تبرز رياضة ''القنص'' صيد الصقور، ضمن أهم الرياضات أو الهوايات التراثية القيّمة، المتوارثة عن الأجداد في المنطقة· بحيث يشكّل إحياء هذه الرياضة والحفاظ عليها، تقليداً حرص عليه أبناء الدولة، إلى درجة بلغوا فيها مصاف الوصول إلى ''خلاصة تجربة'' في ميدان القنص، وإن كانوا في منتصف أعمارهم وعزّ شبابهم وأوج عطائهم· كما الحال مع الشاعر الصقّار سعيد بن سيف القمزي، صاحب التجربة الشعرية الكبيرة، الذي أبدع عشرات القصائد في مجالات التراث ووصف الصقور· وأنجز مطلع هذه الألفية، أكبر علم للدولة، قدمه للوالد زايد ''رحمه الله''· وكانت ولا تزال قصيدته ''رف يا علم في عالي السارية'' إحدى أجمل القصائد والأغاني الوطنية مطلقاً، التي يتردد صداها في الاحتفالات الوطنية· فضلاً عن نيله جائزة الدولة التقديرية، فئة: البر بالوالدين · القمزي مع رفاقه يحملون طيوراً مختلفة الأنواع إلى ذلك كله، فإن اهتمام القمزي بالرياضات التراثية، بخاصة وصيد الصقور، منبعه حرصه الشديد على إحياء هذه الرياضة التراثية، والحفاظ عليها كتقليد متوارث من الأجداد، ينقله للأحفاد· هواية رحيمة ويملك القمزي حالياً ثلاثة من الصقور، ويضع صورة صقره ''نهار'' خلفية لشاشة هاتفه· بينما امتلك خلال ربع قرن من تجربته مع الصقور، العشرات منها· ولعل بوصولنا إلى ختام اللقاء معه، سيدرك القارئ أية خلاصة رائعة تكونت لدى القمزي من خلال كونه صقاراً ممارساً لهواية الصيد· فأكثر ما أذهلني واستحسنت معرفته، قول القمزي: ''هواية صيد الصقور ليست كما يخيّل للجاهلين بها أنها تتصف بالقسوة، بل على العكس من ذلك، صيد الحبارى عبر الصقور أرحم من الصيد الذي يمارسه كثير من الناس في العالم، وهو قتلها بالرصاص! وهو محرّم دولياً· بينما صيد الحبارى بالصقور يترك لها فرصة الدفاع عن نفسها وإعاقة الصقر بوسائلها المختلفة، ومن بينها قذفه بسلاحها القوي اللزج ''الطمل'' والنجاة هرباً منه''· مطلع التجربة ومارس القمزي القنص منذ مطلع الثمانينيات، واهتم به قبل ذلك، حيث كان يذهب مع أهله وصحبه في رحلات قنص، يقول عنها: ''أحببت تلك الرياضة وشدتني كثيراً، وصرت أسأل عن تفاصيلها وكيفية ممارستها وتدريب الصقور، إلى أن صار لدي إلمام بها، ثم ''شليت طير'' أي اقتنيت صقر كان ثمنه حوالى 5 آلاف درهم، وهو مبلغ كبير آنذاك، وتعلمت كيف أدربه من خلال ملاحظتي آليات وتقنيات كبار الصقارين خلال تدريبهم صقورهم، وكنت أسأل وأستفسر قبل أن أخطو أي خطوة مع الصقر، وفي مطلع خوضي هذه التجربة كنت على حذر وحرص أثناء تعاملي مع الصقر، إلى أن ألممت بالأساليب التي تمكنني من التعامل معه''· ولعل البعض يعتقد أنه بعد تدريب أولي للصقر، يصير التعامل معه أسهل· لكن هذا ما يفنده القمزي، ويوضحه فيقول: ''تعتبر مرحلة ما بعد التدريب أصعب للصقار، بمعنى أنها تحتاج إلى مهارة أكبر، وأن يعرف الصقار متى يكون الصقر جاهزاً للصيد أو متعباً، وأن يعرف صقره من عينيه ومن وجهه وحركاته والتفاتاته، ومن طيرانه، وهل هو مستعد للطيران أم لا، كما يفترض به معرفة وزن الطير والمحافظة على وزنه، لأنه أمر يتصل بتقنيات الصيد وتحليق الصقر''· أنواع ''المقيض'' تبدأ مواسم القنص في الخريف