشعوب، ومنظومة القيم التي تتبناها وتؤمن بها في نظرتها إلى نفسها أو إلى الآخر. ولا شكَّ في أن الدين أو المعتقَد المقدَّس هو مصدر أساسي من مصادر تشكيل هوية الناس وثقافاتها في المجتمعات والحضارات والثقافات كافة عبر التاريخ، لكن الشخصية الوطنية لأي شعب تتشكل من مصادر مختلفة، فبالإضافة إلى الدين هناك التجارب التاريخية، الإيجابية منها والسلبية، وتأثير الموقع الجغرافي، وطبيعة النشاط الاقتصادي، ونمط العلاقات الاجتماعية، وغيرها من العوامل والجوانب التي لا يمكن فهم أي مجتمع من المجتمعات في أي مكان أو زمان من دون الرجوع إليها.
وإذا أردنا تطبيق هذا الإطار العام على دولة الإمارات العربية المتحدة لفهم سمة أساسية من سمات شخصيتها الوطنية، وهي التسامح، فإننا نكون بصدد محاولة الإجابة عن تساؤلات مهمَّة عدَّة ربما تشغل بال الكثيرين في العالم، وبشكل خاص خارج المنطقة الخليجية والعربية، وأهمها: لماذا تتميز دولة الإمارات العربية المتحدة بالتسامح، وتتبناه، وتتفرَّد في الدفاع عنه وممارسته والدعوة إليه، حتى غدت رمزاً عالمياً له، على الرغم من أنها في منطقة عانت وتعاني الصراعات الدينية والمذهبية، وعرفت، ولا تزال، مظاهر مقيتة من الكراهية والتعصب والغلو؟ وهل هي مصادفة أن يوجد على أرض الإمارات أبناء أكثر من مئتي جنسية تنتمي إلى ثقافات ومذاهب وأديان وأعراق ومعتقدات مختلفة في إطار من التعايش الذي يقل نظيره في العالم، ومن دون أن يثير ذلك أي مظهر من مظاهر التوتر أو الاحتقان الاجتماعي أو الثقافي أو الديني؟ وهل هي مصادفة أن تكون دولة الإمارات العربية المتحدة هي الدولة الخليجية الوحيدة التي يزورها البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، وهي الدولة التي خرجت منها «وثيقة الأُخوَّة الإنسانية» بتوقيع البابا فرنسيس وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، وهي الدولة الأكثر تسامحاً مع أماكن العبادة لغير المسلمين في منطقة الخليج العربي، والأكثر تعبيراً عن التسامح بالقول والعمل؟ وهل هي مصادفة كذلك أن تحتل الدولة المركز الأول عالمياً في مجال المساعدات التنموية الرسمية قياساً إلى دخلها القومي (بنسبة 1.31% في حين أن النسبة العالمية، التي حددتها الأمم المتحدة، هي 0.7%)، وأن تتجه مساعداتها الإنسانية إلى دول العالم كلِّها في الشرق والغرب بعيداً عن أي اعتبارات دينية، أو عرقية، أو مذهبية، أو غيرها، في تجسيد عملي رائع للمعنى الإنساني للتسامح المجرَّد؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي العودة إلى البحث في جذور التسامح بالمجتمع الإماراتي، وهي جذور عميقة وممتدَّة عبر التاريخ، فضلاً عن أنها متعددة الجوانب والعناصر والمصادر، حيث كان للجغرافيا دورها، وكذلك نوع النشاط الاقتصادي، وطبيعة العلاقات الاجتماعية، وتاريخ العلاقة مع الأديان والمعتقدات المختلفة، ودور القيادة، والتوجهات والقيم التي آمنت بها وعملت وفقاً لها، وغيرها من العوامل والاعتبارات، التي تشكل في مجملها مرجعية أساسيَّة لفهم ارتباط قيمة التسامح بدولة الإمارات العربية المتحدة.
