دمشق - فاطمة شعبان:
تجربة الفنان ممدوح قشلان، تجربة طويلة وغنية، فهو من مواليد دمشق 1929 درس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، وأصبح مدرساً للفنون في أكاديمية ليوناردو دافنشي في القاهرة بين عامي 1959 - ،1961 ويحمل لقب أستاذ شرف من أكاديمية الفنون الجميلة في صقلية في إيطاليا·
أسس متحف الفنون المدرسية في دمشق عام ،1969 ويعتبر من أول المؤسسين لنقابة الفنون الجميلة في سوريا والتي ترأسها بين عامي 1969 - ،1974 وهو من المؤسسين للاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب، وشغل فيه منصب نائب الأمين العام بين عامي 1971 - ·1975
والفنان قشلان ناقد وكاتب متخصص بالفنون التشكيلية، ألف كتابين عن الفنانين لؤي كيالي ومحمود جلال، بالإضافة إلى أكثر من عشرة كتب تعليمية في الفن ومجالاته وأصول تدريسه وفي الثقافة الفنية للمعاهد الفنية العالية· ويدير حالياً صالة إيبلا للفنون الجميلة في دمشق، التي أسسها عام 1980 وتعتبر من أقدم صالات العرض في سوريا· وخلال مسيرته الفنية الطويلة أقام أكثر من 80 معرضاً لأعماله في العديد من دول العالم، ولوحاته محفوظة ومقتناة في المتاحف والمؤسسات الرسمية السورية، وفي العديد من المتاحف العالمية والمجموعات الخاصة في أكثر بلاد العالم·
حول تجربته الطويلة كان لنا معه الحوار التالي:
؟ تتناول معارضك مدينة دمشق القديمة، ما الذي تعنيه لك هذه المدينة؟
؟؟ خلال تجربتي الفنية الطويلة، شكل موضوعان أساسيان هاجسي الفني بشكل مستمر، هما دمشق القديمة والأمومة· دمشق القديمة المدينة التي ولدت ونشأت فيها، وتشربت تقاليدها وعاداتها الاجتماعية وموروثاتها، هذه المدينة التي تعيش في دمي منحتني كل شيء، وأنا عندما ارسمها أرسمها محبةً ووفاءً لها، أرسمها لأعرف العالم بها، لذلك لوحتي الدمشقية لا تشبه أي لوحة أخرى، وليست منظراً منقولاً حرفياً وإنما لوحة مرسومة بروحانية، لوحة تفيض بالمشاعر والأحاسيس·
؟ وموضوع الأمومة؟
؟؟ رسمت مئات اللوحات التي تعبر عن موضوع الأمومة، وفي كل لوحة كنت ارسمها كنت اشعر بأن هناك المزيد مما يستحق التعبير عنه، وذلك لأسباب خاصة بي، فقد فقدت والدتي عندما كنت طفلاً صغيراً، لذلك أتت لوحاتي عن الأم والأمومة كنوع من التعبير أو التعويض عن هذا الفقدان المبكر لكل ما تعنيه الأم في حياة الإنسان·
فخ التكرار
؟ عندما تركز على موضوع واحد، ألا تخشى الوقوع في فخ التكرار والنمطية؟
؟؟ لا يوجد في الفن تكرار بل إبداع فقط، عندما عبر شعراء الغزل عن الحب، امرؤ القيس وعنترة وكثير عزة وغيرهم، عبروا عن الحب بقصائد مطولة ومعلقات، ولم تصب شاعريتهم بالملل أو النمطية والتكرار· كل قصيدة كتبها أحد هؤلاء الشعراء في الحب كانت مختلفة بما تحمله من مشاعر وأحاسيس عن الأخرى· وكذلك أنا، مدينتي هي حبيبتي التي اعشقها، لا أمّل أبداً من التعبير عن عشقي لها· كل يوم أرى فيها شيئا جديدا يحتاج للتعبير عنه، ربما لا يرى غيري هذا الشيء الجديد لأنه يراها من منظور واحد، أنا أرى في مدينتي ما لا يراه غيري، أدقق وألاحظ وأعبر عن كل جديد اكتشفه بين زواياها، ارسم اكثر من لوحة للمشهد الواحد، ولكن في كل لوحة أرسمه من زاوية مختلفة، من قريب أو من بعيد، من الأسفل للأعلى، أو من الأعلى للأسفل، وفي كل مرة أراه برؤية وأحاسيس مختلفة· لذلك لا يمكن تكرار نفس المنظر ولا نفس المشاعر والأحاسيس، ولا نفس الرؤية، لان كل لوحة تحمل رؤية ومشاعر وقيم جديدة·
