رحلة «سفاري» في ضيافة «الملك» وقبيلة الماساي
لم تكن تلك المرة الأولى التي أزور فيها كينيا، ولكنها الأولى التي أقوم فيها بهذه الرحلة المغامرة إلى الأدغال، حيث تقودك للقاء بلا موعد مع ملك الغابة الذي اقتحمنا خلوته، وكان متسامحاً مع فضولنا الذي قابله دونما أدنى اكتراث، فلم نر أنيابه حتى نعتقد أنه كان يبتسم لنا، واكتملت المغامرة بزيارة أكواخ مجموعة من أفراد قبيلة الماساي، والتعرف على نمط معيشتهم.
المغامرة تبدأ من مطار صغير مخصص للطائرات الصغيرة يقع جنوب العاصمة الكينية نيروبي، غير بعيد عن نصب “أوهورو”، الذي يخلد المكان الذي أعلن منه استقلال البلاد عن بريطانيا في الثاني عشر من ديسمبر 1963، بعد سيطرة امتدت لنحو سبعين عاما. ويعود استخدام هذا المطار الصغير لعام 1933 عندما بدأ يستخدمه سلاح الجو الملكي البريطاني كقاعدة انطلاق نحو بقية المستعمرات البريطانية في شرق أفريقيا. وبعد الاستقلال أعيدت تسميته ليحمل اسم “فلورنس كير ويلسون” أحد رواد الطيران في البلاد. ويبعد هذا المطار قرابة 18 كيلومترا إلى الغرب من المطار الدولي للعاصمة نيروبي، والذي يحمل اسم الزعيم الكيني الراحل جومو كينياتا، الذي قاد النضال لأجل الاستقلال وأصبح أول رئيس للبلاد، وتعد “الاتحاد للطيران” أحدث شركات الطيران الدولية التي تربط نيروبي بأبوظبي برحلة يومية مباشرة، تحط وتقلع من هذا المطار.
جولة قبل الغروب
أقلعت بنا الطائرة الصغيرة من طراز “سيسنا كرافان 208” أميركية الصنع، والتي لا تتسع لأكثر من اثني عشر راكبا من مطار ويلسون لتتأرجح بنا في الجو مدة خمسين دقيقة قبل أن تهبط في مهبط ممهد في قلب غابات محمية ماساي مارا في جنوب غرب البلاد على الحدود الشرقية لتنزانيا. وهذه المحمية الواقعة في الوادي المتصدع العظيم تمتد على مساحة 25 ألف كيلومتر مربع، منها، ألف وخمسمائة كيلومتر مربع في الأراضي الكينية والبقية تتبع تنزانيا.
عندما هبطنا في ذلك المدرج الممهد وسط غابات السافانا، والذي يقع على ارتفاع أكثر من ألفي متر فوق سطح البحر، وجدنا في الانتظار سيارات دفع رباعي من طراز كلاسيكي ذكرتني بعربات شرطة أبوظبي قديماً.
وقبل أن نتجه إلى مخيم إقامتنا، اقترح السائق موسى كوجي أن نقوم بجولة قبل غروب الشمس في السهول الممتدة على مدى البصر، وأكثر ما استوقفني في السائق الذي هو في الوقت ذاته من حراس الغابات المؤهلين، حدة بصره وهو يشير إلى أماكن وجود الكواسر من بعيد في غابات السافانا. بعد لحظات كنا أمام أسد يداعب لبوته. وبسرعة أطفأ كوجي محرك السيارة، طالباً منا الهدوء، وعدم إزعاج “الملك” في خلوته، بينما كانت ضربات القلب تتسارع، والخوف يتلبسنا خشية حدوث ما يعكر مزاج هذا الكائن المفترس، فيهاجمنا.
كان السائق يتحدث بصوت الواثق المتمكن، بأننا لسنا في دائرة تركيز الأسد وغيره من الكواسر، طالما التزمنا الهدوء، ولم نقم بأي حركة قد تثير الانتباه. وبهدوء أيضا شغل محرك السيارة وانطلق بنا نحو بقعة خضراء، وسط حشائش السافانا، لنكتشف أن البقعة مستنقع ماء عميق يعج بأفراس النهر التي لا يكاد المرء يتبين وجودها لتداخل ألوان بشرتها بالبيئة المحيطة بها.
قال كوجي “ننصح الضيوف بالحذر وألا نقترب بهم كثيراً من مثل هذه المستنقعات، لأن الأبقار الوحشية وأفراس النهر وكذلك التماسيح عدوانية الطباع وشرسة تباغت كل من يقترب منها”. كنا نتابع ما يقول بانتباه بالغ، فأي خطأ هنا قد يكلف المرء حياته.