وتستمر حتى الشتاء أي من الشهر العاشر ولغاية الشهر الثالث· ويسبق مواسم القنص، موسم يدخل فيه الصقر مرحلة ''المقيض'' يحدثنا عنها القمزي بإسهاب، ويقول: ''مع بداية الربيع يبدأ ''المقيض'' وهو على نوعين، الأول تقليدي، تخصص فيه للصقور غرفة، ويربط كل منها إلى ''وكره'' ونطعمه لحوم منوعة، لكن الوجبة الأهم له هي طيور ''الفري''· ومن الممكن أن تكون محفوظة في الثلاجة، لكن تُخرج منها قبل ساعات كي يعود الفري إلى درجة الحرارة الطبيعية· ويظل على هذه الحالة حتى الشهر العاشر كي يجهز الصقر للنقل ''الشل''· وفي هذه الفترة يحرم الصقر من الطيران حين يكون داخل غرفته، فيتساقط ريشه، ثم يعاود نمو ريش جديد له''· ويلفت القمزي إلى نوع آخر من ''المقيض'' يسمى ''الفك''، يوضحه بقوله: ''ثمة طريقة حديثة، يكون فيها الصقر طليقاً داخل غرفة كبيرة وعالية وواسعة جداً ''مزرعة مسوّرة'' تمكنه من التحرك والطيران فتصير لياقته أعلى وأفضل· ويتم إطعام الصقور وتفقدها دائماً قبل إطلاقها، كي لا تجرح بعضها، ويحبذ أن تكون من ذات النوعية والفئة، كي تتآلف أكثر''· وعما إذا كان الطير ينسى صاحبه خلال تلك الفترة، يقول القمزي: ''لا ينسى الصقر صاحبه خلال ''المقيض'' بخاصة إذا كان مقيضه عند صقاره، لأنه بهذا يراه يومياً تقريباً، أما إذا عهد به صاحبه إلى صقار مدرب، فمن المحتمل أن ينساه· فيما بعد انتهاء فترة المقيض يسمى الصقر اذا كان فرخ ''القرناس''· التدريب وأحواله ويتهيأ الصقر بعد ''المقيض'' لبدء تدريبات الصيد، حيث يقوم الصقار بتدريب صقره نحو شهر، لإعادة جو الألفة وتلبية ندائه، يقول القمزي: ''بعد أن يخرج الصقر من ''مقيضه'' يحتاج أن يدربه الصقار من جديد، ويطعمه بداية على يديه كي تتجدد العلاقة بينهما ويشعر بالألفة والود تجاه صاحبه· وفي المرحلة التالية لبناء العلاقة بينهما، يربط الصقار صقره بخيط طويل حين يطمئن أن الصقر جاهز لتدريبات الصيد، وأنه دخل جو التمارين، وهنا ''يدعاه'' أي يقوم بدعوته لبدء التدريب الفعلي، ويطمئن إلى أن صقره يستجيب لندائه· فيدخل الصقر مرحلة اكتساب اللياقة، بحيث تقوى العضلات وتدفعه للتحليق، ويصبح لديه نفس قوي يمكنه من تدريب وقطع مسافات طويلة، وبذا يكون على أتم الجاهزية للصيد، بحيث تتجلى قدراته خاصة أنه يكون خرج من سجنه وسعيداً بحريته''· رحلة المقناص ويقطع الصقر وصاحبه وصقاره كل تلك الشهور في ''المقيض'' وتدريباته، وصولاً إلى ''المقناص'' رحلة الصيد، التي يصفها القمزي بإسهاب، مستمتعاً بذكريات القنص، ويقول: ''يبدأ المقناص في الصباح الباكر، حيث تنطلق الرحلة عبر عدة سيارات الدفع الرباعي، لتتمكن من قطع الصحارى أو المناطق الوعرة، سواء في مناطق الدولة أو خارجها· تضم كل سيارة شخصين أو ثلاثة، تنطلق كل منها في جهة، ويبدأ الصقارة بداية بالبحث والتنقيب عن آثار الحبارى، وهنا تتجلى خبرة الصقار، إذ يجب أن يكون قادراً على تقصي أثرها، وقادراً على تتبعه ومعرفة زمن عبورها في المنطقة، هل هو قديم في الليل مثلاً أم حديث قبل دقائق! ويتم معرفة ذلك للصقار من خلال بحثه عن آثار لحيوانات أخرى كالفئران والأرانب، التي تظهر ليلاً فقط، فإن كانت آثار الحبارى