فضاءات
؟ فضاءات لوحاتك تبدو أكثر اتساعاً مما هي عليه في الحقيقة، عن ماذا تبحث فيها؟
؟؟ أبحث عن فضاءات أوسع من العادية، عندما أرسم اللوحة أحللها إلى مساحات صغيرة وبقع متعددة، إذا جمعنا مساحات كل هذه البقع تنتج لدينا مساحة أكبر من المساحة الفعلية للوحة، تصبح فضاءاتها أوسع، وتمنحني أوسع الآفاق للإبداع في لوحة مساحتها قليلة، من خلال الإضاءات والانعكاسات والانحرافات والتحليلات اللونية لهذه الفجوات والجزئيات تصبح أبعادها اكبر، هذا الأسلوب يسمى البعد المجهول، وقد انفردت بهذا الأسلوب التشكيلي· كما انفردت بتنفيذ البانورامات الكبيرة الحجم لمدينة دمشق، عبر تاريخ الفن قلة من الفنانين هم الذين استطاعوا تنفيذ البانورامات الضخمة، أنا أوجدت لدمشق القديمة هذه البانورامات الضخمة، التي تعبر عن رؤية شاملة أكبر بكثير من الرؤية الشاملة التي تظهرها الصور الفوتوغرافية· نرى ضمن اللوحة البانورامية نقاط المنظور في كل الاتجاهات، والمساحات كلها تتحلل إلى أبعاد متراقصة، فيها تدرجات لونية لا نهائية، تعطي أبعاداً أكبر مما هي عليه في الواقع· استطعت من خلال هذين الأسلوبين إيجاد الحلول الفنية التي تتلاءم مع مشاعري، ومع ما ارغب في عرضه من رؤى احملها عن دمشق، لتظهر دمشق القديمة المحدودة المساحة كأنها لا تقف عند حد·
؟ تركز في لوحاتك بشكل دائم على الطرز المعمارية لمباني المدينة بينما يتحول سكان المدينة وأنماط حياتهم إلى لوحات أو رموز ضمن اللوحة، لماذا؟
؟؟ لأن الهدف الأساسي من لوحاتي هو التكوين المعماري للمدينة، ورسم الأشخاص يفقد هذا التكوين هدفه، وهدفي هو استلهام هذا التكوين المعماري العفوي والفطري الذي لم يخضع للضوابط الهندسية بقدر خضوعه للحاجات الإنسانية والاجتماعية والروحية والاقتصادية لسكان المدينة، والتي أدت بالتالي إلى بناء المدينة بهذا الشكل غير المنتظم· وأنا عندما أرسم هذا التكوين المعماري غير المنتظم للمدينة، أعبر من خلال هذه اللوحات عن الحياة التي يعيشها سكان المدينة·
مدينة هرمة
؟ عمائر دمشق القديمة مشهورة بغنى وتنوع ألوانها من الداخل ومحدوديتها من الخارج، لماذا عكست هذه المعادلة في لوحاتك؟
؟؟ تعتبر مدينة دمشق من أقدم مدن العالم المأهولة بالسكان اليوم، هذا يعني أنها أصبحت مدينة هرمة، وبدأت الشيخوخة تدب في أوصالها، وأبلغ تعبير عن حالة الهرم هذه مبانيها وبيوتها المنحية التي تسند بعضها البعض، ألوانها أصبحت كامدة تميل إلى الترابيات والرماديات· إذا أراد الفنان التعبير عن هذه الصورة الواقعية للمدينة تصبح ألوان اللوحة متقاربة، أو كأنها ملونة بلون واحد مع بعض تدرجاته، وتصبح عندها أشبه بصورة فوتوغرافية· لذلك لا أسعى من خلال لوحاتي إلى إظهار مدينتي التي أعشق بصورتها الواقعية، إنما أسعى لاستلهام الرؤى الروحية والجمالية للمدينة وتوظيفها في اللوحة، لأنني أريد للمتلقي أن يرى دمشق القديمة من خلال هذه الرؤى الروحية والجمالية التي أراها فيها، من خلال عيوني التي لاتزال ترى دمشق كما رأيتها في طفولتي شابة نضرة وجميلة·
