«تاريخ تركيا المعاصر» يرصد انهيار الدولة العثمانية ويحلل سياسة اسطنبول
يلقي كتاب “تاريخ تركيا المعاصر” الضوء على تاريخ تركيا الحديث والمعاصر ويكشف حقائق قد تغيب عن الكثيرين. ويقول مؤلف الكتاب حميد بوزرسلان، إنه على الرغم من القطيعة والمواقف التركية الداعمة لإسرائيل لم يقف العالم العربي موقف العداء من تركيا، بل كان الشعور العربي هو شعور “استهجان” المواقف التركية. ومع الفورة النفطية كانت أبواب العالم العربي مُشرعة للمهنيين ورجال الأعمال وشركات النقل التركية، وهو أمر أسهم في إنعاش الاقتصاد التركي في مرحلة من أسوأ مراحل ترديه. ثم شهدت العلاقات التركية - العربية تغيرات متسارعة تجلت مع وجود رجب طيب أردوجان في رأس هرم السلطة، مقدماً خطاً معتدلاً على المستويين الداخلي والخارجي لتعود تركيا للتواصل مع العالم العربي، وتتبدل سياسة الدعم غير المشروط لإسرائيل إلى سياسة اقتصادية للسياسة الإسرائيلية القائمة على التطرف والمذابح وعدم إقرار الحقوق.
بعد 400 سنة من السيطرة التركية على العالم العربي، يقول مؤلف كتاب “تاريخ تركيا المعاصر” حميد بوزرسلان، إنها أعقبت بـ 100 سنة تقريباً من الابتعاد، تبنت تركيا خلالها أيديولوجية ترى في الإسلام “عبئاً وديناً مغلقاً غير قادر على الاستفادة من التاريخ”، وترى في الشعوب العربية شعوباً “جاهلة وجاحدة”، وتعتقد أن الهزائم الكثيرة التي تعرضت لها السلطنة كانت بسبب الشعوب والقوميات التي تشكلت منها الامبراطورية، والتي عملت على إضعافها وبالتالي لا بد من استعادة سيطرة العرق التركي، فكان هذا مقدمة لـ”التتريك” والذي انتهى بسيطرة كمال أتاتورك المطلقة على السلطة من غير منازع، حيث سعى إلى القضاء على ما رآه سبباً في انهيار الامبراطورية التركية ألا وهو التعدد العرقي والديني الذي كوّن الامبراطورية المنهارة.
وخلال 100 عام من عمليات تطويع قادها الجيش التركي أصبح هو السلطة الفعلية في تركيا، والتي سارت صوب السياسة الكمالية المتعصبة للأتراك، وذلك عبر سحق الاثنيات والأقليات المختلفة المتضمنة في الكيان التركي. ومع كل هذا التاريخ المليء بانتهاكات حقوق الإنسان وبعصابات قتل مدعومة من السلطة العسكرية مثل “الذئاب الرمادية”، فإن كثيراً من الكتابات تحدثت عن أن تركيا هي الدولة الوحيدة العلمانية و”الديمقراطية” في العالم الإسلامي، وتم النظر إلى النموذج التركي باعتباره نموذجاً مميزاً يستحق الدعم الذي يأتي غالباً من الولايات المتحدة الأميركية.
عقال الحرية
يعود المؤلف إلى القرن التاسع عشر، والذي يصفه المؤرخ ايلبر أورتايلي بـ”القرن الأطول في تاريخ أوروبا” نظراً لكثرة الاضطرابات والتقلبات العديدة التي شهدها وهو ما أثر بالتالي على الامبراطورية التركية في ذلك الوقت، في هذا القرن وجد القصر العثماني وبيروقراطيته وكذلك مختلف مكونات المجتمع العثماني أنفسهم عاجزين عن إعادة إنتاج النظام الإمبراطوري مثلما كان مؤسساً ومنظماً منذ قرون عدة، وهو ما تجلى في اغتيال السلطان عبدالعزيز الذي خلفه مراد تاركاً الحكم لمرضه العقلي إلى السلطان عبدالحميد الثاني الذي سرعان ما جوبه بخطر حرب جديدة مع روسيا، مصحوبة بتوترات وقلاقل عديدة شهدتها الساحة التركية الداخلية ما حدا به إلى مركزة السلطة بإفراط في محاولة منه ليسيطر على عقال الحرية الذي صار يراه منفلتاً في تركيا ومتجهاً نحو الغرب، فعمل على ترسيخ عقيدة محافظة جداً أسماها البعض بالإسلاموية.
