«سيقولون بعد زمن طويل، هنا كانوا، هنا عملوا، هنا أنجزوا. هنا ولدوا، وهنا تربوا، هنا أحبوا، وأحبهم الناس. هنا أطلقوا ذلك المشروع، وهنا احتفلوا بإتمامه، من هنا بدأوا، وهناك وصلوا في سنوات معدودات» "محمد بن راشد آل مكتوم"
المتأمل في الخطوات التي يرسمها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في كتاب «قصتي/ 50 قصة في خمسين عاماً»، كفيلة بأن تذهب به على النحو الذي فعله «بناة العالم» من العلماء والفلاسفة والقادة العظماء.
فأعظم موهبة أو «هبة سماوية» للبشر، تتمثل في العلم والأخلاق الحميدة، كما جاء في النص القرآني العظيم «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (247 البقرة).ُ
الحكمة والمحبة
لا غرو أن المحبة والحكمة، صفتان تتنزلان على البشر، وبحسب ما جاء في بعض التفاسير، فإن «الحكمة هي عصارة التجارب الحياتية وإفراز للحوادث والنوازل وإلهام بعد تفكير وتدبر للأمور. والحكمة هي نتيجة قناعة راسخة. والحكمة نظر في المآل واستخلاص للعاقبة بعد استشراف للمستقبل ومعرفة للمقصد». أما المحبة فتأتي هكذا «الحب هو أساس الحياة، ولا يمكن أن تستمر المجتمعات البشرية من دون هذا المحرك، لأنها ببساطةٍ سوف تتحول إلى غابةٍ تحكمها المصلحة، والفائدة، وهذا ما يناقض الطبيعة، والمنطق الرباني».
إذن، تقترن الحكمة بالمحبة اقتران العاشق بالمحبوبة، وكما نهرين عذبين يمتزجان بعضهما ببعض، ولكل منهما دروبه ومساره، واكتساب تلك الصفات والمحافظة عليهما لا تأتي بين ليلة وضحاها، إلا أنها عملية سيكولوجية، تعتمد دائماً على العقل والاتزان والمنطق وعدم الإسراع في اتخاذ القرارات المصيرية المعقدة التي تعني المجتمع والشعب، وبلورة تلك الأفكار وربطها بعضها ببعض يحتاج إلى خيط رفيع وقوي، وهذه الخيوط - مجازاً- مقرونة أيضاً بالإخلاص والعمل الدؤوب وسعة الصدر والعفو والمقدرة.
وبالتالي فنحن أمام بحر أو محيط يفيض من الحكمة والمحبة، وحين نسبر أغوار هذا الكتاب «قصتي»، أفهم الإهداء الذي وصلني من صديق «اقرأ محمد بن راشد.. لتعبر إلى الضفة الأخرى من العالم».
لا بد من الإشارة إلى ذلك الاحتفاء الكبير الذي لاقى هذا الكتاب والقراءات الضافية فيه من قبل شريحة كبيرة من الأدباء والمثقفين، وهو ما يذكر بأديب القرن تشارلز ديكنز، ونحن نسترجع القرن التاسع عشر تحديداً. فديكنز يعتبر واحداً من الأدباء العظماء الذين مروا على هذا العالم وتركوا لنا إرثاً خالداً لا ينضب، وهو يعتبر أيضاً من «بناة العالم» مع ثلة من كبار الأدباء معاصريه أمثال: تولستوي، واستندال، وكلايست. لكن الاحتفاء بديكنز من قبل «الديكنزيون القدامى»، يستحق الوقوف عنده. في ذلك يقول ستيفان تزيفايج: «ما كان للمرء أن يسائل الكتب والسير، عن مقدار ما كان معاصرو تشارلز ديكنز يكنون له من الحب، فالحب لا يعيش ويتنفس إلا في الكلمة المنطوقة، ولابد للمرء أن يلتمس أن يروي له ذلك، وأحسن ما يكون من لدن إنجليزي يبلغ بذكريات صباه إلى ذلك الزمان الحافل بضروب النجاح الأولى، إلا أن يسمي ديكنز (...) ففي تلك الأيام كان القراء يستقبلون بافتتان عارم تلك الكراريس الروائية الشهرية الزرق، التي يعتريها الاصفرار اليوم (...) وعند القراءة كان واحدهم ينظر في صحيفة الآخر من وراء كتفه، وكان آخرون يتلون بصوت عالٍ، على أن أولئك الذين كانوا أطيبهم قلباً، كانوا هم وحدهم الذين يسعون حثيثاً ليأتوا بالغنيمة إلى أزواجهم وأولادهم على نحو أسرع، وكذلك كانت كل قرية، وكل مدينة، والبلاد بأسرها، وفوق ذلك العالم الإنجليزي المستوطن في القارات كلها، يحبون ديكنز مثلما أحبته هذه البلدة الصغيرة».
