الفاهم محمد
عن عمر ناهز 88 سنة غادرنا الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير، مخلفا وراءه حياة مليئة بالعطاء والبحث الفلسفي، في قضايا شائكة تقض مضجع الإنسان المعاصر مثل قضايا البيئة، والتكنولوجيات الجديدة، والتحولات الاجتماعية التي تقودنا إليها الثورة المعلوماتية وغيرها.
ولد ميشيل سير سنة 1931 بمنطقة آجن جنوب فرنسا، كانت اهتماماته في بداية الأمر موجهة نحو العلوم، إلا أن حدث تفجير القنبلة النووية خلال الحرب العالمية الثانية في ناكازاكي وهيروشيما سيدفعه إلى طرح الأسئلة الفلسفية المرتبطة بطبيعة المشاكل الأخلاقية والاجتماعية التي يطرحها التقدم العلمي. أصبح فيما بعد مدرساً لتاريخ العلوم بالسوربون وكذلك بجامعة جون هوبكينز وستانفورد بأمريكا. حياته الحافلة بالعطاء المعرفي أهلته سنة 1990 إلى أن يصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وإلى أن يجلس على الكرسي الثامن عشر الذي جلست عليه من قبله شخصيات تاريخية كبيرة مثل المارشال فوش وفيليب بيثان. ألف ميشيل سير كتباً عديدة لعل أشهرها أطروحة الدكتوراه التي ناقشها سنة 1968 تحت عنوان: «نسق ليبنتز ونماذجه الرياضية»، وكتاب «العقد الطبيعي» سنة 1990، ثم سلسلة كتب تحت عنوان «هيرميس» ابتدأها سنة 1977 و«محاورات: العلم والإنسان المعاصر» سنة 2002. وكتاب «الأصبع الصغيرة» سنة 2012. تركزت جل أعماله حول فكرة أساسية، وهي فهم تأثير التكنولوجيات الجديدة على الحياة المعاصرة، وعلى ضرورة العثور على أسس أخلاقية تؤطر مجمل هذه التحولات التي تسير باتجاهها الإنسانية. كما عرف بانتقاده للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتبره إعلاناً ناقصاً مادام أنه يضع الإنسان في المركز وليس الطبيعة، من هنا فكرة ضرورة إنشاء تعاقد جديد تتأسس عليه علاقتنا بالبيئة. ظل ميشيل سير في كل هذه الأعمال والأطروحات الفلسفية متشبثاً بالتفاؤل، ذلك أن التفاؤل في نظره هو ما يدفعنا إلى العمل وإلى البحث عن حلول للمشاكل التي تحيط بنا. فما هي المعالم الأساسية لفلسفته وما هي الأسئلة الكبرى التي تطرحها؟
تداخل المعارف
إن واحدة من أهم المشاكل التي عالجها ميشيل سير، هي هذه النظرة الاستعلائية التي سقطت فيها المعرفة العلمية، باعتبارها معرفة تجريبية خالصة لا علاقة لها بباقي أنواع الخطابات المعرفية الأخرى. في نظره لا يمكن الفصل بين العلم والإنتاجات المعرفية الأخرى، كما يفعل غاستون باشلار مثلا الذي يتحدث عن القطيعة التي يحدثها العلم عندما يتأسس كمعرفة خالصة لا علاقة له بالمعرفة العامية، أو بما كان يعرفه العلم في ماضيه. ضد هذا الموقف يؤكد ميشيل سير أنه من الضروري استحضار فكرة الاتصال وليس الانفصال بين المعارف الإنسانية. من هنا دلالة النص الذي نشره سنة 1977 تحت عنوان «ولادة الفيزياء في نص لوكريتيوس»، حيث سيظهر هذا النص ليس فقط كعمل شعري بل أيضاً كمحاولة علمية في فهم مجموعة من الظواهر الطبيعية والسماوية، بعيدا عن التدخل الميتافيزيقي للآلهة الرومانية. وهكذا يحاول ميشيل سير العثور على الروابط والجسور التي تجمع بين المعارف الإنسانية ضمن بوثقة واحدة. هناك دائماً انزياحات وتداخلات ووشائج، خفية أحيانا ومعلنة أحيانا أخرى، بين الحقل الأدبي والحقل العلمي. إن هذا هو ما جعل كتابات ميشيل سير مكثفة دلالياً، يتقاطع فيها الشعر والعلم والفلسفة وغيرها من التخصصات. كما جعلت أفكاره تشكل إزعاجاً حقيقياً للمواقف الوضعية، وللفلسفة التحليلية التي تتشتت برؤية خالصة للعلم التجريبي.