وأظهر عبدالحميد الثاني أنه كان مهتماً بالانتقادات الصادرة من المعارضات الإسلامية المختلفة كالوهابيين والسلفيين، ولكن “نزعته الإسلامية” كانت تشكل درعاً استراتيجياً، وكانت المؤشرات توحي بأنه يدرك أن امبراطوريته ستنكمش في النهاية داخل الأناضول، فكانت عقيدته تهدف إلى خلق تجانس في هذه “النواة الصلبة” وحمايتها بدائرة تضم الجماعات المسلحة ولكن غير التركية مثل الأكراد والعرب.
النخبة العسكرية
يشير بوزرسلان إلى أن عبدالحميد، وعلى الرغم من نجاحه في إشاعة الاستقرار في الامبراطورية، إلا أنه فشل في التغلب على الشرخ بين القصر والنخبة العسكرية والمدنية الجديدة التي أفرزتها الإصلاحات التي حدثت في المجتمع التركي، وهو ما أدى إلى صعود جماعات سياسية جديدة كان أبرزها جمعية الاتحاد والترقي التي تمكنت من الوصول إلى السلطة في تركيا، وتم خلع السلطان عبدالحميد الثاني وأحل محله السلطان محمد الخامس حيث بدأت الجمعية في إخضاع السلطان الجديد بحسب اتجاهاتها ومبادئها وما تنادى به من إعلاء للنزعة القومية التركية، وصارت تركيا تتحول تدريجياً إلى نظام الحزب الواحد، وانتهى الأمر بدخوله الحرب العالمية الأولى.
في هذا الإطار، يلفت بوزرسلان إلى أن القرار الاتحادي بدخول الحرب دون أي سبب يستدعي ذلك ورغم أن باريس ولندن دعتاه للبقاء على الحياد، كان قراراً مُلغزاً، ولكن يمكن تفسيره بجملة من العوامل منها في المقام الأول كانت الحرب تتيح تعزيز نظام الحزب الواحد ومنع التعبير بشكل دائم عن كل مشروع سياسي آخر غير الذي يمجده الأيديولوجيون القوميون. وفي المقام الثاني كان لدى أطراف جمعية الاتحاد والترقي ثقة كاملة بالتفوق العسكري الألماني وبقدرته على تحقيق النصر سريعاً. أي أن الدخول في الحرب كان يعطي فرصة مثالية لقطع علاقات التبعية التي وضعت الامبراطورية تحت الوصايا الاقتصادية لبريطانيا العظمى وفرنسا ولإلغاء إدارة الموارد الجمركية التي كانت هي الأخرى تحت سيطرتهما، وأبعد من الاهتمام بالاستقلال الاقتصادي كانت الحرب تقدم فرصة للانتقام التاريخي من روسيا واحتلال آسيا الوسطى، أرغنكون القومية التركية، المهد الأسطوري للأمة (أرغنكون: وادٍ في آسيا الوسطى يعتبره القوميون الأتراك المهد الأسطوري للأتراك الأوائل).
نتيجة مؤلمة
الحرب وكما يوضح بوزرسلان انتهت بنتيجة مؤلمة بالنسبة لتركيا، فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتوقيع ما يعرف بـ”هدنة مودرس” تم احتلال ما تبقى من الامبراطورية العثمانية، وتقسيمها فعلياً، حيث استولت بريطانيا العظمى على كامل ولاية الموصل (كردستان “العراق حالياً”) واستولت إيطاليا وفرنسا على جزء من منطقة المتوسط من تركيا الحالية واستولت اليونان على سميرنا.
ثم كرست معاهدة سيفر (15 أغسطس 1920) التي أكرهت الحكومة العثمانية على توقيعها تجزئة الامبراطورية، بل والأخطر من ذلك تجزئة الأناضول، وفرضت سيطرة دولية على المضايق، وأخيراً كانت المعاهدة تنص على إقامة دولة أرمينية ومنطقة كردية ذات حكم ذاتي من الممكن أن تفضي إلى الاستقلال.
ويلفت بوزرسلان إلى أن الفترة الأولى لمقاومة هذه السلسلة من الاحتلالات كانت ضعيفة بقيادة الجنرال كاظم قرة بكر قائد جيش الشرق، إلا أن هذه المقاومة اشتد ساعدها بوصول مصطفى كمال أتاتورك، الجنرال الذي لفت الأنظار في الدردنيل وفي سوريا أثناء الحرب العالمية الأولى، إلى الأناضول في أغسطس من عام 1919، حيث قاوم مصطفى كمال احتلال القوات المتحالفة، ورفض مشروع فرض انتداب أميركي على ما تبقى من الامبراطورية، وهو المشروع الذي كان بعض القوميين يعتبرونه الفرصة الوحيدة لإنقاذ الأمة التركية. وتطورت جهود أتاتورك إلى حرب استقلال شاملة انبثق عنها نواة مركزية لدولة تزعمها مصطفى كمال أتاتورك.