على هذا النحو، نقرأ إصدار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ونتتبع سيرته الباهرة في الحياة الخاصة والعامة، من الطفولة إلى الرجولة.
الأسئلة الكبرى
لقد شدتني القراءات التي تابعتها حول كتاب «قصتي» ما استدعاني إلى البحث عنه، في المكتبات التقليدية، وتواصلت مع العديد من الأصدقاء والأدباء والشعراء على أمل أن أحظى بنسخة منه، إلا أن محاولاتي كلها كانت بلا جدوى، فمن حظي بنسخة منه لا يريد أن يفرّط بها، خصوصاً أن أغلبها يحظى بتشريف توقيع وكلمات إهداء من قبل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
الكتاب يطوي الأسئلة الكبرى نحو الوطن، ونحو الإنسان الأول، وكيف عاش، وكيف تنقل، وكيف ترجم طموحاته وآماله، بل كيف تغلب على الآلام، ثم كيف واجه قسوة الحياة وصمد أمام الصعوبات من الفقر والأمراض. والأهم كيف صنع مجده بيده، وكيف تعلم دربة الإنصات، وكيف تعلم أبجدية الحكمة وفن المنطق والكلام.
محمد بن راشد آل مكتوم، هو سمو الفعل، بالنسبة لهذا الجيل الشاب الطموح، قبل أن يقترن اسمه بأي شيء آخر.
مدرسة الصحراء
«ما أقسى البشر، وما أجمل الصحراء».
بدأت بقراءة صفحات هذا الكتاب (بعد سقوط قرص الشمس)، اخترت زاوية بعيدة على الساحل، وأخذت أقلّب الصفحات بنشوة عالية وكما لو أن هناك قوة غرائبية وجاذبية تشدني إلى السطور.. خرجت شخصيات وشخوص من بطن الكتاب وانبثقت أمامي شاشة عملاقة لتعبر أمامي على شكل قوافل تسير بخطى ثابتة مصحوبة بأهازيج البدو، وترتفع يامال وأهازيج البحارة السمر.
يحتوي الكتاب على روافد ومعانٍ إنسانية كبيرة عميقة تتجلى بالمعنى الفلسفي الشاعري، وتتشعب تلك المفردات الحبلى بالتجارب والمحاكاة عبر الحياة والمعيش اليومي، حيث مصير الإنسان مرتهن بين الحياة الفضلى بين البشر، أو النأي عن الحساد والعذال، إلا أن تربية الروح وصفاءه وامتلاك تلك النظرة البعيدة لا تكمن سوى بالعزلة، ومن الحكم القديمة العالقة في الذهن أن (الحياة مدرسة).. فعلاً الحياة مدرسة كبيرة ونحن تلاميذ دائمون، هناك من ينجح فيها ويعتلي سبل المجد، وهناك من يظل حبيس القيعان، وتلك الدروب بحاجة إلى الصبر والتأني وسعة الصدر، وعدم الركون إلى الاتكالية والأنانية.. تلك دروس نستلهمها من كتاب «قصتي»، عجنها المؤلف بتجربة مديدة، غزيرة، دفّاقة، وكأنه بذلك منح العزلة آفاقاً غير تلك التي عاناها الكتّاب، وعبر عنها المبدعون، فعزلة الأرواح الكبيرة، تنطلق من إشارات سيكولوجية تخبر بأنها بحاجة إلى رحلة عبر شرايين العالم، وبالتالي فإننا حين نتوارى عن الأنظار، فإننا نلبي تلك النداءات الخفية، الساحرة، المنبثقة من جرح شريان ننزفه، كي نطبب ذواتنا ودواخلنا، كما النسور التي تعتلي القمم الشاهقة البعيدة عن أنظار البشر، وهو ما عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بقوله: «ما أقسى البشر، وما أجمل الصحراء». فقد اختار الطبيعة رغم قسوتها، وهو ما يذكر بتأملات الروائي إبراهيم الكوني عن الصحراء.. الصحراء لا يعرفها إلا من خاض رمال البشر (بنعال من الريح).. هكذا نغترف من كتاب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم جملة مقتضبة، تحتوي معاني شاعرية وتجربة إنسانية هائلة!