مخيم بين الأحراش
تحركت بنا السيارة لنجد أنفسنا بعد دقائق في مخيم بين الأحراش بلا أسوار أو حواجز تفصله عن بقية الغابات المحيطة به، حيث سيكون محل إقامتنا، وقد قسمت خيامه على شكل غرف وأجنحة مع مرافقها. يطل بعضها على السهول الممتدة، حيث بالإمكان مشاهدة قطعان الفيلة والحمار الوحشي بينما بقية الخيام تطل على ضفة نهر مارا.
وما هي إلا لحظات حتى انهمرت الأمطار غزيرة قبل أن تتوقف بالسرعة التي بدأت بها، ونستعيد توازننا ونحن نستمع لإرشادات مديرة المخيم كاتي ماكليلان، وهي بريطانية الأصل كينية المولد، كما زوجها الذي أبواه أيضا كينيا المولد. وعلى الرغم من تقدمها في السن، إلا أنها كانت شعلة من النشاط والمتابعة لأدق تفاصيل المخيم الذي تديره تسعة أشهر من كل عام. والتي تمثل مواسم إقبال عشاق الطبيعة ورحلات السفاري، وبالذات خلال مواسم هجرات وتكاثر الحيوانات والطيور والتي تلقى إقبالا كبيرا من هواة الطبيعة والرحلات وبالذات خلال الفترة من يوليو وحتى أكتوبر. وتشهد هجرة آلاف القطعان التي يقدر عددها بمليوني رأس لحيوانات الحمار الوحشي والغزال والضواري من سرنجيتي في تنزانيا باتجاه الجانب الكيني من المحمية.
قالت ماكليلان “عليكم عدم مغادرة الخيام والتنقل من خيمة لأخرى أو الحضور أو التوجه للمطعم أو كوخ الاستقبال، إلا برفقة حارس الغابة الذي يمكنكم استدعاؤه بإصدار إشارات ضوئية من المصباح اليدوي المتوافر في كل خيمة”.
كان الظلام قد حل، وبالتالي لم تتح لي فرصة استكشاف الغرفة (الخيمة) التي سنمضي فيها ليلتنا، ولا ندري كيف ستمضي؟ بعد استراحة بسيطة أومضت مصباحي اليدوي ليحضر حارس الغابة، وبحسب التعليمات لمرافقتي نحو المطعم لتناول العشاء الذي شهد عرضاً فلكلوريا من تراث قبائل الماساي التي تستوطن تلك المنطقة، والماساي تعني الشخص المرقط، وقد أطلق عليهم ذلك الاسم، بسبب غرابة أطوارهم ومعتقداتهم، حيث تجد الرجل يتعمد كسر سنه الأمامية لإثبات رجولته. وكذلك وضع أقراط ثقيلة لتكبير حلمة أذنيه. ومقياس ثراء المرء بعدد الأبقار التي يملكها والزوجات اللاتي يقترن بهن.
بعد العودة للخيمة (الغرفة) برفقة حارس الغابة الذي يحمل بندقية عتيقة الطراز، صعب النوم بسبب أصوات الأفيال والأسود التي كانت تتجول بين الممرات حتى وقت متأخر من الليل، ولفرط الإرهاق استسلمنا لنوم متقطع بفعل تلك الأصوات المرعبة للكثيرين الذين خاضوا التجربة للمرة الأولى.
سر الثقة
استيقظنا وبحسب طلب حارس الغابة عند الساعة الخامسة والنصف صباحاً، حتى نشاهد شروق الشمس وبدء خروج الحيوانات إلى مراعيها. كان الجو بارداً والسيارة تتوغل بنا في تلك البراري، والصمت يتلبسنا، فلم نتعود الخروج في مثل هذا الوقت المبكر مع خروج الطيور من أعشاشها والكواسر من مكامنها، ولكنه الفضول والرغبة في الاقتراب من ملك الغابة وحاشيته قبل أن يبتعد في ترحاله اليومي.
كان الوقت لصالحنا وحارس الغابة يتنقل بينا من موقع لموقع نرصد تحركات الأسود والفهود والضباع، قبل أن ننتقل لموقع يعج بقطعان الحمار الوحشي والغزلان التي كانت ترعى بكل اطمئنان، وغير بعيد من ذلك المكان رصدنا قطعانا من الأفيال التي كانت في طريقها لمجرى نهر قريب، وفي مستنقع بين حقول السافانا كان فرس نهر ضخم يلهو وحيداً.
سألت حارس الغابة كوجي الذي كان سائقنا ودليلنا في تلك البراري عن سر هذه الثقة الكبيرة في التنقل بنا باطمئنان بهذه السيارة المكشوفة بين الضواري والكواسر، وهي التي قد تستفز في أية لحظة ويبدر منها سلوك عدواني قد يودي بحياة الزائر، خاصة أن حراس المحمية غير مسلحين أثناء جولاتهم السياحية! قال الرجل إن حراس الغابة أشخاص مدربون صقلتهم الخبرة والتجربة ويستطيع الفرد منهم معرفة مزاج الحيوان الذي أمامه سواء أكان أسداً أو سواه، وبالتالي تحسب أية خطوة منه. المهم ألا ينزل السائح من السيارة المكشوفة أو يقوم بأي عمل يستفز الحيوان. لم تقنعنا إجابته أو تبدد قلقنا.