غير مصحوبة بآثار لجري الأرانب أو الفئران، فهذا يعني أن مرورها كان قبيل وقت قصير، وأنها في الجوار· فيتبعها بهدوء وحذر سواء كان بسيارته أو مترجلاً، وحين يراها على الأرض أو في الأعالي، يطلق صقره نحوها ليقنصها''· ويسترسل القمزي، فيقول: ''يتابع الصقار صقره من خلال جهاز الكشف ليعرف مكانه، وحين يتم للصقر صيده ويتمكن من الحبارى، يسرع إليه صاحبه، ويعطيه جزءاً منها مكافأة على اصطياده لها، ويراعى أن يظل الصقر جائعاً بدون شبع، كي يتمكن من الصيد مجدداً، فضلاً عن أن الصقار يصطحب الصقر إلى الصيد بعد تجويعه كي يتمكن من صيد طريدته· وتتكرر عملية البحث عن الحبارى، وبالتالي تستمر عملية صيد الصقر للطرائد· وفي كل مرة تتم مكافأته بقطعة من الحبارى· وبعد جمع حصيلة الصيد، يتم تحضير الغذاء عبر تنظيف الحبارى وشويها أو طبخها· ثم العودة عند الغروب أو بعد جلسة سمر· ويتكرر البرنامج ذاته على مدار أيام القنص''· ملوك الجو وعلى صعيد آخر يتصل بهذه الهواية التراثية، فإن شاعرنا سعيد بن سيف القمزي صاحب التجربة الشعرية الهامة، وأحد أبرز شعراء الدولة التي مثلها محلياً وخارجياً في أمسيات شعرية، واستضافته كافة وسائل الإعلام المحلية المقروءة والمسموعة والمرئية للوقوف على تجربته الثرية· ولديه ديوان شعري مطبوع وقصائد عبر شبكة الإنترنت، تطرق خلال مسيرته الشعرية فضلاً عن القصائد الوطنية الباسقة، إلى كافة أغراض الشعر: الحكمة، الغزل، الوصف· ويقول القمزي في بعض أبياته من قصيدة يصف بها ملوك الجو ورحلات القنص: وان طارت الربادا بعيدٍ تحايد دقيت باب وصار عندي مشاهيد يرقى بها في عاليات لبايد ويمرش من الريش لمسوي تلابيد ويتباشرون الربع والطير صايد حول بها وتحنا له الشمغ تمجيد عصارة خبرة ويواصل القمزي، منذ أكثر من ربع قرن خدمة بلاده من موقعه كمواطن مسؤول مخلص لبلده، يؤكد على أن خلاصة تجربته في كل مجالات الحياة، بخاصة الرياضات التراثية، والإبداع الشعري، مسخّرة لخدمة الوطن· ويقول: ''تنبع ممارستي لهذه الهواية من منقبة إحياء هذه الرياضة التراثية، والحفاظ عليها كتقليد متوارث من الأجداد· كما تعلم ممارستها الصبر والاعتماد على النفس، ومواجهة المشاكل التي تصادف الصقار خلال الرحلة، كتعطل السيارة أو ثقب الإطار أو فقدان الصقر، وتعزز روح العمل الجماعي كفريق واحد، وتقوي روابط الألفة والمودة بين المجموعة، وتخلق ذكريات جميلة تسكن الوجدان وتطلق الأشعار، وتعتبر مداداً لأحاديث في الصيف حين لا يكون هناك قنص· وتزرع روح الفكاهة وتجديد العلاقات الإنسانية بين شركاء الرحلة· فضلا عن بناء علاقة قوية مع كائن حي هو الصقر''· ويتقدم القمزي في ختام الحوار معه بعميق شكره إلى صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة ''حفظه الله''، لتوجيهات سموه الحكيمة التي تتجلى في إنشاء مزرعة للصقور بمدينة العين، وإطلاق العديد من السباقات والمسابقات المتصلة بالهجن والخيول والصقور والقوارب· ويثمن جهود ولي عهده الأمين الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لدعمه الرياضات التراثية، وإقامة مزرعة لانتاج الحبارى في الدولة وأخرى خارجها، للمحافظة عليها من الانقراض