أمل النعيمي: أقترب من صمتك في يومك أيتها الأم لأجرب حرارة قلبك الذي ظل مشعلا مضاء تحت عريشة العنب·· تحدقين في الفضاء بعينين مدهوشتين متوجسة مما سيؤول به الزمان·· يدك تمتد إلى الأوراق المتدلية تقطف صوتا يردده الصدى·
سنون متوالية وأنت تعزفين على أوتار قيثارتك التي تتهادى بين أصابع سخية·· وتنسجين شرنقة تلغين بها خيوط الحرير لتطير بعدها الأحلام إلى الواقع·· جيلا يخرج من رحم الحياة إلى الحياة·
عيون تترقب وترسل بريق الشكر للإله·· ابتسامة تحمل في مضامينها معنى الذكريات التي عبرتِها مع الكثيرين·· أتذكرين، حين كنت تحاولين أن تعبري الضوء الممتد كطيف إلى فضاء الأزمة وذكرياتها·· أجمل ما فيها أنت أيتها الأم·· أحلامك لا تكسرها الأزمنة بل هي من دمع ودم·
أمهات ذوي الاحتياجات الخاصة·· أمهات اختارهن الله دون غيرهن للامتحان·· ورغم قسوة المصاب إلا أنهن تعلمن وكانت تجربتهن غنية·· تعلمن الصبر وعلمنه لمن يتابعونهن، وتعلمن العزيمة وعدم الخنوع للواقع، وتعلمن كيف يتخطين الصعاب بجهود مثيرة·· وقوة لا تكل·· وتعلمن ان التجاوب الأسري هو الطريق الصحيحة لتجاوز الصعاب وتخطيها اذا سادت روح التعاون والمصارحة، أمهات لم يخجلن من إعاقة أبنائهن بل كانت وسيلة أرسلها الله عبر أبنائهن للآخرين ليثبت قوتهن وقدراتهن في الإبداع وتجاوز المحن·
نماذج من مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية كن كوسام الشرف للأمهات·· ودقائق الكشف عن المصاب تكون قادرة على كسر أصلب الناس، الأمهات كن اليد التي تسعى إلى المزيد من العطاء وبذله دون كلل بل إنها تضيف إلى ما تفعله الأمهات العاديات قوة وصلابة وتعلمهن ان الجنة لا تأتي من تحت الأقدام إلا بالإقدام إلى التضحية وبذل المزيد منها·· لا بالاعتماد على المربيات والخادمات·· فأطفالنا هم أمانة في أعناقنا في صحتهم وسقمهم، وعلمهم ودينهم وكل شيء ممكن ان نقدمه لهم دون تردد·· متى ستصحو أمهات هذا الزمان اللواتي وضعن هذه الأمانة برعاية يد غريبة·· ها هي أم ذوي الاحتياجات الخاصة تقدم لنا النموذج، فتحية لها في يوم الأم·
رحلة قاسية
لم تكن لدينا ثقافة اجتماعية أو معلومة مسبقة عن ذوي الاحتياجات الخاصة، ذلك ما تقوله ابتسام يحيى سعدة، وتتابع: 'بدأت تجربتي الخاصة بعد ان رزقنا عام 1981 بطفل مصاب بالتهاب السحايا، ورغم شفائه منها إلا انها تركت تأثيراً هائلا على جسده ونفسه، حيث فقد الطفل سمعه نهائيا وأصيب باستسقاء في المخ·· كانت رحلة قاسية استمرت حتى شارف على إتمام السنة الثانية من العمر، وبعد المعالجة في الإمارات وتقديم الخدمة العلاجية الممكنة ذهبنا إلى إحدى الدول الأوروبية من خلال ما كانت تقدمه دولة الإمارات لكل إنسان يعيش على أرضها حينذاك، وكانت الصدمة عندما أكد لي الطبيب ان السمع لن يعود للطفل أبدا·· كانت الصدمة هائلة دوت في قلبي وتلقيتها لوحدي مع ابني حيث أقمت في الخارج خمسة وأربعين يوما، ونظرا لكوني ممرضة ولادة كنت ألم ببعض الأساليب التي تم تطويرها من خلال إكتسابي بعض المهارات التي تدربت عليها في التعامل مع طفلي الأصم وكيف يمكنني ان أتفهم ما يريد·
في تلك الفترة تم إنشاء مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية والتي قامت بفضل جهود صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة وأهلها الطيبين·· واستطعت تسجيل ابني في المدينة بعد ان فتحت لنا الشيخة جميلة قلبها وشدت على يدنا وتبنت مصابنا وكأنه شيء خاص بها وليس شأنا فرديا·· فقد كانت أما وصديقة وشقيقة·· بدأت أتأقلم أنا وزوجي مع هذا المصاب ونحمد الله على هذا الابتلاء·· ونقلنا عملنا من رأس الخيمة إلى الشارقة عام 1984 وبدأنا نتكيف مع الوضع·
ليالي العذاب
