أحمد بن درويش خوري يروي سيرة أبوظبي
لم يكن هاجس جمع الرواية الشفوية قد استولى على تفكيري فقط عندما نويت إجراء هذا الحوار مع هذه الشخصية الفريدة، فالوالد أحمد بن درويش خوري المولود في أبوظبي، في بيت علم ودين وثقافة موروثة أباً عن جد في هذه العائلة الكريمة، التي تعود جذورها إلى علماء المدينة المنورة، فبالإضافة إلى الذاكرة الحية الثرية، التي تتذكر دقائق الحياة في أبوظبي الأربعينات، حيث كان الناس يسكنون في خيام لا كهرباء ولا ماء عدا ما تجود به السماء من ماء المطر، وما تجود به الأرض من مياه الآبار المالحة، المختلطة بالرمال، فهي تسجل بكاميرا لا تقل دقة وروعة مظاهر الحياة في جزيرتي دلما وداس، وقد قضى شطراً كبيراً من حياته في العمل فيهما، لم يكن التاريخ غير المدون لإمارة أبوظبي فقط هو ماكنت أبحث عنه، بل كان الهاجس الأول هو ما تختزنه هذه الذاكرة من شعر وقصيد له هو شخصياً ولشعراء كبار عاصرهم وزاملهم في العمل وحفظ منهم الكثير من شعرهم الذي لم يدوّن ولم ينشر من قبل·
عمار السنجري
زرته في منزله العامر في مدينة زايد في العاصمة أبوظبي وكان هذا الحوار، الذي استهله بتحديد تاريخ مولده بقوله: ''ولدت في أبوظبي سنة 1934 م في شهر ديسمبر شهر ,·12 ولدت في خيمة على البحر في فريج القبيسات''·
؟ أين في أبوظبي بالتحديد، فاليوم أبوظبي العاصمة مدينة كبيرة حديثة وتختلف عن أيام الأربعينات كما تعرف؟
؟؟ ولدت في خيمة من الخيام التي كان يسكنها أهالينا في أبوظبي على البحر، لم تكن هناك في تلك الأيام بيوت مبنية، وبالتحديد في المنطقة التي تسمى اليوم ''الكورنيش'' بالطبع لم يكن هناك ''كورنيش'' كانت المنطقة كلها عبارة عن براحة رمال ليس فيها غير النخيل ومنصوبة فيها خيام· وأذكر عندما كان يهطل المطر يتجمع الماء عند منطقة المرور اليوم، ونحن كنا نذهب نجمع (الدرامات) لنعبئ فيها ماء المطر هذا ونأخذه للبيوت، أقصد الخيام التي كنا نسكنها، لنستخدمه في الشرب والطبخ وما إلى ذلك· لم يكن عندنا ماء في البيوت مجرد خيام على البحر، وكان الناس يقومون بحفر بعض الآبار قرب قصر الحصن الذي هو اليوم مبنى المجمع الثقافي، جنوبي الحصن، هناك يحفرون يسمونه ماء غربي بعد ثلاث أيام تقريباً يتحول إلى ماء مالح تزداد ملوحته أكثر، الماء أبيض اللون فيه رمال مختلطة وحتى بعض الدود الدقيق نراه فيه ومع ذلك كنا نشربه للحاجة لم يكن أمامنا خيار آخر، وعندما يقدم، أي يصبح قديماً يحفرون في غربي القصر يسمونه ماء خريجة وأيضاً كان أبيض اللون مثل السابق، تبيعه النساء قديماً في قِرب، القرب المصنوعة من جلد الغنم، وكنا نشتري القربة بنصف روبية، والنساء كانت تبيعها في السوق، سوق السمك··
سوق السمك
؟ أين كان موقع سوق السمك؟
