د. فاطمة حمد المزروعي

إن «قصيدة اللغز» لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، من القصائد البديعة التي تزهر بالحكمة وتسبر أغوار الحياة، حيث تندرج القصيدة ضمن فكرة التجلي والخفاء، لأن حل اللغز مكتوب لفظاً صريحاً في القصيدة وواضح، ومن شدّة وضوحه لا يُرى، كأنه النور الساطع الذي يعشي العين، تراه وتعرفه لكنها لا تتمكن من التحديق فيه أو معرفة تفاصيله.
التجلي والخفاء يبدآن من عنوان القصيدة: هو لغز موضح وخفي، والعنوان مأخوذ من الشطر الأول في البيت قبل الأخير.
تبدأ القصيدة بالحسناء التي تحمل الكتاب وتسأل:

بادرتني وفي يديها الكتاب
عن سؤالٍ لا تعتريه جـواب
رغم وصف السؤال بأنه لا يعتريه جواب، إلا أنه في البيت الأخير صار ارتيابا:
هــــو لغــز موضـــــح وخفـــي
حاضر غائب وفيه ارتياب
وللوصول إلى حل لهذا اللغز فلابد من إعمال العقل، والتفكر في الإجابة:
جُعــــل العقـــلُ حجــةً ودليــــلا
وإلى العقلِ للعقول انتساب
إعمال العقل والتفكر في الإجابة لا يكون إلا من خلال فكّ الإشارات الموجودة في النص الشعري، التي نثرها الشاعر في نصه، لتتخلل الأبيات. وأما الشيء الواضح الذي لا ارتياب فيه فهو الكتاب، الذي تحمله الحسناء، وأما الأخوة فهم المداد والورق وما يتعلق بالكتابة، وهنا أسرد الأدلة:
في تلابيبه من العلم حشو
ومن الفهم والضياء إهاب
لأن الكتب هي مصدر العلوم والمعارف والآداب، حفظ فيها الإنسان تاريخ الحضارات كلها، وما فيها من إبداعات وإنجازات.
ورد وصف بديع للأوراق، وهي مادة الكتاب، بتشبيهها بالسراب في قول الشاعر:
وانكشافُ الأمورِ عن عبقريّ
في سرابٍ يقفو خطاه سراب
وهذا يحلينا على وصف قريب منه عند أبي تمام:
مدادٌ مثلَ خافيةِ الغراب
وقُرطاسٍ كرقراق السرابِ
هناك إشارة لابد من التقاطها تشير إلى حل اللغز وأخوته:
ومن الخيل إن فهمت فخبر
وله في حــــوادث الدهـــــر ناب
يمكن ربطه ببيت أبي الطيب المتنبي:
أعزُ مكانٍ في الدنى سرجُ سابح
وخـــيرُ جليسٍ في الأنـــامِ كــــتابُ
وبيت آخر للمتنبي يشمل ذكر الخيل والقرطاس والقلم:

الخيلُ والليلُ والبيداء تعرفني
والسيفُ والرمح والقرطاسُ والقلمُ
ومعلوم أن الكلمة سلاح في تأثيرها مثلها مثل السيف والرمح.
ومن معاني الكتاب عند العرب الرسالة، وهو وصف مازال مستخدماً لليوم بين المؤسسات وفي اللهجة العامية أيضاً، نجد هذا المعنى في إشارة بيت من اللغز لحادثة مشهورة:
فاتحاً للحياة والخير باباً
وعلى الموت منه يُفتح باب
وهذا يذكرنا بالصحيفة التي أعطيت للمتلمس وطرفة بن العبد، المتلمس فكّ ختم الرسالة فعرف بأمر قتله ففرّ هارباً إلى الشام، لكن طرفة أصر على الذهاب للحصول على الجائزة التي لم تكن إلا أمراً بقتله.
وصفت الكتابة عند العرب بأنها «من أعظم الأمور، وقوام الخلافة وعماد المملكة» العقد الفريد لابن عبد ربه 4-191
وهذا الوصف نجده في «قصيدة اللغز»:
وعمـــــــود لـــه وثـم عمـــاد
واعتماد وصحبة أغراب
فمن شأن محبة قراءة الكتب تعريف المرء على أناس أغراب عليه مكاناً وزماناً وحضارة، لكنهم يصبحون أصدقاء له، يجمعهم حب العلم والمعرفة.
مما سبق يتضح أن حل اللغز هو الكتاب، وأخوته هم القلم والورق وكل ما يستعان به للكتابة، واللغز موصوف في القصيدة بالوضوح لذكر كلمة الكتاب في أول القصيدة، فهو مصدر العلم والمعرفة، ونتاج عقل الإنسان ورصد لمشاعره وخبرته في الحياة، التي أرشدته إلى انتهاج طريق الخير والعطاء، لنفع البشر في كل مكان وزمان، مما جعله يميز بين الناس فهم كالمعادن منهم الخير النافع كالذهب، ومنهم من هو عبء على نفسه وأهله فهو كالتراب، بعضهم يحاول أن يتطبع بالخير والذكاء، لكن نفسه تنطوي على شرّ وغباء وغيرة، لهذا يفشل مثل محاولة الغراب أن يحاكي مشاة القطاة، بالتطبع بما ليس في طبعه.