وبعد ان كانت الليالي تمر قاسية مظلمة أمام عيني أرى فيها وحدة الابتلاء·· التقيت في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية بالعديد من الأمهات والآباء ممن اختارهم الله لهذا الاختبار·· وبدأت أشد على قلبي لأكون أما قوية لأتجاوز المحنة التي كنت أراها بحجم الجبال واستطعت تجاوزها منذ عام 1981 إلى الآن·· وبدأت رحلة الطفل المعاق الثاني عام 1986م حيث ظهرت بوادر المشاكل الصحية منذ الولادة ومنذ الأسبوع الأول لولادته ظهر في عينه ما يسمى بالمياه البيضاء، وبعد ان أجريت له العملية فقد البصر، وتكرم ديوان صاحب السمو حاكم دبي بالموافقة على إرساله إلى الاتحاد السوفييتي آنذاك·· وبدأت رحلة الغربة والخوف على الأسرة في الشارقة·
وتضيف: رغم أننا كأسرة نحاول ان نكون طبيعيين مع أنفسنا ولا نسترسل بالشعور بالمنغصات لأطفالنا إلا أن النتيجة التي ظهرت في موسكو كانت أكثر من قدرتنا على الاحتمال حيث أظهرت النتائج انه مصاب بورم خبيث في كليته اليمنى وتم علاجه كيمائيا وأمضيت خمسة شهور كانت أياما قصمت ظهري وقلبي معا·· وبعد رجوعنا ادخل مرة أخرى إلى المستشفى لإصابته بانسداد الأمعاء والتصاقها نتيجة للعلاج الإشعاعي!!
هذه واحدة من الأمهات العظيمات، كانت مشاعرها تتلاطم كبحر هائج·· تبحث عن طوق نجاة·· وهي ترى فلذات كبدها يتعذبون أمامها ولا تملك إلا أن ترفع رأسها متضرعة إلى الله ان يرحمها من الليالي الأشد سوادا من الليل·
ملائكة مدينة الشارقة
مخطئ من قال ان وجود طفل معاق في الأسرة يحد من طموحات أفرادها! بهذه العبارة تبدأ جمانة محمد الحوارنة حديثها واصفة كيف كانت تؤدي رسالتها بعون كوكبة طبية من العاملين في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية التي شدت على يدها بقوة متجاوزة أصعب المراحل في حياتها·
تقول: دموع عزيزة انهمرت من أعيننا دون عناء عندما علمنا ان طفلنا الثاني عمر قد اصيب بأعراض مرض تخلف عقلي وقصور في أجهزة الجسم، كان الخبر قادرا على ان يسيل حمما من الحزن المظلم الذي انسكب علينا في آن واحد، وجاءت الطفلة (رحمة) أيضا بإعاقة أخرى علمنا بها وهي في بطني·· وكان هذا إيذاناً بانتهاء أحلامنا بتكوين أسرة كبيرة، فقد توقف الزمن عند هذا وتوقف حلمنا معه، وتبعثرت الكلمات وتلاشت الأفكار وتمزقت قلوبنا أشلاء نحاول التقاطها·· ولكننا أصبحنا محاصرين بنظرات الآخرين التي تلاحقنا شفقة وانزعاجا من عدم سيطرة أطفالنا على أنفسهم· كان الليل يسمع ابتهالي الذي بلل الدمع ساعاته·· وأنا أدعو الله ان يفرج عنا ويخفف من اختبارنا ويجعلنا من الفائزين·· وعندما وجدت أن المعلمات في المدارس التي التحق بها ابني بعد تقييمه غير قادرات بشكل مؤهل على متطلبات العمل مع هذه الفئة أرسلته لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية بعد قبولهم إياه، وكانت تلك أجمل هدية تقدمها المدينة لي، والتحق بمعهد التربية الفكرية وتعلمت من مدرساتها الكثير ومن الأمهات اللواتي يشاطرنني نفس الظروف·· وتكررت التجربة مع ابنتي رحمة ولكنها دخلت مركز التدخل المبكر في المدينة أيضا كنت أرى العاملين فيها مثل الملائكة وهن يعملن في سفينة نجاة لنا جميعا·· وكانت تلك المسيرة لصالحي فقد اجتهدت وأنهيت تحصيلي العلمي متخصصة في الدراسات الإسلامية وأصبح شعورنا بالفخر يفيض من حولنا بعد ان كنا نكاد ندفن رؤوسنا بالرمل من عدم قدرتنا على التأقلم مع ما بنا·· الحمد لله·
إرادة صلبة