؟؟ السوق كان عبارة عن ''عرشان'' من دعون وسعف النخيل من دون كهرباء ولا ماء، بعد المغرب كل صاحب دكان يغلق محله ويذهب إلى بيته أي إلى خيمته، والسوق كان في مكان مسجد الشيخ خليفة، بالضبط أمامه، وكان هناك أيضاً المقر الأول لشرطة أبوظبي في بداياتها، وهو مكان مسجد خلف بن عتيبة وكان عندنا مسجد جامع واحد فقط في أبوظبي تقام فيه صلاة الجمعة هو هذا المسجد، والخطيب كان عندنا الأستاذ عبدالله الهاشمي الذي كان في الدائرة الخاصة مدير أعمال الشيخ زايد ''رحمه الله''· والناس كانوا يتجمعون من كل مكان من البطين ومن كل أنحاء أبوظبي ويصلون صلاة الجمعة في هذا المسجد· وكانت أغلب بيوت الناس من الخيام، ماعدا بعض البيوت المبنية من الطابوق مثل بيت محمد زينل وعباس أسماعيل وبيت عبدالرحمن كرمستجي وكان عند بيت محمد زينل فيه دكاكين وكان هناك أيضاً دكاكين وخبازاً يبيع للناس الخبز في بيت عبدالرحمن كرمستجي، وكان موقع هذه البيوت قريباً من الكورنيش، حيث الخيام، تقريباً في موقع شارع الشيخ حمدان بن محمد اليوم· هذا الكلام في بدايات الأربعينات·
تعلم القرآن
؟ بودرويش ألم تذهبوا إلى مطوع يعلمكم القراءة والكتابة، ألم يوجد في تلك الفترة، فترة الأربعينات مطاوعة يعلمونكم؟
؟؟ نعم كان يوجد مطوع يعلمنا، وتقريباً كلنا كنا نتعلم، وتعلمنا عنده حتى المغفور له الشيخ زايد ''رحمه الله'' تعلم في فترة من فترات حياته عند هذا المطوع، وكان هذا المطوع اسمه درويش بن أحمد بن عبدالرسول، وهو أبي ''رحمه الله''· وكان رجلاً عالماً يقرأ ويكتب وقد ورث هذا العلم من أجداده ''رحمهم الله''، وهم الشيخ حسن والشيخ كمال وهما أخوان، وكانا قد هاجرا من المدينة المنورة، حيث تعود أصولهما إلى هناك، هاجرا ولظروف معينة إلى إيران ربما قبل أكثر من مائة سنة، ووالد جدي وهو عبدالرسول هو حفيد هذين الشيخين الجليلين اللذين كانا عالمين معروفين في المدينة وأنا اعتبر من أحفاد أحفادهم· كان الوالد مطوعاً يدرس القرآن للأولاد في تلك الأيام الصعبة، حيث الحياة كما تعرف لم تكن سهلة وبسيطة كما هي اليوم، وكان أغلب الأولاد في أبوظبي قد درسوا عنده، وكان أيضاً يتولى إمامة المسجد آنئذ وهو مسجد الصيري··
؟ لماذا سمي بمسجد الصيري؟
؟؟ لأن الذي بناه وهو شخص اسمه محمد الصيري وكان مبنياً من الحصى والجبس، حصى الجبل، وموقعه كان في السوق وإلى وقت قريب بني مكانه أيضاً مسجد صغير· وكان أبي من تقواه وورعه يتولى تنظيف المسجد باعتباره بيتاً من بيوت الله، بل كان يقوم بملء ''سطول'' (جمع سطل) بالماء ويضعها قريباً من المسجد للوضوء، كان رجلاً صالحاً عالماً معروفاً عند الناس والشيوخ، فكما قلت إن الشيخ زايد نفسه سبق وأن درس عنده· عشرين سنة صلى والدي إماماً ومؤذناً في هذا المسجد يعلّم الأولاد القراءة والكتابة ويحفظهم القرآن الكريم·
