نوف الموسى

اختيار الشاعرة والمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، لتقديم منجزها المتمثل في العمل التجهيزي «عبور» في الجناح الوطني لدولة الإمارات، ضمن فعاليات الدورة 58 من المعرض الدولي للفنون في بينالي البندقية 2019، يمثل إضافة نوعية لتجربتها الإبداعية. فـ«عبور»، يتخذ من السمة الإنسانية، سؤالاً جوهرياً هو: كيف يُمكن أمام التحديات التي يواجهها الإنسان، في الوقت الراهن، على مستوى الهوية وشعور الاغتراب، بسبب المتغيرات المجتمعية، أو مخرجات الحروب، أو حتى الإحساس الدفين بالفقد، أن يستمر بممارسة فعل العبور في خضم تلك المراحل وتجاوزها، متمسكاً بالحياة، باعتبارها فُرصة لخلق حالة فنية جمالية، تجعل العالم مكاناً أفضل للعيش؟

مشروع نجوم الغانم «عبور» جاء بالتعاون مع القيّمين الفنيين للجناح الوطني سام بردويل وتيل فلرات، ما يجعل اختيارهما لها يكتسي بُعداً محلياً، حول أبعاد مشاركتها في إثراء الحراك الثقافي بدولة الإمارات، على مستوى النقاش الفكري وإعادة اكتشاف المفاهيم الإنسانية وبلورتها آنياً، وما تقدمه بالمقابل على مستوى التبادل الثقافي العالمي.
كل هذه المحاور طرحها «الاتحاد الثقافي»، في حوار مع المخرجة والشاعرة نجوم الغانم التي كشفت سر اختيار قصيدة «العابر يلتقط ضوء القمر»، كإحدى نقاط الارتكاز في العمل التجهيزي، إلى جانب مكوّن «الصوت» الذي عكسته الممثلة السورية أمل حويجة، باعتباره لغةً للتواصل بين حيوات الشخصيات في العمل الفني.
وهنا نص الحوار:

الفكرة والصوت
* في البداية من الضروري أن نتعرف على آلية اختيارك للموضوع/‏‏‏ الفكرة الرئيسية (Theme) لعمل تجهيزي مدته الزمنية تقارب الـ26 دقيقة؟
** في الحقيقة، منذ اللحظة الأولى التي تواصل فيها معي القيّمان سام بردويل وتيل فلرات، وطلبا فيها مجموعة من أعمالي الشعرية والسينمائية، لم أكن على دراية بالجهة المعنية في التكليف الفني، حتى تم الاعتماد من اللجنة المسؤولة عن الاختيار في الجناح الوطني لدولة الإمارات. وعند دراسة اختيار الفكرة الرئيسية للعمل التجهيزي، اهتممت بنقطة مفصلية وهي أن الجمهور في بينالي البندقية، ليس بالضرورة متخصصاً في السينما أو الفن، ولكنه في العموم جمهور يتذوق الفن ويحب الثقافة. وإثر ذلك، تم الاتفاق بشكل أساسي على مسار تناول الموضوع، اعتماداً على ما يمكن تسميته بـ«الثنائيات» في طرح القضايا الإنسانية. فكما تعلمون هناك 3 شخصيات في العمل، هي: «أمل» ممثلة سورية تعيش في الإمارات، والمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، والشخصية الروائية «فلك» (امرأة مغتربة). وعندما نأتي لتحليل الشخصيات، نُلاحظ عملية التمازج الفني، مع الممثلة أمل والمخرجة نجوم، اللتين تشتغلان طوال الوقت على عمل ما سيعرض في «بينالي البندقية»، سيمثل «الواقع». وفي الجهة المقابلة، هناك الشخصية «فلك»، التي تعكس فعل السرد الروائي في الفيلم. وتبعاً لرؤية القيّمين، فإن الشكل الفني المتفق عليه هو الـ«فيديو آرت»، والتحدي فيه أن يظل العرض جاذباً للجمهور وتفاعلياً، ومنه نشأت فكرة «الشاشتين»، لعرض قصتيّ «الواقع» و«الروائي»، ويتم ربط هذين العالمين عبر «الصوت».