؟ لهذا ترسم اللوحة مرتين، الأولى بالأسود والأبيض والثانية بهذه الألوان الفرحة والحارة؟
؟؟ هذا صحيح، أرسم المنظر بالأبيض والأسود أولاً، كما يبدو حقيقة في الواقع، ثم أخضع هذا المنظر لدراسة لونية، قبل أن أبدأ برسم اللوحة الفعلية بالألوان· خلال دراستي للفن تأثرت بأسلوب 'غوغان' اللوني، الذي يعتبر من أوائل الفنانين الذين لفتوا النظر إلى الألوان الاستوائية القوية والحارة والصارخة، وقمت بعمل دراسات وأبحاث على الألوان التي استخدمها في تلوين لوحاته، واستطعت تطوير هذا الأسلوب اللوني باستخدام تدرجات غير محدودة من كل لون، وأصبح اللون ينتشر في جميع أنحاء اللوحة، لتصبح أشبه بلوحة فسيفسائية تكثر فيها المنمنمات، والتلاعب بانعكاسات الظل والخيال والضوء يمنحها هذا الغنى والتنوع· في كل المعارض التي أقمتها خارج سوريا كانوا يسألونني عن حقيقة هذه الألوان، هل هي موجودة في الواقع فعلاً، فأجيبهم لا، هذه الألوان تعبر عما يجول في قلبي وروحي من مشاعر وأحاسيس تجاه مدينتي·
اللوحة كوثيقة
؟ تظهر اللوحات الدمشقية القديمة المباني والأماكن التي لم يعد لها وجود اليوم، برأيك هل يمكن اعتبار اللوحة الدمشقية اليوم وثيقة تؤرخ للمدينة والتبدلات التي طرأت على بنيانها المعماري؟
؟؟ بالتأكيد، فقد أصبحت بعض اللوحات القديمة وثائق تاريخية، تظهر فيها العديد من المباني التي زالت من الوجود اليوم بفعل الإهمال وعدم الاهتمام بالحفاظ على هذا الإرث الحضاري والتاريخي· وعندي عدد كبير من اللوحات المرسومة بالأبيض والأسود لأماكن وأبنية سواء في المدينة القديمة داخل السور أو في الأحياء القديمة خارج السور لم تعد موجودة الآن· كنت أنقل في هذه اللوحات عن الواقع مباشرة وبمنتهى الدقة، هذه تبقى وثيقة، وقد سبقني إلى استخدام أسلوب التخطيط بالأبيض والأسود العديد من الفنانين الدمشقيين، منهم خالد معاذ وناظم الجعفري ويملكون عدداً كبيراً من هذه الرسوم التي يمكن اعتبارها وثائق تاريخية، تؤرخ لاماكن اندثرت حتى قبل أن أبدأ أنا بالرسم·
؟ اليوم هناك عدد من الفنانين التشكيليين الذين تشكل دمشق القديمة موضوع لوحاتهم الرئيسي، برأيك هل يمكن اعتبارهم يشكلون مدرسة فنية؟
؟؟ لا يمكن اعتبارهم مدرسة فنية، لأن لكل واحد منهم اهتماماته وأسلوبه وشخصيته الفنية، وتختلف نظرة كل منهم للمدينة ورؤاه الفنية عن الآخر، ومنهم الفنان الأصيل ومنهم المقلد·
؟ لماذا لا نرى في أعمالك لوحات تعبر عن دمشق الجديدة؟
؟؟ رسم المدن الحديثة يستهوي الفنانين التجريديين أكثر مما يستهويني، يجدون فيها خطوط طول وعرض تملأ مساحاتها، أنا لا أشعر بالانسجام مع المدن الحديثة لأنها لا تعطيني حوافز فنية مثلما تعطيني المدن القديمة، لذلك لا اشعر بالرغبة في التعبير عنها· ثم أنني لا املك تاريخاً وذكريات عن دمشق الحديثة مثلما املك عن دمشق القديمة، كما تفتقد إلى الحياة التي يستمد منها الفن رؤاه·
ممدوح قشلان: دمشق تعيش في دمي


المصدر: 0