وقد درّس محمد رسول خوري ومحمد بقلر ومحمد عباس أسد ومحمد هلال الغافري وعيال أحمد بن خلف العتيبة والشيخ زايد نفسه كما قلت، وقد أخبرني أحمد بن عمران الحلامي ''رحمه الله'' قبل أن يتوفاه الله، وكان من رفاق الشيخ زايد منذ الطفولة، إنهما درسا عند والدي وقد درس الشيخ زايد لمدة تزيد على السنتين وختما جزء عمّ وحوالي أكثر من عشرة إلى خمسة عشر جزءاً من القرآن، ثم لظروف ما ترك الشيخ زايد الدراسة عند والدي، ولكن الحلامي أكمل القرآن كاملاً، هذا ما أخبرني به هو شخصياً ''رحمه الله''·
كانت الحياة صعبة والموارد شحيحة وعشنا سنوات شظف وكنا نبحث عن أي بصيص أمل للرزق الحلال، وكان الوالد يعلم الأولاد تطوّعاً لوجه الله مجاناً تقريباً، رغم شح الموارد إلا أن الآباء كانوا يرسلون للمطوع من باب الكرم والتقدير لجهوده آنة أو آنتين في نهاية كل أسبوع وهي ما يسمى بالخميسية، وعندما يختم أحد الأولاد القرآن يرسل الأب خاصة إذا كان تاجراً روبية أو روبيتين، وكانت تستخدم الروبية الهندية· كنت صغيراً حين توفي والدي، وقد توفي تقريباً سنة 1945م، وكنت حينها سعيداً وفرحاً، كنت أعتقد أنه برحيله هو ذاهب إلى مكان ما، مسافر، وسيرجع إلينا يوماً ما، كنت أتصور أني سأراه مرة أخرى، لصغر سني لم أصدق أنه ذهب ولن يعود إلينا في الحياة الدنيا مرة أخرى، ''رحمه الله رحمة واسعة''·
الحياة كانت صعبة لكنها كانت رخيصة، قلّة التمر فيها عشرة أمنان كنا نشتريها بروبيتين وربع، وكانوا يأتون بالتمر أي يستوردونه من القطيف والبصرة، وكيس العيش (الرز) زنة ثمانين كيلوجراماً بـ28 إلى 30 روبية، كان عيش أصفر يأتون به من كراتشي أو الهند لم يكن كما هو اليوم عيش بسمتي فاخر وما إلى ذلك، ثم جاءتنا سنة القحط··
؟ هل تذكر متى كانت هذه السنة؟
؟؟ هي كانت في الأربعينات من القرن الماضي، قبل الحرب العالمية أو بعدها لا أذكر بالضبط··
الحرب والناس
؟ الحرب العالمية الثانية·· كيف كانت الأجواء في ظل تلك الظروف ولماذا سموها سنة القحط برأيك؟
؟؟ أعتقد لأن موارد الرزق تحددت أكثر والمواد الأولية الأساسية التي يعتمد عليها الناس في معيشتهم وطعامهم شبه انقطعت ولم تعد تصل مثلما كانت من قبل أن تستجد هذه الظروف العالمية التي لم نكن نعلم عنها الشيء الكثير، ولم تكن وسائل الإعلام مثلما هي اليوم منتشرة فسماها الناس سنة القحط؛ لأنها ربما أثّرت على موارد رزقهم·· لجأ الناس إلى طبخ الجريش، وهو الحنطة المجروشة بدل العيش، العيش كان يطبخ مرة في الأسبوع سواء في بيوت التجار أو الناس العاديين واللحم سواء لحم الغنم أو البقر، كانوا يأتون بالأغنام والماعز من عمان وحتى هنا في أبوظبي الناس كانوا يربون الأغنام، اللحم كان متوافراً ورخيص الثمن وكان لدينا هنا قصابون· أما البوش (الجمال) فكانت تربى عند البدو خارج المدينة، خارج أبوظبي، وفي الحقيقة كان كل شيء تقريباً متوافراً ورخيص الثمن ولكن النقود كانت قليلة· بعد وفاة والدي وكنا صغاراً، تزوج ابن عم لي من أختي وكان له دكاكين ومحال في جزيرة دلما فأخذني معه إلى هناك للعمل·
مع ''الغواويص''
؟ كيف كانت جزيرة دلما في ذلك الوقت؟