* المسارات الإنسانية في العمل التجهيزي معقدة في تكويناتها، اتخذت جزئيات حساسة جداً، وتكاد تكون مؤلمة، من بينها «الاغتراب» مثلاً، كيف تم التماهي بين طبيعة الشعور الإنساني، والتقنيات المستخدمة لإيصالها في «عبور»؟!
** حول مسألة الجزئيات الإنسانية، هناك عدة أوجه، من بينها، مثلاً، أن الإنسان قد ينتابه إحساس بـ«الهامش»، يستشفه باعتباره أقلية، ويمكن تطبيق ذلك، على شخص لديه اهتمامات مختلفة عن السائد في مجتمعه، ما يجعله يعيش حالة من الاغتراب، أحياناً فرد بين مجموعة عائلية في البيت نفسه، وهذا البعد يمثل جزئية بسيطة، أمام مكاشفتنا للشخصيات كافة في العمل، فنحن في الوقت الراهن نواجه كماً من الفقد الذي يجعلنا نشعر بأننا وحدنا أمامه، نتساءل: كيف يمكننا أن نعبر هذه المرحلة؟ ومنها نتأمل هذه الشخصيات التي لها هموم متعددة، نتجت من مصادر مختلفة، قد تكون الحروب أبرزها، ومتغيرات المجتمع، وما يوازيه من تعقيدات شائكة. فكأن «عبور» أراد أن يفتح مساراً، وأن يقول للمحاصرين والمعزولين: فلنغادر الهامش.
أما تقنياً؛ فقد اخترتُ قصيدة «العابر يلتقط ضوء القمر»، وهي المرتكز الأساسي، وتتخلق حولها القصتان. وأستطيع القول إن البطل الآخر هو «الصوت»، لأنه كان يقود الجمهور بشكل يجعله متصلاً ومتواصلاً، بسبب تحفيز الصوت لـ«الفضول» لدى الجمهور، لمعرفة ما يحدث على الشاشة، إلى جانب أن العمل التجهيزي «عبور»، شكل حالة من الحركة حول العمل، يستدعي فيها أن يمضي المشاهد من الناحية الأولى إلى الثانية، لاستكمال ما يحدث في قصة العمل. وبالرجوع إلى «الصوت» مجدداً الذي تم بناؤه على أساس 12 قناة صوتية، تتماهى ذبذباتها في غرفة معتمة، حرصت على إيصاله، بشكل يتسرب فيه للزائر، دونما إحساس بالإزعاج أو المباشرة في الطرح. وقد تم الاشتغال في داخل الفيلم على التأثير الأفقي في مستويات الوعي لدى الإنسان، فمثلاً نرى الشخصية الروائية «فلك»، تنزل عبر درجات السلم للأسفل، بحثاً عن «البيت»، ويُرى نزولها بشكل فيزيائي/‏‏‏ مادي، إلا أنه رمزي لكونها تبحث في داخل ذاتها عن البيت، ولكنها تذهب في نهاية الأمر إلى الطبيعة الأم.

المكان والهوية
* ما سبب اختياركِ قصيدة «العابر يلتقط ضوء القمر» التي كُتبت قبل 10 سنوات مضت، ألم تكن هناك قصائد جديدة لـمشروع «عبور»، وما مدى إمكانية «التأويل» في رمزية خلق «اللغة» داخل العمل التجهيزي؟!
** هناك قصائد جديدة كتبتها على شكل فصول، نُشرت في «الكتالوج» الخاص بالعمل التجهيزي «عبور»، ويمكن للجميع الاطلاع عليه، ولكن السر في اختيار قصيدة «العابر يلتقط ضوء القمر» العائدة لعام 2009، يعود لتأثري العميق وقتها بما حدث مع بعض من أصدقائي.. فقد توفي أحدهم أثر إصابته بالسرطان في أوروبا، بينما قرر الآخر أن ينتحر، والقصيدة تعكس معاناتهم، وقصص حياتهم المؤلمة كونهم عرباً يقيمون في المهجر، وكيف أنهم لم يصلوا إلى أي مكان بقرار الهجرة، وهي تجربة مؤلمة جداً، وما حدث لهم لا يزال يتكرر عبر الزمن. وفي موضوع اللغة، لم أود أن تتكلم الشخصية «فلك» أي لغة، حتى لا يتم احتسابها على بلد أو جنسية ما.

