انتسب عسكر ميسينوف إلى السلك الدبلوماسي، وقبل ذلك عمل مترجماً للرئيس الكازاخي حيث كان يرافقه في رحلاته الرسمية، ثم كان سفيراً لبلاده في جمهورية مصر العربية عام 1999، وفي عام 2002 مثَّل كازاخستان في المملكة العربية السعودية، ليحط الرحال بعد ذلك في دولة الإمارات العربية المتحدة بدءاً من عام 2006 وحتى اليوم. يبدو السفير عسكر ميسينوف، سفير جمهورية كازاخستان في الدولة شغوفاً باللغة العربية، فهو يعتبر نفسه محظوظاً، كون الفرصة قد أتيحت له ليتعلم هذه اللغة الثرية في مضامينها ومدلولاتها، ولا يتردد في القول لأبنائه عندما يسألونه عن قاموس العربية الذي يحمله معه دوماً، إن هذا القاموس هو مفتاح علاقاته الإنسانية “الأرقى”. طالب ولغة يتذكر ميسينوف بدايات الصلة التي ترسخت بينه ولغة لم يملك إلا أن يعجب بها على الرغم من كونها غريبة عنه، فيقول إن أحد الباحثين من أبناء وطنه ذهب إلى المغرب العربي ليتابع أبحاثه، كان الرجل صديق والده وهو أرسل إليه العديد من البطاقات البريدية، كان الزمن في بدايات العقد السابع من القرن الماضي، أي أنه لم يكن هناك تواصل إلكتروني، الورق وحده كان عماد الرسائل. البطاقات المرسلة كانت تحمل صوراً لمعالم موحية، تثير شهية المعرفة، هكذا يقول السفير الذي كان يطلع على بريد والده، وهو لم يتخط الثالثة عشرة من عمره بعد. ثمة ما يغوي في هذه البطاقات للتعرف إلى الجغرافيا التي خرجت منها، وإلى الناس الذين يقيمون فيها، وبالتأكيد إلى اللغة التي يتخاطبون بها، هكذا صار الوعد بتعلم العربية قائماً في ذهن الفتى القادم إلى الحياة من مداخل شتى. وما يستحق الذكر أن الصديق الذي كان يرسل البطاقات البريدية هو اليوم رئيس الإدارة الدينية لمسلمي كازاخستان، فضيلة المفتي عبد الستار جيربيسالي. ويتحدث ميسينوف عن تلك المرحلة الزمنية، يوم كانت بلاده جزءاً من الاتحاد السوفييتي بالقول: “كنا منعزلين عن العالم حينها، وتروي لي جدتي التي تلقت تعليماً سابقاً على قيام الاتحاد السوفييتي، أن لغتنا قبل عام 1917 وهو العام الذي شهد قيام ما عرف بالثورة البلشفية، كانت تكتب بالحرف العربي، وهي أبدت فرحاً لا يوصف عندما رأتني مهتماً باللغة العربية، وراحت تعلمني كتابة حروفها المنمقة، لقد فرحت إذ رأت أحد أحفادها يمارس هذا الخروج الواثق على النفوذ الروسي”. مرارة الماضي هي الذكرى التي لا تخلو من مرارة تدفع محدثنا للانطلاق بحماسة شارحاً التحولات المفصلية التي شهدتها بلاده، والتي انتقلت بها من موقع إلى نقيضه الكلي: “كنا نخضع للهيمنة الروسية، ولم يكن مسموحاً لنا التعبير عن جوهر هويتنا، بوصفنا مسلمين، في البداية غيروا الأبجدية العربية إلى اللاتينية، ثم إلى الروسية، ووضعونا أمام قطيعة معرفية حادة، بحيث لم يكن بوسع الأبناء قراءة ما كتبه آباؤهم، ناهيك عن الأجداد”. اليوم اختلف الوضع، يضيف السفير ميسينوف، وأصبحت كازاخستان دولة رئيسية في منظمة “التعاون والأمن الأوروبي”، وهي منظمة جرى تأسيسها عام 1973 تحت شعار الدفاع عن حقوق الناس والحريات، وكان الاتحاد السوفييتي السابق عنصر استهدافها الأساسي، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وتحول كازاخستان إلى دولة مستقلة انضوت في هذه المنظمة، وفي فترة لاحقة تم اختيارها رئيسة لها، وهي منظمة دولية بالغة الأهمية تضم في عدادها دولاً كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا، وفرنسا وإيطاليا، يقول ميسينوف ذلك، ولا يلبث أن يضيف بحماسة مماثلة: “نحن استضفنا القمة الأخيرة لهذه المنظمة، ودولتنا هي الأولى بين دول الاتحاد السوفييتي السابق التي تخوض تجربة مماثلة، كذلك هي ستكون مقر انعقاد مؤتمر الدول الإسلامية في يونيو المقبل”. الأديب الدبلوماسي كان الفتى المشدود نحو اللغة والحضارة العربيتين ينوي التخصص في الأدب العربي عندما دخل كلية الاستشراق في جامعة ليننجراد في موسكو، وعندما تخرج في عام 1984 كان مؤهلاً لتدريس هذا النوع من الأدب، لكن الأمور سارت بغير ما كان مقرراً لها، ففي عام 1989 انهار الاتحاد السوفييتي، وصارت كازاخستان جمهورية مستقلة، وكان عليها أن تبني مؤسساتها الحكومية، وفي مقدمها السلك الدبلوماسي الذي يعتبر بمثابة جسر يربطها بالعالم الخارجي، هكذا وجد ميسينوف