مع الخيل
«قبل الثامنة، علمني والدي كيف أعيش في الصحراء، مع هوامها ودوابها؛ مع ذئابها وغزلانها؛ مع بردها وحرها وتقلباتها. بعد الثامنة، علمني والدي كيف أعيش في المدينة مع البشر. ما أقسى البشر، وما أجمل الصحراء».
حسناً، سأقول مرة أخرى بأنني أيضاً أحببت تلك الجملة «تعلمت من خيلي»، وستعود بي الذاكرة إلى الرواية العظيمة «وداعاً يا غولساري» للكاتب جنكيز إيتماتوف (1966م). في هذه الرواية سوف ينتشلنا إيتماتوف على ظهر غولساري ويطوف بنا نحو السهوب ومرابع الطفولة، حيث الحقول والورود، حيث الأمطار والعواصف الرعدية، وكذلك ليالي الشتاء الباردة وكيف يغطي الثلج واجهة الحياة، لكن هنا في هذه القصة التي أراد سموه أن يبعثها في نفس القارئ هي ألا يرتهن إلى الكسل أو التراجع والتخاذل، عليك أن تقاتل بشرف من أجل الهدف السامي، الهدف المنشود، لا تستسلم عند أول عثرة، إذا سقطت انهض، انفض عنك غبار اليأس، كن أنت، لا تقلد أحداً، لا تلبس قناعاً، كن أنت، خذ نفساً عميقاً وتوكل على القدير، لا تراهن على نصف انتصار، ارمي سهمك بثقة واطمئنان ولا يعيقك رده يوماً، هناك رغبات مدفونة في دواخلنا وفي أعماقنا السحقية كيف ننتشلها، ثم كيف نوظفها بشكل رائع وإيجابي تخدم المجتمع، بل تخدم البشرية برمتها، هي لمسة، لمسة الإنسان الشاعر بمقدوره أن يوقظ هذا السبات، ويعدو به في مضمار الأيام، وهكذا هم الكبار دوماً صدورهم مشرعة كالجبال وقلوبهم بيوت وسكن للعشاق، وهذه نظرة إنسان متمرس يجيد لغة وإيقاع الخيل، وتربطه علاقة صداقة حميمة مع كائن أليف كما في الميثولوجيا (الحصان هو أول صديق للبشرية). لا غرو أن الحصان يمتاز بالجمال والهيبة والقوة، وكما جاء في الأثر (علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل).
نلقي نظرة حميمة وصديقة على الميثولوجيا نجد أن الخيل فرت عقب انهيار سد مأرب، وهذا الاقتران يثير دهشتي ويدعو إلى التمعن من حيث إن القبائل العربية أيضاً تشتتت سنة 750 قبل الميلاد تقريباً، وأثناء هذا الحدث فرت الخيول إلى البراري العربية وتوحشت، إلا أن الأسطورة الجاهلية ترفد أن خمسة من الأعراب خرجوا إلى بلاد نجد وهم: جذران، وشوية، وسباح، العجوز، وشراك، وأثناء ذلك شاهدوا خمسة من جياد الخيل وكرائمها، فاحتاروا بطريقة صيدها، لذا كمنوا لها بالقرب من مورد الماء وبطريقة بدائية قطعوا من الألواح الخشبية ونصبوا الفخاخ، وماهي إلا ساعات حتى نجحت الحيلة وسقطت الخيول في الكمين، لكن السؤال الذي يطرح في هذا الموضع هو كيفية ترويض الخيل، لذا توصلوا إلى حيلة ذكية هي تجويع الخيول وتركها فترة من الزمن، لكن في غضون ذلك أخذوا يترددون عليها ويقتربون منها، ثم إن الحيوان بطبيعته الفطرية يتآلف مع البشر، لكن الإشكالية أن تلك المخلوقات الجميلة تمتلك عزة وكبرياء لا يفهمها إلا فارس متمرس، إنها تحزن كما البشر، تعشق وتتألم وتبكي لكنها لا تنكسر، لذا يتعمد الفارس ملاطفتها والتودد إليها، فتعشق صاحبها وتصهل كما لو أنها تغني له، وتميز صوته بين ضجة البشر، ولديها القدرة على فهم وترجمة الإشارات.. الخيل تسرح وتتأمل بعينين دافئتين بالحنان كلما اقتربت منها تظل مخلصة ووفية، تذود عنك أمام الأعداء، لا تبرح ولا تهزم إذا ما سقط الفارس.
تلك الخيل التي تعلم منها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وكتب عنها: «تعلمت من خيلي أنه عندما تحب شيئاً واصل فيه حتى النهاية، عندما تريد إنجازاً أعطه كلك، لا تعطه بعضك، إلا إذا كنت تريد نصف إنجاز، أو نصف انتصار!».