؟؟ كان فيها عرب كثر عندك من القبيسات وفريج قوم بن صلهوم وبن قريوش وغيرهم كثير، وبقيت فيها ست إلى سبع سنوات أعمل مع ابن عمي· في البداية عندما أخذني إلى هناك بدأت في البكاء فهي أول مرة أفارق فيها أمي وأبتعد عنها، أخذونا في جالبوت (مركب) شراعي، لم تكن هناك لنشات ولا طرادات بعد·
؟ ألم تدخل الغوص مع الناس هناك؟
؟؟ لا لم أدخل الغوص، كنت قد عملت في محل ابن عمي هذا لمدة ثلاثة أشهر ثم رجعت إلى أبوظبي، بقيت فيها عدة أشهر ثم أخذني أخي مرة أخرى إلى دلما، أخي من أمي اسمه محمد خليل فولادي ولد عم محمد شريف فولادي كان عندهم دكان هناك في دلما يبيعون فيه أدوات الغوص، يزود ''الغواويص'' بكل مايحتاجونه في رحلة الغوص وكانت دلما تعتبر محطة استراحة وتموين تتموّن منها سفن الغوص، وكنت تجد في دلما مائة محمل من محامل الغوص أو أكثر كلها تقريباً تشتري من عندنا ما تحتاجه من أدوات ولوازم الرحلة· كنا نتعامل مع ''الغواويص'' (جمع غواص ممن يغوصون في البحر بحثاً عن المحار الذي فيه اللؤلؤ) وكنا نبيعهم خشب سمر، كنا نبيعه بالشلّة والشلّة تزن عشرة أمنان بعشرة روبيات، وكانت الدكاكين وحتى البيوت في دلما في ذلك الوقت منتصف الأربعينات مبنية من الحجر والجص، حجر يجلبونه من الجبال والجص أو الجبس فكان يجلب من الشارقة ودبي، وكان البناؤون من منطقتي بستك وعوض، وقد شارك محمد عبدالله بستكي في بناء قصر الشيوخ في أبوظبي، أقصد قصر الحصن المعروف وهذا كان في زمان قبلنا سمعنا عنه فقط ولم نعشه· من أدوات ولوازم الغوص كنا نبيع ودك، وكلفات، وحصى تربط في رجل الغواص حين يود الغوص سريعاً إلى الأعماق، وفطام للأنف، وشمشول وهو رداء للغواص مصنوع من قماش خفيف يلبسه الغواويص حين ينزلون إلى البحر حتى لا تصيبهم لدغات ''الدول'' التي تترك على أجسادهم بقعاً سوداء مؤلمة تسبب لهم ''حكاك''، ونبيع أيضاً ورس أصفر وهو يستخدم أيضاً لدهن جسم الغواص وعلاجه، ولدينا كان محل آخر لبيع الأقمشة والمواد الغذائية· محلاتنا كانت مبنية من الحجر الجبلي والجص، بقيت هناك سبع سنوات ثم رجعت إلى أبوظبي وقد أصبح عمري أربعة عشر أو خمسة عشر عاماً· حين عدت إلى أبوظبي عملت في منطقة المقطع وكان وقتها حسين عماد خانصاحب قد بدأ يعد في عمليات بناء جسر المقطع، وسرنا عملنا هناك أنا وخمسة وأربعين شخصاً معي·
كنت قد التقيت قبلها بشخص إنجليزي اسمه (هيليارد) خلال محاولاتي للبحث عن عمل جديد بعد أن عدت نهائياً من دلما، ورغبت في عمل جديد أجربه، فقيل لي إن هناك شركة مناطق أبوظبي للعمليات البحرية (أدما) العاملة وكنا في سنة 1951م، فذهبت إلى مقابلة السيد هيليارد وكان أول مكتب لهم في غرفة جامع أحمد بن خلف العتيبة على البحر، كان عنده دكاكين يخزن فيها العيش والمواد الغذائية وما إلى ذلك، تحت وفوق مجموعة غرف إحداها كان مكتب الشركة الجديدة، بالمصادفة وقبل أن أصعد إلى مكتبهم رأيت مستر هيليارد قادماً بسيارته وحين نزل ذهبت وسلمت عليه، وكان يتكلم ويجيد اللغتين العربية والفارسية بطلاقة، وكان قد قضى قبلها خمسة وعشرين سنة في عبادان، وقلت له إني أبحث عن عمل، فقال: ماذا تريد أن تعمل؟ قلت ''أي عمل''، فقال لي: اصبر الآن، وأرسلني إلى شركة خانصاحب كما قلت من قبل، كنا نستخرج حجر من البحر لنبني بيتاً لمستر هيليارد، وبقينا في المنطقة التي يشغلها اليوم نادي الصيد والفروسية وهي المنطقة التي تأتيك حال دخولك مدينة أبوظبي من على جسر المقطع، بقينا هناك مدة ستة أشهر نستخرج الحصى وكان العمال ينقلونه بسيارات لبناء بيت مستر هيليارد، وكان البنّاء (الأستاد) يعمل، والجبس أيضاً كان يجلب من الشارقة ودبي، انتهينا من بناء البيت وكان من طابقين، أربع غرف في الطابق العلوي وغرفتين في الطابق الأرضي وغرفة للحارس وكراج·
ذهبت بعدها مرة أخرى إلى مستر هيليارد وقلت له لقد انتهينا من بناء البيت ونحن نبحث عن عمل الآن، فقال لي تعال معي وصعدنا إلى المكتب وقدم لي شايا، وقال الآن تعال معي وأخذني إلى البيت وكان عندهم ماكينة لتحلية مياه البحر كان قد جلبها وركبها في سقف المنزل تعمل على ثمانية رؤوس شولة وأربع أنابيب ماء تصب في قدر كبير مصنوع من الصفر، يسخن ويغلي وبعدها يتبخر والبخار يقطّر ثم يصفى ويبرّد لشربهم في المنزل· عنما ينزل المطر يرسلون السيارات تأتي بماء المطر من بركة الفطيسي وكانت بركة معروفة تتجمع فيها مياه الأمطار في تلك الأيام ويستخدمه الناس للشرب· وكان الناس يجلبون لهم ماء الشرب بـ''درامات'' أحياناً من الشارقة ودبي بـ''الدوبة''، وعندما تأخذ منه قليلاً للشرب يدلون في ''الدرام'' أنبوباً متصلاً بقدح زجاجي ترى لونه بنّياً من أثر الصدأ الذي فيه، ومع ذلك كان الناس يشترون ''الدرام'' بعشر روبيات· ولم يكن معظم الناس يملك هذا المبلغ في ذلك الوقت، فكانوا يعتمدون على ماء المطر· عملت مدة سنتين عند مستر هيليارد في أبوظبي في ماكينة تحلية المياه أنا وسعيد حميد، ومحمد مال الله وكان جاري، وسيد صالح اللوغاني·
بعدها أرسلنا مستر هيليارد إلى جزيرة داس وكنا أول دفعة تصل إلى الجزيرة سنة 1953م شهر ،7 مرسلة من قبل شركة أبوظبي للعمليات البحرية ''أدما''، وكان هناك فقط شخصان واحد اسمه باتيا وهو هندي ورجل صومالي يعمل عنده طباخاً، وبقينا هناك حتى لا يوجد خيام عملوا لنا ظلة من الأخشاب الموجودة وكنا نجلس ونأكل وننام تحتها، كنا نجمع بيض طير الصرد وهو صغير الحجم وبه نقاط بنية وعندما نطبخه طعمه كان لذيذاً·
عدّ القصيد
؟ مستر هيليارد هل رأيته فيما بعد هل ألتقيته في فترة قريبة؟
؟؟ نعم التقيته قبل أن يترك الإمارات وسلمت عليه، وذلك عندما تركت العمل بالشركة بعد تسع سنوات ونصف السنة من العمل في داس وساعدني في الحصول على حقوقي المالية منها، وكانت له ابنة اسمها ديبرا، وقد سمعت أنه توفي فيما بعد·
؟ أين تعلمت عد القصيد وحفظه إذن؟