أما الإرادة الصلبة التي لا تلين وشدة الإيمان بالله التي تثبت قلوب أمهات وأخوات ذوي الاحتياجات الخاصة ويجعلها أقوى فتتمثل في (غريسة حسن علي) وقد مرت بتجربتين وليست تجربة واحدة تقول: 'كنت البنت البكر لأسرة مكونة من عشرة أشخاص وكان إخوتي هم محور الحديث، أشقائي الأربعة هم تجربتي الأولى مع الإعاقة، فعند بلوغهم سن المدرسة قمنا بشرح حالتهم للمدرسات ولضرورة الحاجة للصبر معهم·· ولكن دون جدوى وتمت إحالتهم إلى مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية وجاءنا الفرج وبدأ القلق يتبدد شيئا فشيئا، وأخذنا نمر بمرحلة الاستقرار خصوصا لوضعهم الدراسي·· نتيجة لتركيز مفاهيم المدينة على استثمار الميول والمهارات التي يتمتع بها كل واحد منهم بغض النظر عن الآخر وتأهيلهم حسب قدراتهم ورغباتهم·· فتعلم كل منهم صنعة تفيده والآن وقد بلغ كل واحد منهم عمر (24 و27 و28 و29) استطاعوا كسر حاجز الخوف من مواجهة الآخرين·
وتقول غريسة ان تعاملها مع إخوتها اكسبها القوة والشعور بالرضى والسعي لاكتساب حياة طبيعية مثل كل أقرانهم·· أما تجربة الأم فكانت مع طفلها الثاني، 'حيث تزوجت وأنا في السابعة عشرة من العمر، وأنجبت ثلاثة أبناء لكن المصيبة حدثت بعد أن سقط ابني الثاني ودخل في غيبوبة لمدة أسبوع، وبعد ذلك بدأت رحلتي معه وهو في الإعدادية نتيجة لحاجته الماسة إلى فصول التربية الخاصة مما اضطرني إلى تسجيله في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية وبدأ مشواري مع ابني كما بدأ مع إخوتي من قبل، ولا يزال أمامي الكثير لأقدمه لأخوتي وابني'·
صور مشرقة
أذرف دموعا موجعة كلما تذكرتها وكلما صادفتني بابتسامتها الرائعة التي لا تفارق صوتها وهي تقول الحمد لله·· أم جمال·· واحدة من أكثر المتعاملين مع مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية بحضورها ومشاركاتها في النشاطات، أم سهرت على استمرار حياة ستة من أبنائها المصابين بالشلل الدماغي·
تقول أم جمال: رزقت بأطفالي رغم فكرة التوقف عن الإنجاب إلا أنني توكلت على الحي الذي لا يموت ورضيت بقسمته لي وحمدت الله على النعمة، وقابلت مصابي بالصبر والجلد الشديد والتمسك برحمة الله والرضى بقدره·· وكرست وزوجي حياتنا الأسرية للاعتناء بأطفالنا المعاقين وغير المعاقين منهم·· مستفيدين بكل ما تقدمه المدينة من مجالات التثقيف·· لم يقعدني الابتلاء ولم يضعفني·· بل انه شحذ همتي التي منها أقول للناس·· أنا وأطفالي قد نكون صورة لم تشرخها الإعاقة ولم تفرق بيننا وبين ان نعيش حياتنا برضى وحب، حياة طبيعية راضين بما قسمه الله لنا ومتخذين من ذلك سبيلا لمرضاته·
وتختتم حديثها قائلة: كنت أتجرع المر من صغري وأجعله سياجا احتياطيا ليحميني وأطفالي من الآتي·
يد حانية
أما مريم عيسى فلها تجربة الأم التي صاغت من حبها شرنقة حب لطفلها المعاق بصريا، تقول: لدي من الأبناء خمسة وكان الثاني قد أصيب بضمور في العصب البصري·· لم نلحظ ذلك منذ البداية فقد كان طالبا مجدا وتجاوز الصف الأول إلى الثاني دون امتحان لكن الحالة بدأت تسوء يوما بعد يوم·· أترقب كل ليلة اقتراب شهاب لامع لأطلق تنهيدة الخلاص·· فقد كان يعاني مرضا وراثيا في العائلة انتقل إليه·· لم يقصر والده في علاجه، لكن ما كتبه الله كان قد حصل·· كنت أحاول ألا أزعجه بأشياء قد يكون لها مردود سيئ على نفسيته·· كان همي تربيتهم مثل بعضهم البعض دون الخلل بهذا الشرط في التربية·· كان إخوته هم العين التي يرى بها وأخذ الجميع بيده حتى تخرج من الجامعة وعمل بها·· ولا يزال يقدم العون لكل شخص·· افتخر به جدا فقد كان مصابه سببا في ان ارى الوجه الآخر للحياة، وأن أدرك أن المعاناة هي السبيل إلى المستقبل، تترامى إلى مسامعي رؤية في الحلم فأقفز مفزوعة خائفة عليه لكنني أطمئن بأن هناك يدا حانية تمسح على قلبي، فأشعر بالاطمئنان والراحة، وقد ابتلانا الله بذلك وكلي رضى ودعاء ان يتقبل منا صالح أعمالنا·· أما كلمتي الأخيرة فهي: دعي طفلك يشق طريقه وكوني قادرة على الحماية دون خدش، وصلبة دون انحناء وسيقوي طفلك بك·