عندما قفلنا عائدين للمخيم وعلى مائدة الإفطار، حدثتنا مديرته ماكليلان عن جانب آخر من سلوك الحيوانات، فقالت إن هذه الكائنات توجد في محمية يمنع فيها الصيد، وبالتالي تشعر بالاطمئنان لعدم مهاجمة الإنسان لها لذلك لا تبادر بالاعتداء أو القيام بسلوك عدواني. وأضافت “من جراء ذلك الشعور بالاطمئنان لم يشهد هذا المعسكر أو المحمية أي حادثة من تلك الحوادث التي تتوقعون”. في داخلي لم أقتنع كثيراً بما تقول، وحامت شكوكي حول اختيار المواعيد للخروج في رحلات السفاري، حيث يختارون وقتاً إما أن تكون فيه تلك الحيوانات قد شبعت أو تكون قد بلغت من النصب والتعب مبلغاً لا تستطيع معه حراكاً لمهاجمة المتطفلين على أجمتها أمثالنا.
القبيلة «المرقطة»
خلال جولتنا في منطقة محمية أخرى توقفنا عند أكواخ لمجموعة من أفراد قبيلة الماساي، كبرى قبائل المنطقة التي سميت بهم، وكذلك النهر الذي يمر بها. في تلك الأكواخ الصغيرة التي لا يحميها من هجمات الضواري إلا حاجز يحيط بها من أفرع وأغصان الأشجار، تلحظ كم يهتم الفرد من هذه القبيلة بثروته من الأغنام والأبقار بقدر ربما كان أكثر من عنايته بأطفاله. الكوخ، المصنوع من ورق وخشب الأشجار وروث الأبقار، ضيق ومدخله صغير لا يتناسب مع الطول الفارع الذي يميز أفراد هذه القبيلة الأفريقية الشهيرة. ولا يحوي سوى فرش من جلود الأبقار. ومقسم بين غرفة النوم وزريبة الدواب. وتلاحظ بين أفراد القبيلة من يضع شيئا كالخوذة على رأسه لتعرف أنها علامة منازلة خاضها وتمكنه من قتل أسد هاجم مكان إقامة أهله. وآخرون تجد عليهم آثار ندوب وجراح من جراء المواجهات شبه اليومية مع الكواسر والضواري.
وتقول ماكليلان إن العديد من الهيئات العاملة في مجال السياحة الصديقة للبيئة تشجع السياح على دعم الجهود التي تقوم بها لتحسين الظروف المعيشية لقبائل الماساي، من خلال تشجيع الأسر المنتجة منهم والتي تحترف بيع المشغولات التقليدية والحرف اليدوية. وتشجيع جهود استقرار الرعاة من خلال إنشاء التجمعات السكنية وتوفير احتياجاتها من مرافق صحية وتعليمية وغيرها.
رحلة العودة
عدنا إلى المهبط الجوي الذي يبعد نحو كيلومترين، حيث انتظرنا الطائرة التي فوجئنا بأن من يقودها هذه المرة في رحلة العودة طيارة كينية، كانت أكثر حزما معنا من زميلها الطيار الذي جاء بنا في رحلة القدوم للمحمية. وكانت أكثر ثقة بنفسها وهي تبلغنا تعليمات السلامة. وتنطلق بنا والطائرة تتأرجح بشدة عند ارتفاعها بين السحب، وما هي إلا خمسون دقيقة وتهبط بنا وسط الأمطار الغزيرة وأيدينا على قلوبنا لنتنفس الصعداء في مطار ويلسون، الذي انطلقنا منه لبدء هذه المغامرة.
انتظرنا في الطائرة لبعض الوقت ريثما تتوقف زخات المطر الغزيرة ولكن دون جدوى، اعتقدنا أن الأمطار ستجرفنا مع الطائرة لو بقينا دقائق أخرى فتقافزنا منها باتجاه المبنى الصغير الذي لم يكن يبعد عنا سوى أمتار معدودة. لحظات وكنا في غرفنا الوثيرة لمكان إقامتنا في العاصمة نيروبي التي تعد إحدى أهم العواصم الأفريقية، بما تضم من فروع لشركات ومصارف عالمية ومنظمات دولية وإقليمية.
تعود للغرفة وللحضارة العصرية بعد أن كنت قد انقطعت عن العالم وأخباره في مكان ليس فيه من أدوات العصر الحديث سوى المصباح اليدوي.
والحديث عن السياحة في كينيا لا يكتمل إلا بالحديث عن جوهرة السياحة هناك مدينة ممباسا، أكبر موانئ شرق أفريقيا وقبلة عشاق البحر، حيث تلمس آثار الوجود العربي الخليجي القديم هناك.
المصدر: نيروبي