الكبيرة التونسي (أبوظبي)
لم يكن القرار سهلاً، بالنسبة لـ«لحسن يوسف»، عندما فكر في إرسال زوجته وأبنائه، للعيش في بلدهم الأم، والبقاء في بلد المهجر وحيداً، مضحياً براحته في سبيل استقرار أسرته، غلب العقل على العاطفة واختار حياة جديدة، لينعم أولاده بالطمأنينة المادية والمعنوية، واضعاً نصب عينيه مستقبلهم الدراسي في المقام الأول.
ليس لحسن الأب الوحيد، الذي فضل الغياب قسراً عن الأبناء، وإنما يعيش الكثير من الآباء بمفردهم في مختلف بلدان المهجر لسنوات طويلة، مفضلين الغربة لتوفير احتياجات الأسرة وتأمين مستقبل الأبناء، حيث تختلف الأدوار والمسؤوليات بين قطبي الأسرة «الأب»، و«الأم» التي أصبحت تتحمل جزءاً كبيراً من أعباء الأسرة، وبالمقابل يعاني الأب من الغربة، رغم أنه يحاول إخفاء ذلك بانغماسه في الشغل، ويبقى عنوان التضحية والإيثار، فقد لا يتمكن أحياناً من سماع كلمات ابنه الأولى، ومتابعة خطواته وغيرها من اللحظات التي لا تتكرر أبداً.
غياب لا يمر دون ترك أثر نفسي ومعناة في حياة الأب، يستيقظ الشوق والحنين لأحضان الأسرة، كلما حانت مناسبة دينية أو اجتماعية، ويحاول الأب تعويض ذلك الإحساس بالتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن العالم الافتراضي يبقى قاصراً على تقريب الأب من مشاعره الحقيقية تجاه أبنائه أو جلاء شعوره بالوحدة، ورغم كل التحديات فإن الكثير من الآباء اختاروا التضحية في سبيل أن ينعم أبناؤهم بالمستقبل المادي المريح.
قرار صعب
وأكد لحسن يوسف أنّ الأب قد يكون مسافراً في أكثر الأوقات، موضحاً أنه قبل أن يأخذ أبناءه إلى وطنهم، رغم أنهم ولدوا في أبوظبي، وعاشوا فترة غير قصيرة بها، وكانوا يتابعون دراستهم الابتدائية والإعدادية، لكنه يؤكد أنه درس الوضع جيداً، وفكر في كل تفاصيل حياتهم، وبعد مشاورة زوجته فضل البقاء للعمل، وغادرت هي والأبناء للاستقرار في البلد الأم، لافتاً إلى أن هاجس الدراسة والجانب الاجتماعي للأطفال دفعه لاتخاذ هذا القرار الصعب، ولم يخف لحسن تخوفه في بداية الأمر، لكنه أدرك بمرور الوقت أن ما يقوم به من تضحيات يصب في صالح الأسرة.
وعن كيفية عيشه بمفرده، أشار إلى أن الوضع صعب، خاصةً أن الأبناء أصبحوا في سن المراهقة، وفي حاجة له أكثر من أي وقت مضى، وكذلك عدم متابعة كل تفاصيل حياتهم يجعله غير مرتاح نفسياً، وما يخفف عليه وطأة هذا الشعور أنه يسافر لهم لأكثر من 6 مرات في السنة، لكنه يصعب عليه في بعض الأحيان الغياب والابتعاد.
من أجل الدراسة
غادر أحمد سعيد بلدته الصغيرة، منذ أكثر من 20 سنة، وبعد أن استقر، التحقت به أسرته الصغيرة المكونة من أربعة أولاد، تأقلموا مع أجواء الدولة، وعاشوا في سعادة، وكونوا ذكريات جميلة، ويقول أحمد: «لأن احتياجات الأولاد تتغير، فسرعان ما أصبحنا نفكر في الدراسة الجامعية، وبعد تفكير طويل قررت الاحتفاظ بالأبناء الصغار بالمرحلتين الابتدائي والإعدادي، بينما استقر الطرف الآخر من الأسرة في بلدي، حتى يستطيع استكمال دراسته الجامعية، بصحبة والدتهم كي تسهر على رعايتهم، ولم يكن من السهل اتخاذ هذا القرار، لكن أحياناً يضطر الإنسان أن يتخلى عن أمور لجعل عائلته سعيدة، فكانت التضحية كبيرة ببقاء بعض الأطفال معي، ومغادرة الباقين للدراسة الجامعية، وأصبحت المسؤولية ثقيلة خاصة أنني أقوم بدور الأب والأم بالغربة في آن واحد، حيث أعمل خارج البيت وداخله، كما يتطلب مني الأمر الكثير من الصبر، لأن الأب بطبيعته يصعب عليه إلى حد كبير القيام بدور الأم، فهم يحتاجون إلى من يسمعهم ويعطف عليهم، إلى جانب القيام بالمهام الأخرى، كمتابعة الدراسة واحتياجاتهم اليومية، وكل الأمور المتعلقة بهم، لكن التفكير في مستقبل الأبناء جعلنا نضحي براحتنا من أجلهم، ولا يقف الموضوع عند هذا الحد، وإنما نعمل على إلحاق أبنائي الصغار بإخوانهم ليلتحقوا هم كذلك بالجامعة، وحينها سأكمل المسيرة بمفردي، وكل ذلك من أجل أن نؤمن لهم مستقبلاً دراسياً جيداً، فقد ضحيت براحتي من أجلهم».
سيف ذو حدين
عندما يتعلق الأمر بالتخطيط للمستقبل، يكون عليك العمل بشكل إضافي لتلبية احتياجات عائلتك، لذا قد تتخلى عن جزء من استقرارك النفسي والعاطفي، من أجل توفير المال للعائلة على المدى الطويل، وهذا الأمر قد يكون سيفاً ذا حدين، حيث يعتاد المغترب على الوحدة، ومع مرور الوقت يصبح الأب يفضل الغربة، ولا تصبح له القدرة على الاستمرار في العيش مع أسرته بشكل مستمر، هذا ما أوضحه الأب محمد رجب، الذي يعمل بإحدى الشركات الخاصة، وأشار إلى أنه فضل القدوم للدولة للعمل دون أسرته الصغيرة، ومع شعوره المتفاقم بالوحدة قرر لم شمل أسرته، فاستأجر بيتاً كبيراً، وجاء بأطفاله وزوجته للدولة، واستدعى الأمر تغيير عاداته اليومية وأسلوب حياته، الأمر الذي سبب له ضجراً كبيراً بسبب اعتياده على الوحدة، إلى جانب عدم اعتياد الأطفال على تلقي الأوامر منه، بسبب بعدهم عنه لفترة طويلة، وانتهى الأمر بعودة العائلة من حيث أتت، وبقاء الأب بمفرده بعد مرور أقل من سنة، مفضلاً مرارة الغربة على مسؤولية الأبناء.