(القاهرة) - يعد شيخ الإسلام أنس بن مالك من أئمة الحديث وأحد أوعية العلم الكبار ولريادته ومناقبه واجتهاده لقبوه بحجة الأمة وإمام دار الهجرة، وترك مصنفات فائقة الدقة، وتسبب الحسد والحقد في تأليب الولاة عليه فجلدوه ونكلوا به وسط الناس. ويقول الدكتور منتصر مجاهد – أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة قناة السويس- ولد مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث، على الأصح في سنة 93 هـ، واتجه منذ صغره إلى تحصيل علومه ودرس الفقه والحديث والكلام والتفسير وغيرها من علوم الشريعة والعربية، على أكابر ومشاهير علماء عصره، منهم إبراهيم بن أبي عبلة المقدسي، وأيوب بن أبي تميمة السختياني، وثور بن زيد الديلي، وجعفر بن محمد الصادق، وحميد الطويل، وداود بن الحصين، وربيعة بن أبي عبدالرحمن، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، وصالح بن كيسان، وغيرهم الكثير، فنبغ ووصل إلى مصاف العلماء من حيث التأهل للتدريس والفتوى وله إحدى وعشرون سنة، والتف حوله طلاب العلم، وبلغت شهرته الآفاق، وحدث عنه جماعة وهو في مقتبل العمر، وتتلمذ على يديه الكثيرون من النجباء الذين صاروا من كبار علماء عصرهم يشد إليهم الرحال منهم إبراهيم بن طهمان، وإبراهيم بن عبدالله بن قريم الأنصاري قاضي المدينة، وأبو حذافة أحمد بن إسماعيل السهمي، وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، وإسحاق بن محمد الفروي، وإسماعيل بن أبي أويس ومحمد بن ادريس الشافعي. وكانت مناقبه غزيرة، وعرف بالزهد والكرم والفهم والذكاء والعزوف عن الدنيا وزينتها، والجود، وعد في العلم والفقه والحفظ بمنزلة فقهاء المدينة السبعة، وأثنى عليه العلماء، قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. ووصفه محمد بن سعد بأنه: كان ثقة مأمونا ثبتا ورعا فقيها عالما حجة. وذكر البخاري عن علي بن المديني ان: له نحو ألف حديث. وقال محمد بن إسحاق الثقفي السراج: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن أصح الأسانيد فقال: مالك عن نافع عن بن عمر. وقال أبو بكر الأعين عن أبي سلمة الخزاعي: كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج يحدث، توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوة، ومشط لحيته. فقيل له في ذلك فقال: أوقر به حديث رسول-صلى الله عليه وسلم. وروى إبراهيم بن المنذر الحزامي عن معن بن عيسى: كان مالك بن أنس إذا أراد أن يجلس للحديث اغتسل، وتبخر، وتطيب، فإن رفع أحد صوته في مجلسه تلا قول الله تعالى:”يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي” فمن رفع صوته عند حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله-عليه الصلاة والسلام. وعنى الإمام مالك بالعلوم المختلفة، والفنون المتنوعة فبرع في كثير منها، وظهرت براعته في علم الحديث وحفظه والدراية براويته ورجاله والإسناد والضبط والإتقان، وكانت له اليد الطولى فى الفقه والتفسير، وبلغ رتبة الاجتهاد المطلق، وأطلقوا عليه إمام الأئمة، وشيخ الإسلام. وترك الإمام مالك مجموعة كبيرة من الصنفات من أشهرها “رسالته إلى ابن وهب في القدر والرد على القدرية “، و”في النجوم وحساب مدار الزمان ومنازل القمر”، و”رسالة في الأقضية “، و”رسالة إلى أبي غسان محمد بن مطرف في الفتوى”، و”رسالة إلى هارون الرشيد في الآداب والمواعظ”، و”تفسير غريب القرآن”، و”رسالة إلى الليث بن سعد في إجماع أهل المدينة “، و”الموطأ” وهو أشهرها وأهمها. وقد تعرض لمحنة قاسية بدافع من الحسد والحقد على المكانة التي حققها الامام عند الناس وبين طلابه وأصحابه، وذهبت المصادر الى أن المؤرخين اختلفوا في سبب هذه المحنة، قال القاضي عياض السبتي: قال ابن مهدي: اختلف فيمن ضرب مالكا، وفي السبب في ضربه، وفي خلافة من ضرب. وذكر البعض أنه لما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا بالوشاية اليه وكثروا عليه عنده وقالوا لا يرى مالك بيعتكم وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز عنده، وذكرت المصادر أنه في عام 146هـ، أمر بطلبه، وضربه بالسياط حتى أثر ذلك على يده، وقال ابن سعد: حدثنا الواقدي قال: لما دعي مالك، وشوور، وسمع منه، وقبل قوله، حسد، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة، سعوا به إليه، وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى بيعتكم، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره: أنه لا يجوز عنده، قال: فغضب جعفر، فدعا بمالك، فاحتج عليه بما رفع إليه عنه، فأمر بتجريده، وضربه بالسياط، وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه، وارتكب منه أمر عظيم، فوالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو. وذكر إبراهيم بن حماد أنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمل يده بالأخرى. ويذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أنه بعد ضرب الإمام مالك أمر جعفر بن سليمان بأن يطاف به في المدينة، فيقول: لما ضرب مالك حُلق وحُمل على بعير، فقيل له: ناد على نفسك، فقال: ألا من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، أقول: طلاق المكره ليس بشيء، فبلغ ذلك جعفر بن سليمان الأمير فقال: أدركوه، أنزلوه. وتوفى الامام-رحمه الله- بالمدينة سنة 197 هـ، ودفن بالبقيع.