تساقط الرؤوس
يعرج الكاتب على عام 1923 حيث أعلنت الجمهورية التركية التي أصبح كمال أتاتورك أول رئيس لها ووضع أتاتورك المبدأ الذي سيسري منذ ذلك الحين في تركيا الثورية حينما قال “الآن ثارت الأمة وعزمت على أن تستعيد بنفسها ممارسة السيادة، إن الأمر يتعلق بحقيقة ناجزة لن يكون بوسع أي شيء الوقوف في وجهها، سيكون من المناسب أن ينضم كل واحد من أعضاء هذا المجلس إلى وجهة النظر هذه المستندة إلى الحق الطبيعي، وبخلاف ذلك سوف لن تتغير وقائع الحقيقة المحتمة، ولكننا قد نرى رؤوساً تسقط”.
وينتقل بوزرسلان إلى الحقبة التي عاشتها تركيا بين 1950-1983 والتي شهدت تقارباً ملموساً مع الغرب، وهي السنوات التالية لقرار إينونو (الذي تولى رئاسة تركيا فيما بعد) إعادة توجيه السياسة الخارجية التركية في عام 1949، حيث انضمت تركيا إلى مجلس أوروبا وأظهرت أولى علامات التحالف مع واشنطن الحكومة الديمقراطية المعجبة بـ”النموذج الأميركي” والراغبة في جعل تركيا “أميركا مصغرة”، وانضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلنطي، وفي السنة ذاتها أرسلت قوات إلى كوريا، كما شكّلت المستودع الرئيسي للمعدات الاستراتيجية الغربية والأميركية في شرق أوسط مزعزع بأزمات متعاقبة. كما اتبعت سياسة التقارب مع الغرب في الميدان الاقتصادي أيضاً حيث أصبحت تركيا عضواً في البنك الدولي، ومنذ تأسيس هذه المؤسسات استطاعت أنقرة أن تستفيد من قروض مباشرة وغير مباشرة، منحت غالباً بسخاء، وكذلك من الرساميل الخارجية التي مع أنها ظلت متواضعة، ساهمت في الحيوية الاقتصادية للبلاد وخلال عقود، غدت تركيا مع إسرائيل البلد الوحيد الصناعي فعلياً في منطقة الشرق الأوسط.
ويشير الكاتب إلى أنه بدءاً من عام 1983 وحتى عام 2002، ظهر ما يعرف بـ”عقود الأزمة” والتي بدأت مع حكم حزب الوطن الأم لمدة ثماني سنوات انتهت عام 1991، حيث قدمت سلطة الحزب نفسها على أنها المدافع عن الدعامة المركزية وهو التعبير المجازي المستخدم للحديث عن الطبقات الوسطى، ولأنها محافظة جداً سعت إلى بلوغ الأسهم الرابحة للنظام العسكري الذي كان قد حرم السياسيين السابقين من حقوقهم المدنية وفي ذات الوقت كان حريصاً أيما حرص على مبادئ الدولة الكمالية.
عقد الأزمات
مع أن تورجوت أوزال رئيس الدولة التركية آنذاك، كان من أصل كردي، إلا أنه أراد أن يكون بطل القومية التركية وباني دولة قوية قادرة على فرض القانون والنظام. وفي ظل هذه الأجواء أخذ الوضع الاقتصادي يتحسن بعد مرحلة الإفقار في عقدي السبعينيات والثمانينيات، وأخذت البلاد تخرج من ركود النظام العسكري الذي جمد الرواتب وحظر الاضطرابات من عام 1980 إلى 1983، ثم كانت الحرب العراقية - الإيرانية، التي أتاحت بما يسرته من برامج واسعة لتشييد البنية التحتية في بلدان الخليج لعدد من المهنيين والمقاولين والخبراء الأتراك التحرر من ضغوطات سوق داخلية ضيقة والوصول إلى إيراد منتظم من العملة انعكس إيجاباً على مجمل الاقتصاد.