دور الموقع الجغرافي
ولا شك في أن الموقع الجغرافي لدولة الإمارات العربية المتحدة كان، ولا يزال، له دوره المهم والجوهري في تعميق قيم قبول الآخر والانفتاح عليه مهما كان عرقه أو دينه أو معتقَده، حيث جعلها هذا الموقع ممراً تجارياً بين الشرق والغرب منذ القدم، ونقطة وصل مهمة بين الدول والحضارات والثقافات، ما أسهم في احتكاك شعبها بشعوب كثيرة أخرى من خلال التجارة، كما أن أبناء الإمارات ذهبوا بدورهم إلى العديد من الدول المجاورة للتجارة والعمل واكتساب العلم والمعرفة، ما عزز معرفتهم بالعالم من حولهم، وما يتسم به من تنوُّع ويزخر به من ثقافات ومعتقدات وقيم مختلفة. لقد كان شعب الإمارات، بحكم سمات الموقع الجغرافي، ولا يزال، على تواصل واحتكاك دائمَين مع شعوب العالم الخارجي منذ القدم، ما أكسبه سمات المجتمعات المنفتحة التي تقبل الآخر وتتعايش معه برغم اختلافه عنها، وتؤمن بالتنوُّع بصفته أمراً طبيعياً وإيجابياً كذلك. وهذا على عكس المجتمعات المغلقة أو الحبيسة جغرافياً، التي تجد صعوبة في قبول الآخر أو التعايش مع ما يؤمن به هذا الآخر من قيم ومعتقدات مختلفة.
اقتصاد ما قبل النفط
وإضافة إلى الموقع الجغرافي، فإن من أهم العوامل، التي جذَّرت قيمة التسامح في المجتمع الإماراتي، طبيعة النشاط الاقتصادي في مرحلة ما قبل اكتشاف النفط، حيث تمثل هذا النشاط بشكل أساسي في الصيد والرعي والبحث عن اللؤلؤ، وكل هذه الأنشطة عززت قيمة التعاون والتكافل داخل المجتمع، وما يقتضيه ذلك من تسامح ومحبة بين الناس، فعلى سبيل المثال كان صيد اللؤلؤ يستغرق شهوراً طويلة في عرض الخليج العربي، وخلال هذه الفترة كان كلُّ مَن على مركب الصيد يتحولون إلى كتلة واحدة مترابطة ومتعاونة ومتسامحة في مواجهة المصاعب والأنواء والمفاجآت الخطيرة، لأنه من دون التعاون لا يمكن لرحلة الصيد أن تحقق أهدافها، فضلاً عن أن رحلات الصيد هذه قد عززت من مفهوم المصير الواحد بين المشاركين فيها، وهو مصير لا يمكن ضمانه والحفاظ عليه في بيئة مليئة بالمخاطر والتهديدات، إلا عبر نبذ الأحقاد والضغائن، وسيادة الحب والتسامح والروح الواحدة. وخلال الغياب في رحلات الصيد الطويلة كانت قيم التكاتف والتضامن والتسامح تسود بين أفراد الحي أو «الفريج» للتعامل مع أعباء الحياة ومتطلباتها، ما جعل هذه القيم بمرور السنوات وتواتر الممارسة تترسَّخ في ثقافة المجتمع، وتتحول إلى مرجعية أساسية في تعامله مع الآخر.
التنوع والوسطية
وفضلاً عمَّا سبق، فقد عرف المجتمع الإماراتي التنوع في المعتقدات والمذاهب والأديان منذ زمن بعيد، وهذا ما دلت عليه الكشوف الأثرية في جزيرة صير بني ياس في عام 1992، حيث أثبتت هذه الكشوف أن الجزيرة كان بها أقدم دَير وكنيسة مسيحيَّين في المنطقة يعودان إلى الفترة ما بين القرنين السابع والثامن الميلاديين، ولعل هذا ما يفسر القدرة على قبول التنوع التي تميز أبناء الدولة، وما يتسمون به من الاعتدال والوسطية وقبول الآخر، حيث كان وجود هذا الدَّير دليلاً قاطعاً على التعايش الذي كان يسود المنطقة بين المسيحيين والمسلمين منذ زمن طويل، وهو تعايش جسَّدته أقوال وأفعال المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، والقيادة الإماراتية بشكل عام، على مدى السنوات الماضية.