؟؟ هناك في داس، فقد كان معنا العديد من الشعراء الكبار وأغلبهم من أصدقائي ورفاقنا في العمل، وكنت إذا عدّ أمامي شخص قصيدة لمرة واحدة فقط أحفظها كاملة بلهجتها نفسها وأعدها عليه، ومن هؤلاء الشعراء الذين تشاكيت معهم أحمد بن جبران وكان معنا أيضاً أخوه عبدالله بن جبران والشاعر محمد بن حميد بن عذبة الرميثي، كنت بمجرد أسمع منهم القصيد أحفظه وما زلت إلى اليوم أحفظ منه شيئاً، وكنا قد عملنا معاً في المقطع هنا في أبوظبي وفي جزيرة داس التي كان من بين الذين عملوا فيها الكثير من أبناء القبائل من قوم البومهير والمزاريع والمناصير وبني كتب والقبيسات والرميثات وغيرهم وكان منهم شعراء كبار كما قلت، وكان الأمير في داس أيامها مبارك بن حاضر المهيري، وبداية عدّي القصيد كنا في داس ونريد العودة إلى أبوظبي ورفضت الشركة تعطينا إجازة، وبتدخل من الأمير مبارك بن حاضر أعطونا إجازة حق العيد، وكنا في يوم وقفة عرفات عائدين إلى أبوظبي بالمركب، في منتصف الطريق فجأة جاءنا طوفان وأمواج عالية حتى أوشكنا على الغرق والموت، لكن الله سلّم ونجينا ووصلنا إلى أبوظبي سالمين، من وحي تلك المعاناة قلت هذين البيتين أشاكي الشاعر محمد بن حميد بن عذبة الرميثي ''رحمه الله'' وكان معنا في ''داس'' أقول له:
ياخوك صابني اليوم غربال
من هيرهم ماداني مشيب
يابن حميد أشكيلك الحال
أبغيك في شكواي اتثيب
فرد علي وقال:
ياخوك صابني اليوم غربال
من هيرهم باداني مشيب
يابن حميد أشكيلك الحال
أبغيك في شكواي اتثيب
لاينّشد عنّي ولايسال
والعوق عايابه لطابيب
من صاحب مايت به اسوال
حاشى ولايت به مكاتيب
راسه على متنيه ميّال
ياخوك عذّبني تعذّيب
ريح اعرقه أخنّ من هال
أحلى من السكر لي يذيب
وللشاعر أحمد بن كليب وكان معنا في ''داس'' هو وأخوه الشاعر عبدالله بن كليب قصيد جميل، ولأحمد حفظت منه هذه القصيدة التي قالها عندما كنا في المركب قادمين إلى أبوظبي وجاءنا الطوفان وأوشكنا على الغرق:
لوكتمت الصّد بيّح بالمثيل
خاطري وأفضيت جيل بالمقال
يالكفر ماياني منكم جميل
أشهد ان شغلكم ماهو بحلال
رتّبوا يومين مافيهن مجيل
واضربوا اعلان خبثين العمال
أشهد انّ ذا اليهودي مستحيل
يعلّه من مولاه ياتيه الزوال
مالجيناله على حكيه صميل
غير كذب يفتري امن الهبال
أركبونا فوق عيلات حذيل
لاشراع ولامياديف ثقال
المكاين تشتغل فين أبويل
ورّدوهن بالثّمن من غزر مال
نوخذاه حاجي مامثله مثيل
طيّب للنّاس عنّا لاتسال
قبّض السّكان من عنده دليل
بوحسن عنده من مجرى احتمال
يوم يانا الرّيح وبرق شعيل
قال سوّي سلو مشّوا بالعدال
الفجر قد بان ليزول النّخيل
واخمدت نيران قلبي بالملال
العذارى لابس من هند شيل
ويل يالله من صباح العيد مال
في الحفظ ياراعي الخصر النّحيل
يوم ييناكم بحزّاتن عدال
سفّروني من وطن سيدي بليل
قلت انا لاحول من ذيك الاحوال
أستحب الموت لوعمري طويل
عن حياة تنقضي بين اليبال
الختم صلّوا على من له كفيل
النّبي يشفع لنا يوم الاهوال
ولاخيه الشاعر عبدالله بن كليب أحفظ هذه الأبيات:
لاحول من ذا الوقت المشيب
لي شط بالنّاس ورمابك
يابوعلي حطّوك حطّيب
تصبح وتمسي في عذابك
عقب عرب الله والمحابيب
امن الوحل خاست ثيابك
وللشاعر أحمد بن جبران وقد تزاملنا في العمل هنا في ''المقطع'' وفي ''داس'' قصيد أحفظ منه هذه القصيدة التي يقول فيها:
جفن جفاه النّوم مابات
يا أحمد بحالي ماتعزّون
سمعت من حاسد وشمّات
طاوعت فيّ اللّي يعذلون
وين الصّداقة والمخوّات
واهل الحما ياللّي يلبّون
غابوا وخلّوني بحسرات
وانا بيو من حب مظنون
مدعنّيوا لاهيع ولابات
روياه ماتفخت م العيون
هذا سبب عذب اللي شافات
صافي الثنايا معفّر اللّون
أسقاني من هالود كاسات
هيهات دون الوصل بيهون
يرح الهوى بيّن بشارات
فيّ ولا الخالين يدرون
ياويل من صوّب ولافات
يرحه بقاصي القلب مكنون
طالبك ياوالي العطيّات
ترحم لذي بالود ممحون
وللشاعر المرحوم محمد بن حميد بن عذبة الرميثي أحفظ أكثر من قصيدة ومنها قوله:
يازين يامهضوم الحياب
من بويديل ان هد يجسيه
عاني جداك برد اليواب
اللّي يحصل من عندك ابغيه
واللّوف برجع من ورا الباب
بكظم على مابي وبخفيه
بارابع السيّال طلّاب
حتى وطني مالي سنع فيه
ويقول في قصيدة أخرى:
يازين يوم آسير وآييك
عسى ياياتي على خير
برمس عليك وحاجتي فيك
ان كان مابتشوف تخسير
بعهود ما اللّه بعطيك
الصّد مابيبين تظهير
وله أيضا قوله:
ياخويّ عوقي ايزادي
آه يامن ون من يوفه
ليت له يطروا على فوادي
انتبه من نوم وآشوفه
بويديل فوق الانهادي
صابغ حنّاه في كفوفه
شطّ بي ماخذني بجادي
راح وادعى الرّوح مكلوفه
طالبك يارب العبادي
تنقضي الايام وآلوفه
مابحبّر به بالوكادي
خايف تلحنّي حوفه
لو دريج فوق الوسادي
بشتفي من نظرة زلوفه
ويقال إن والد الشاعر أحمد بن جبران أي أبوهم جبران تشاكى مع واحد اسمه سرور وهو ظاهري، يقول له:
مامن خلج طاهر بصلّي
باقضّي فروضي شرا فلان
خلّ المودّة لي حبلّي
وارواني من وجد أمحان
لي ييته عاني ماحصلّي
فرّطت في سنّة وأركان
يابن علي بيته نزلّي
في ضامري شيّد به حيشان
فأجابه سرور:
شكيت والشّكوة تعلّي
هيّضت بمّابي يجبران
نقشت واليرحة عملّي
من قبل متعافي ببريان
خطفت وشراعك مملّي
أنا شراعي فرمنه خان
سمّرت ماظنّي بعلّي
ياوشت والمايات قصران
لونا شراتك غيص دلّي
كان المغاصة هوب حجلان
لكن السّيبي مستعلّي
مايفهم النّبرة وهدمان
يابن علي بيته نزلّي
لاتكون في الحساب غلطان
وكما ذكرت لك، كنت أحفظ القصيدة بمجرد سماعها لمرة واحدة، وأعدّها، بل وكنت أدوّن هذا القصيد كوني أقرأ وأكتب، وقد دوّنت الكثير من ذلك الشعر الذي حفظته، وكنت قد وضعته في صندوق كبير خاص، ولكن مع الأسف فقدناه عند انتقالنا إلى هذا البيت الجديد في مدينة زايد وضاع معه كم كبير من القصيد النبطي الذي جمعته حفظاً ثم تدويناً في تلك الأوراق، والذي ذكرته لك مجرد نماذج جاءتني في هذه الجلسة فقط، وهو بلاشك قليل من كثير ويحتاج الأمر إلى جلسات قادمة بإذن الله·