أما الفترة من 1991 وحتى 1999 فيصفها المؤلف بأنها “عقد الأزمات المتواصل” على الرغم من أن انتخابات 1991 عبرت عن ولادة تركيا مستقرة، قادرة على حلّ المسألة الكردية ودمج مختلف حساسياتها السياسية ولعب دور يساهم في الاستقرار في ما وراء حدودها، حيث يتعرض المؤلف لكثير من العلاقات المتداخلة في المجتمع التركي ما بين السلطة وكل من الأكراد والعلويين، وكذا صعود ما يعرف بالإسلام السياسي، وهي جميعاً عوامل أدت إلى ظهور هندسة جديدة للسلطة في الدولة التركية تبلورت مظاهرها في نوفمبر عام 2002 حيث أزيح شيوخ السياسة التركية من أمثال أجاويد وأربكان ودفعت الطبقة السياسية ثمن الفضائح الخانقة وقضايا الفساد المتواصلة التي سويت دائماً على أنها قضايا عائلية.
صراعات متعددة
هذه المعطيات دفعت الناخبين في ذلك الحين إلى ترجيح كفة الشاب رجب طيب أردوجان رئيس بلدية أسطنبول والمنشق عن حزب “أربكان” وذلك عبر تأسيسه لحزب العدالة والتنمية مطلع الألفية الثالثة، الذي لم ينف أهمية المرجعية الإسلامية في برنامجه وطرح نفسه كضامن للديموقراطية والعلمنة في تركيا مقابل المؤسسة المعادية لأوروبا، وجعل بوضوح من الخيار الأوروبي أولوياته، غير أن أردوجان الذي كان محروماً من حقوقه المدنية آنذاك، لم يستطع أن يصعد إلى هرم السلطة فكانت من نصيب رفيقه عبدالله جول الذي تولى قيادة الحكومة إلى أن تم رفع الحظر المفروض على الزعيم الفعلي في أعقاب تغيير في القانون، وانتخب في مارس 2003 وأصبح رئيساً للوزراء وعين جول وزيراً للخارجية.
وسرعان ما وجدت الحكومة الجديدة نفسها في مواجهة أزمتين إقليميتين: انضمام قبرص إلى أوروبا، ثم حرب الخليج وتبعاتها، غير أن هذه الفترة أيضاً 2002-2006 شهدت بداية عملية اندماج تركيا حقيقية في الكيان الأوروبي، وإن كانت غير مؤكدة، بسبب بعض التحفظات التي كانت ولا تزال لدى كل من الاتحاد الأوروبي، وتركيا كلاً من جهته، ولا تزال هذه الخلافات ووجهات النظر المتباينة بين الطرفين الأوروبي والتركي ويدور رحاها في تلك الصراعات العالمية المتعددة، والتي تتخذ من منطقة الشرق الأوسط ملعباً لها، وبطبيعة الحال تركيا لاعب رئيسي في هذا الفلك، وهو ما يجعل وجود تركيا وعلاقاتها في هذا الحيز من العالم، أمراً بالغ التعقيد وينبغي التعامل معه بقدر عالٍ من حسابات المصالح، والاستفادة من القدرات الموجودة في حوزته، والتي يمكن لأي طرف يجيد قواعد السياسة ولغتها أن يفيد منها إلى مدى بعيد.
سؤال الأسبوع..
ساعة ثمينة أسبوعياً لكل فائز
في السطر الأول من الصفحة 87 ورد اسم دولة أوروبية ... ما هي؟
ألمانيا فرنسا البرتغال
اسم المتسابق حسب جواز السفر :
المدينة :
رقم الهاتف:
ترسل الإجابة إلى العنوان التالي : جريدة «الاتحاد» ص ب (791)
يكتب على المظروف «مسابقة الكتاب الأسبوعية » - دنيا الاتحاد
ملاحظة: سيتم استبعاد المشاركات المصورة أو التي ترسل دون الكوبونات الأصلية،
الكتاب صادر عن مشروع «كلمة» وللحصول عليه يرجى التوجه إلى مكتبة المشروع الملحقة بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث. هاتف 6576192 - 02/ 6576101 - 02
بالاضافة إلى 121 منفذاً أخرى بكافة إمارات الدولة. ولمزيد من المعلومات يرجى الاتصال على هاتف رقم 0508703262/ 0501499714 وهما خاصان بالإمارات الشمالية.
? الفائز عن كتاب «الخوف من البرابرة» القارئة سالي إبراهيم محمد
والإجابة الصحيحة هي «فرنسا».
آخر موعد لتسلم الإجابة يوم الأربعاء الموافق 30/6/2010
المصدر: أبوظبي