* عطفاً على ما ذكرته مسبقاً؛ لماذا أصررتِ على إظهار مشهد «المكان»، عبر بيان تفاصيل جغرافيا موقع التصوير في دولة الإمارات، في العمل التجهيزي، رغم فعل التجريد طوال العرض؟!
** بالنظر إلى نجوم (الشخص)، فأنا أنتمي لهذا المكان، وهو يعتبر عالمي، والمسرح الذي أشتغل عليه، وما حدث كله في العمل بمثابة عمل درامي، أنتجناه هنا في دولة الإمارات، شعرتُ أنه من الجميل، أن أعكس هذا البعد المكاني.

* هذه النقطة تنقلنا إلى مسألة مهمة وهي «الهوية» وأهميتها الثقافية، كيف تنظرين إلى اعتبارات الهوية في عالمك وتفكيرك وإبداعك الفني؟!
** هويتي بالنسبة لي ثقافتي وعالمي كذلك، هو الجانب الفكري الذي أنتمي إليه، وليس شرطاً أن يوحي إلى جغرافيا بعينها، هو انتماء إلى تاريخنا الذي نحمله معنا أينما نذهب، حتى وإن رحلنا إلى جغرافيا مختلفة، لا نستطيع أن نتخلى عن هذا الانتماء، هو شيء متجذر فينا ويربطنا بالعالم، هو مركزنا وما يجعلنا أقوياء وخلاقين. وإذا ابتعدنا عن هويتنا، فإننا بلا شك نشعر بالضياع، نحن نحتاج هويتنا، لأننا نحتاج إلى أن نُعبّر من مكان ما. ولهذا السبب نفسه ولسنوات طويلة، جاءتني الكثير من الفرص، للاشتغال على أفلام سينمائية، في مكان غير الإمارات، ولم أقبل بها. لأن العمل مع ممثلين خارج مكانك، يقدم لك عالماً معيناً، ولكنه بالتأكيد لا ينتمي للقصة التي كتبتها. عملتُ على نصوص لـ«فيلمين» على مدى سنوات طويلة، وواجهت تعقيدات كثيرة، منعت خروجهما للنور، وأعتقد أنه لا يزال هناك علامات استفهام كثيرة حول الإنتاج في العالم العربي، ومنها ركزت على الأفلام التسجيلية، والجانب التوثيقي، والبحث في شخصيات تنتمي للهوية الإماراتية.

التراث والتاريخ
* في البعد التوثيقي، تعرضتِ لآراء متباينة، وصفتها بالمحزنة، وهي أن البعض أطلق على اشتغالك في الأفلام التسجيلية، لكونها شيئاً شبيهاً بـ«التراث»، ما أسموه بـ«أفلام تراثية»، هل في اعتقادكِ هناك إشكالية في المفهوم «التراثي» و«التاريخي» عبر الوثائقيات؟!
** إنه لمن المحزن أن ترى آراء تنظر إلى الأشخاص الذين عملت عنهم في أفلامي الوثائقية، أنهم بمثابة شيء من التراث، بمعنى أنهم يعيشون في الماضي، والأمر على عكس ذلك، فهؤلاء الناس ينتمون لهويتهم بشكل كبير، ويعيشونها في حاضرهم، وما عمدت إليه في الأفلام، هو إبراز حياتهم، ولم يكن القصد تسجيلاً للتراث، وإنما اهتمام بشخصيات فريدة، تستحق أن يتم تسليط الضوء عليها، وهذا الأمر يعكس الصورة النمطية عن شخص يقوم بنشاطه اليومي المحلي، وليس بالضرورة أن يعتبر من التراث. للأسف الشديد، تلك الآراء فيها استعلاء على الإنسان الحقيقي، يبديها عادةً الآخر الذي يعيش معنا، وينظر إلينا ويقسمنا بنظرة متعالية على أساس انتماء إلى الأبنية الشاهقة أو إلى القرى النائية، وإذا كنا على علاقة وطيدة بالأمكنة وبعوالمنا في المناطق النائية، فإن ذلك بالنسبة لهم أقل وأدنى من المدن. يجب علينا الوعي بأهمية احترام الخلفية الاجتماعية والقبلية والأثنية وغيرها لكل إنسان على هذه الأرض.