ولاشكَّ في أن الآليات التي تم اتباعها لتسوية الخلافات والسيطرة على النزاعات بين الناس في المجتمع القَبَلي القديم في المنطقة، لها دورها المهم كذلك في تعزيز قيمة التسامح في الثقافة الإماراتية، حيث كانت هذه الآليات تعتمد على حل الخلافات من خلال الوساطة والتراضي والحكمة والاستناد إلى مخزون القيم الأخلاقية التي تميز مجتمع الصحراء، وهذا كله ما كان ليتم إلا في إطار من التسامح الذي يسمح بتقديم التنازلات المتبادَلة، والصفح عن الأخطاء، والتغاضي عن العداوات، والعفو عند المقدرة، وغيرها من الصفات والسمات الأخلاقية السامية التي تعمَّقت وتعززت في وجدان أبناء الإمارات يتوارثونها جيلاً بعد جيل. وللشيخ زايد، رحمه الله، مقولة رائعة وعميقة في هذا المعنى تؤكد أن التسامح كان هو الإطار الحاكم لتسوية الخلافات في المجتمع، حيث قال: «التسامح واجب، إذا كان أعظم العظماء الخالق عز وجل يسامح، فنحن بشر كلنا إخوة، المصيب أخ، والمخطئ أخ، لا نترك المخطئ ولا ننبذه، بل نساعده وننجده ليصل إلى الطريق الصحيح».
لقد قام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1971 على التسامح، فمن خلال التسامح تم تجاوز الخلافات وتباين وجهات النظر، وهو ما أتاح توحيد المواقف والأهداف، ومن خلال التسامح تمت معالجة بعض المشكلات الحدودية بين الإمارات قبل الاتحاد، ومن خلال التسامح والتسامي فوق التباينات تم وضع هدف إقامة الاتحاد على قمة الأولويات والأهداف متقدماً على أي هدف أو مسعى آخر. وكما قلت في مقالي، الذي نُشِر في هذه الصحيفة الغراء يوم 4 مارس 2019 بعنوان «دولة الإمارات العربية المتحدة عاصمة عالمية للتسامح»، فإن الشيخ زايد، طيَّب الله ثراه، كان نموذجاً للتسامح في المفاوضات التي سبقت قيام الاتحاد، ولذلك عندما سُئل: ما التنازلات التي قدمتها أبوظبي إلى شقيقاتها في سبيل الاتحاد؟ وما التضحيات التي يمكن أن تقدمها في المستقبل في سبيل تحقيق الوحدة المنشودة؟ أجاب، رحمه الله: «نحن لا نسميها تنازلات، هي واجبات الأخ نحو أخيه، وما نقدمه في المستقبل لا نسميه تضحيات، إنما هو تعاون الشقيق والصديق مع صديقه، ذلك أننا مقتنعون بأن الآمال والآلام واحدة، والمصير مشترك».
الوحدة والتسامح
وإضافة إلى كل ما سبق، فإن فكرة الوحدة التي ميزت تاريخ الإمارات منذ القدم، هي في حد ذاتها تمثل الوجه الآخر للتسامح، ولعل الشيخ زايد، رحمه الله، قد عبَّر عن هذا الترابط القوي بين الوحدة والتسامح بعبارة عميقة حيث قال: «لولا التسامح ما أصبح صديق مع صديق، ولا شقيق مع شقيق»، أي أنه من دون التسامح لا يمكن للناس أن يتوافقوا ويجتمعوا ويتحدوا حول هدف واحد. وعلى الرغم من أن الشيخ زايد، رحمه الله، هو رائد الفكر الوحدوي في الإمارات والمنطقة العربية برمتها، فإن الوحدة كانت حاضرة بوضوح في تاريخ الإمارات منذ القدم، وكان جد الشيخ زايد بن سلطان، الشيخ زايد الأول (1836-1909) سبَّاقاً إلى الدعوة للوحدة بين القبائل في المنطقة، ونبذ مظاهر الفرقة والشقاق والصراع التي كانت تميز الحياة في البادية بشكل عام. والنتيجة التي نخرج بها من ذلك هي أن فكرة الوحدة متلازمة مع تاريخ الإمارات، ما يعني أن قيمة التسامح كانت متلازمة مع هذا التاريخ كذلك، لأنه لا يمكن الفصل بين الوحدة والتسامح.
وفي ضوء كل ما سبق يمكن القول إن قيمة التسامح التي تتبناها دولة الإمارات العربية المتحدة قولاً وفعلاً، وترى أنها أساس السلام والتنمية والاستقرار ومواجهة الإرهاب والتطرف والتعصب والكراهية في العالم، ليست قيمة طارئة على تاريخها، وإنما لها جذورها الراسخة والعميقة والممتدَّة في هذا التاريخ، وهو ما يكسبها الاستمرارية والثبات في السياسة الإماراتية من ناحية، ويجعلها قاسماً مشتركاً بين القيادة والشعب، أو بين القيادة والمجتمع، من ناحية أخرى.
*كاتب إماراتي