في العقود القليلة الماضية، كانت تجارة النحاس التقليدي الذي يصنِّعه حرفيو “حي النحَّاسين” بـ”القصبة” بالجزائر العاصمة، رائجة بل إن شهرته تعدَّت حدود الوطن بفضل إقبال السياح الأجانب عليه، ويعود سر هذه الشهرة إلى عراقته واتكائه على الإرث العثماني بالجزائر، حيث فتح الحِرفيون العثمانيون ورشاتٍ في “القصبة” التي كانت عاصمة لحكَّامهم بالجزائر في الفترة بين 1517 و1830م. وبعد أن احتلت فرنسا الجزائر ابتداءً من 5 يوليو 1830 وأخرجت العثمانيين منها، انبرى حرفيون جزائريون من أبناء المنطقة وواصلوا هذه الحرفة العريقة التي تعلموها على يد العثمانيين ثم أخذ أبناؤهم وأحفادُهم يتوارثونها أباً عن جد، فازدهرت في العهد الفرنسي، ثم زادت شهرتُها بعد الاستقلال في 5 يوليو 1962، وأصبحت كل البيوت الجزائرية حريصة على اقتناء الأواني النحاسية، كما فُتحت ورشاتٌ أخرى مُنافِسة بمناطق القليعة وقسنطينة وتلمسان فبلغت هذه الصناعة التقليدية أوج الازدهار والتطور. النحاس التقليدي وبمرور السنوات، بدأ الاهتمام الشعبي بالنحاس التقليدي العريق يقل ويتراجع لصالح الأواني العصرية المصنوعة من الألمنيوم والزجاج وحتى البلاستيك وكذا الأواني النحاسية الصينية والهندية بخسة الثمن. وبدأت ورشات صناعة النحاس بالقصبة وغيرها تتراجع وتذبل، إلى درجة أن معظمها الآن أغلق أبوابه أو غيَّر نشاطه، فلم يعد هناك سوى حرفيين لا يتعدون أصابع اليدين في القليعة وقسنطينة وتلمسان، أما “عاصمة النحاس” أي القصبة، فقد تراجع عدد “النحَّاسين” بها من 3 إلى 15 فقط، والبقية غيَّر نشاطه كلياً بالتحول إلى مهن أخرى، أو جزئياً بالاكتفاء ببيع الأواني والتحف النحاسية أو تلميع الأواني القديمة للراغبين في ذلك. جمع التحف في مدخل “حي النحَّاسين”، جلس صاحب المحل سحنون حاند “58 سنة” وحده بين تحفه النحاسية وسط سكون عميق، فقد كان حِرفياً، إلا أن تراجع الاهتمام الشعبي بهذه المنتجات التقليدية، جعله يتحوَّل من صناعتها إلى جمع التحف النحاسية القديمة منها وبيعها للمتحف الوطني للنحاس كالتحف العثمانية القديمة، أو للسياح إذا تعلق الأمر بقطع نحاسية حديثة الصنع وغير ممنوعة من البيع، يعرض حاند قناديل عثمانية نادرة منقوشة بالآيات والزخارف المختلفة، وتحفاً وتماثيل للأديب الإسباني سيرفنتاس صاحب رائعة “دونكيشوت” التي كتبها بالجزائر حينما أسره البحارة العثمانيون لمدة أربع سنوات. وأبدى حاند حسرة كبيرة على تراجع الاهتمام الشعبي بالصناعة النحاسية في الجزائر والعزوف عنها كلِّية بسبب ارتفاع أسعارها الناجم عن غلاء المادة الأولية، يقول حاند “هناك نحاسون كانوا يشغلون ما بين 20 و30 عاملاً في العقود الماضية من فرط كثرة الطلب، اُجبروا الآن على تسريحهم والبقاء وحدهم بسبب عزوف الناس عن شراء منتجاتهم، وحتى أبناء هؤلاء الحرفيين رفضوا تسلم المشعل من آبائهم وفضلوا تغيير هذه المهنة إلى مهن أو تجارة أخرى مُربحة ولو تعلق الأمر بتنصيب طاولة صغيرة لبيع السجائر”، مؤكداً أن هذه المهنة تسير في طريق الانقراض في السنوات القليلة المقبلة إذا لم تتدخل الدولة بشكل عاجل لدعم أسعار مادتها الأولية وبعثها من جديد. المهن المربحة ورشات أخرى في “حي النحاسين” خاوية على عروشها وتعيش صمتاً مُطبقاً، وهي التي كانت قبل عقدٍ فقط تعجُّ بالحيوية ولا تكاد تسمع فيها صوت صاحبك من كثرة الطَّرق على النحاس، فيما يصر رابح بن ميرة على مقاومة هذا الواقع المرير بعد أن قضى 44 سنة كاملة في المهنة، وكان وحيداً في محله وهو الذي كان يضم 30 شاباً حِرفياً، مبدياً حسرته الكبيرة لعزوف الأجيال الحالية عن صناعة النحاس وتفضيلهم المهن المربحة وهو ما يهددها بالاضمحلال، وحتى نظرة الناس إلى المنتجات النحاسية تغيرت؛ فبعد أن كانوا يُدخلونها في استعمالاتهم اليومية أصبحوا ينظرون إليها على أنها لا تصلح إلا كتُحف يزينون بها صالوناتهم ومكتباتهم المنزلية. ويتحسر بن ميرة على واقعها. ويؤكد أنها الصناعة التقليدية الأقل قيمة في الجزائر وهي لا تحظى بالدعم الرسمي كبقية الحِرف التقليدية، ويطالب الدولة بالتدخل لإنقاذها وإلا فإنها ستنقرض في حدود 10 سنوات على الأكثر.