* في الحديث عن الصور النمطية للخلفيات الثقافية والتاريخية والاجتماعية وغيرها، هل واجهتك تساؤلات حول ذلك أثناء مشاركتك في بينالي البندقية؟!
** أعتقد أن ما حدث معي في بينالي البندقية، كان مختلفاً تماماً، هناك اهتمام شديد بعملنا على الصعيد الإعلامي، نُشرت قراءات مهمة حول العمل التجهيزي «عبور»، وتم التعامل معي باحترافية كاملة، والسؤال حول أدوات الاشتغال على العمل، والاحتفاء بالفن ذاته، دون التطرق نهائياً إلى تلك الخلفيات.

مع غوته
* تم الاحتفال مؤخراً، بإصدار كتاب «الديوان الجديد»، وهو أحد مشاريع دار النشر البريطانية «Gingko»، احتفالاً بالذكرى المئوية الثانية، لكتاب الشاعر الألماني غوته «الديوان الغربي الشرقي»، وكنتِ الشاعرة الوحيدة من الخليج التي نُشرت لها قصيدة ضمن الكتاب، بمشاركة 24 شاعراً من الشرق والغرب، كيف تنظرين إلى التجربة ككل؟! ** فعلياً، شعرت بتقدير للقصيدة، عندما تم اختيار قصيدتي «الظِّلال القُرْمُزيّة»، لنشرها في الجزء الخاص بكتاب «زليخة»، وهو أحد الأجزاء الـ12 لـ«الديوان الغربي الشرقي» الذي يحمل كل جزء فيه اسماً، وذلك نتيجة تأثر غوته بأعمال الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي. والحدث شكل فرصة لإحداث تماس جديد مع غوته، ما جعلني في مكانة ليست محايدة كقارئة، بل متورطة. والجزئية المتعلقة بـ«زليخة»، كتبها غوته مع حبيبته «مريانا» التي شاركته في كتابة القصائد، وسمى نفسه فيها «حاتم»، وسمى حبيبته «زليخة»، فالأخيرة تحضر على مستوى الشخصيات في التراث الإسلامي، بامرأة العزيز التي تعشق النبي يوسف، كما ذُكر اسم «زليخة» في تاريخ العهد القديم، في مواضع عدة، وبما أنني أنتمي لهذه الثقافة العربية والإسلامية التي تحتفي بالعشق في الشعر العربي، حفزني ذلك لكتابة قصيدة على شكل حوار بين «حاتم» و«زليخة»، تعمدتُ فيها أن أضع الحرف الأول لاسم كل منهما في القصيدة.

عن البندقية
اعتبرت المخرجة والسينمائية نجوم الغانم، أن تجربتها الإنتاجية مع مؤسسة سلامة بنت حمدان آل نهيان، المفوّض الرسمي للجناح الوطني في بينالي البندقية، من أهم التجارب الإبداعية، التي ساهمت من خلالها المؤسسة في تسهيل الإجراءات كافة على مستوى التمويل والدعم اللوجستي وغيرها، إلى جانب الدعم المتكامل من فرق العمل والقيّمين كافة الذين كانوا على مستوى عالٍ من الاحترافية. الجدير بالذكر، أن المخرجة والشاعرة نجوم الغانم شاركت في بينالي البندقية عام 2017، مع مجموعة من الفنانين، وتعتبر مشاركتها الأخيرة هي الثانية، وقد أوضحت أن الحضور في المرة الأولى، انصب أكثر في كونه مشاركة للتاريخ، عرضت فيها عملاً قديماً أنتجته سنة 1994، بينما جاءت المرة الثانية لتقدم تجربتها الإبداعية الراهنة.