نفسه يقدم أوراقه للتعيين في وزارة الخارجية، ولم يطل به الوقت حتى غدا دبلوماسياً يحمل أمتعته، وفي مقدمها قاموس اللغة العربية، مرتحلاً من مكان إلى آخر. يستعيد ميسينوف سفرته الأولى خارج الاتحاد السوفييتي، الذي كان يسمى بالستار الحديدي، كان ذلك في عام 1981 وقد توجه حينها إلى الجزائر في سياق رحلة علمية تهدف إلى تحسين معرفة طلاب كلية الاستشراق باللغة العربية، أكثر ما بقي عالقاً في ذاكرته من تلك الرحلة أن الجمارك السوفييتية صادرت لدى عودة البعثة نسخاً من المصحف الشريف كان الطلاب قد أتوا بها معهم،. وقد تمكن البعض من تمرير عدد ضئيل منها أحسنوا إخفاءه بين الأمتعة. يتذكر السفير تلك الأيام القاحلة بالقول: “لم يكن عدد المساجد في كازاخستان بأكملها يتجاوز العشرة، ومعظمها كان عبارة عن منازل عائلية جرى تحويلها إلى مساجد، أي أن أكبرها لم يكن يتسع لأكثر من 50 شخصاً، أما اليوم فهناك عدد لا يحصى من المساجد المستوفية للشروط الهندسية، والقادرة على الإيفاء بمبررات وجودها”. بين محفوظ وجبران يصف ميسينوف العرب من خلال تفاعله معهم بأنهم قوم وجدانيون، يملكون الكثير من المشاعر الإنسانية الراقية، هم أناس عاطفيون يجيدون التواصل مع الآخر، ويحملون الكثير من الود والوفاء للتجارب الصادقة التي يتفاعلون معها، كذلك هو يتحدث عن روابط حميمة تولدت بينه وبين العديد من الإنجازات الإبداعية في العالم العربي، خاصة كتابات الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي قرأ له معظم أعماله الروائية، ولا يزال يتذكر بعضها جيداً مثل “ثرثرة فوق النيل” وميرامار” وسواهما. ويتحدث السفير بكثير من الود عن زيارته للأديب الراحل، إذ فوجئ بكونه معاصراً، فقد كان يظن أنه يقرأ لأحد الأعلام الروائيين الذين غادروا الدنيا، وعندما علم أن محفوظ لا يزال حياً قرر زيارته، وقد التقاه في منزله، حيث تبادل معه حديثاً ودياً، لا يزال يتذكر الكثير من تفاصيله. أدهشه حينها مقدار التواضع الذي يتمتع به أديب كبير كان قد حصل لتوه على جائزة نوبل، وهو العربي الأول الذي يحظى بمثلها. يتذكر ميسينوف بعض الأغاني العربية، ويدندن أغنية “اعطني الناي وغن” للسيدة فيروز، وهي من كلمات الأديب الاستثنائي جبران خليل جبران، متوقفاً عند ما تستبطنه من رموز ودلالات شاعرية، يبدو جيداً أنه متمكن من ألغازها، وعندما نبدي شيئاً من الاستغراب حيال تلك المقدرة يرى نفسه مضطراً للتذكير أنه دارس للأدب العربي بالأساس، وأن عمله الدبلوماسي ليس اختياره الشخصي، على الرغم من كونه محبباً إلى نفسه، لكنه فعل الأقدار والظروف التي يبقى لها اليد الطولى في تحديد مصائر البشر. على المقهى يرى السفير عسكر ميسينوف نفسه مضطراً لتوضيح أن صلته الأكاديمية باللغة العربية لم تمنحها المكانة التي تستحقها لديه، فالمصطلحات الكلاسيكية تجعل هذه اللغة على قدر من الصعوبة، وبالنسبة لطالب يطل على لغة غريبة ليس متاحاً منذ البداية اكتشاف النواحي الجمالية في تلك اللغة، أما الاكتشافات الآسرة لبركان العربية المتفجر فقد تأتي له من خلال تواصله مع الناطقين بتلك اللغة الرائعة، ومن خلال الأحاديث التي كانت تدور بينه وبين أصدقائه العرب في المقاهي وأماكن التسلية، هذه العلاقات الإنسانية الزاخرة بالوجد والعاطفة، والمعتمدة على مخزون وافر من الأحاسيس الإنسانية المتقدة دوماً، وتلك سمة أساسية من سمات الشخصية العربية، مكنت السفير الذي أمضى نصف عمره متنقلاً بين الأقطار العربية المختلفة أن يكتشف الجانب السحري من اللغة، فلا يعود تفاعله معها مبنياً على أسس مدرسية صرفة. أدبيات مترجمة اهتمام السفير عسكر ميسينوف باللغة العربية جعله يتجه نحو اختيارها لغة ثانية لبعض الأدبيات المتصلة بعمله، فعندما تم إنجاز كتاب يتناول سيرة أول سفير كازاخستاني في المملكة العربية السعودية، عمل على ترجمته إلى العربية، تم إصدار طبعة منه بهذه اللغة، كذلك يجري العمل اليوم على ترجمة كتاب يتناول سيرة وتجربة الرئيس الكازاخي نزار باناييف إلى العربية، وهو من تأليف الكاتب البريطاني جو ناثان، وقد تلقت عملية ترجمته دعماً قيماً من الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حيث من المرتقب أن تبصر النسخة العربية للكتاب النور خلال الأسابيع المقبلة.