في جل أعماله ظل ميشيل سير متشبثاً بأهمية هذا الفكر المتحرك، الذي يهتم بالتشعبات والتدفقات والتداخلات، بين الأنساق والخطابات معرفا نفسه كمفكر جوال يسافر بحرية بين كل المواضيع. مركزاً على ما هو غير مستقر داخل كل معرفة، وعلى التضمينات والإيحاءات. إن عمله هذا شبيه بفكر مواطنيه جيل دولوز وإدغار موران، فالأول كان يتحدث بدوره عن فلسفة الترحال التي تجعلك دائماً تعبر الحدود، باحثاً عن تجاوز الانغلاق داخل الأنساق والاستقرار في الجاهز والمعطى. أما إدغار موران فقد انشغل بدوره بما يسميه الفكر المركب، الذي يبحث عن الوصل وليس الفصل بين النظم المعرفية. ميشيل سير بدوره رجل يمر بين الخطابات مخترعاً للجسور والمعابر، راسماً خطوطاً طبوغرافية للملتقيات والتضاريس المعرفية.
مثل هذه الفلسفة وبدل أن تركن إلى الاقتناع بالبديهي والمعطى، تحاول عوض ذلك أن تثير الاضطراب والفوضى وتشتت العناصر. ولكنها مع ذلك ليست فوضى هدامة من دون معنى، بل هي كما يقال في مجال علم الفلك فوضى خلاقة، لأنها تدفعنا إلى القيام بإنشاءات جديدة تتعايش ضمنها نظريات وأطروحات، ظل ينظر إليها دوما كمعارف مناقضة لبعضها البعض. لا تتوقف أهمية هذه العملية التي يقوم بها ميشيل سير، فقط في كونها مسألة منهجية تروم تحرير المعرفة والفكر الإنسانيين من السلطة الاستعمارية التي مارسها العلم، كما لو أنه النموذج الوحيد والأوحد للحقيقة. بل هي أيضاً مسألة أخلاقية وسياسية، فأن نؤسس لمعرفة متشعبة ومفتوحة، هذا معناه أننا نتجاوز الفكر الشمولي الذي ينبني على حقيقة واحدة يحاول أن يحاكم من خلالها العالم. معناه أيضاً أننا نزيح العلم من مركزيته المعرفية، كي نعيد ربطه بالأخلاق والجمال والقانون، نحوله إلى معرفة منتجة للحياة وليس الموت. ذلك أن القضية الأساسية في فكر ميشيل سير، هي أن نعمل جاهدين حتى تكون هيروشيما وراءنا وليس أمامنا.
الإنسانية والثورة الرقمية
في نظر فيلسوفنا تعيش الإنسانية اليوم بفضل الثورة المعلوماتية تحولاً مفصلياً غير مسبوق يقول: «دون أن نلاحظ ذلك، هناك عالم جديد ولد، خلال فترة زمنية وجيزة تلك التي تفصلنا عن زمن السبعينات. هو أو هي ليس لهما نفس الجسد، نفس متوسط العمر المتوقع، لا يتواصلان أبدا بنفس الطريقة، لا يدركان نفس العالم، لا يعيشان في نفس الطبيعة، ولا يسكنان نفس المكان» فما نعيشه اليوم لا يمكن مقارنته إلا بما حدث في بلاد الرافدين مع اكتشاف الكتابة. هذه الثورة يؤكد الكاتب أنها ستجبرنا على ضرورة إعادة بناء كل شيء من جديد، مثل المؤسسات والمعارف وطريقة العيش المشترك. إن الميزة الأساسية لعصرنا تكمن في الهيمنة المطلقة للتكنولوجيا على مجمل الحياة البشرية يقول: «العلم هو ما يدرسه الأب لابنه، التكنولوجيا هي ما يدرسه الابن لوالده».
لقد نتج عن هذا التحول أشياء عديدة، منها أن الأجيال المعاصرة فقدت تماماً علاقتها المباشرة بالطبيعة وبالواقع المباشر، كما ضاعت كل تلك الثقافة العظيمة التي بناها الإنسان لآلاف السنين عن الزراعة والفلاحة والأرض. واليوم يؤكد الكاتب دائماً نحن نعيش ولادة لإنسان جديد لا علاقة له بتاتاً بالإنسان القديم، فقد تغيرت على سبيل المثال علاقته بجسده، ما دام أن الأدوية والمضادات الحيوية جعلته لا يتألم من الأمراض كما في السابق، كما أن معدل الأمل في الحياة ارتفع بدرجة جد ملحوظة. هناك تغيرات أخرى طالت علاقتنا بالزمان والمكان، فكل واحد منا يتوفر على عنوان لبريده الإلكتروني وهو عنوان على خلاف البريد العادي لا يحيل على مكان بعينه في الواقع، بل فقط على موقع افتراضي في الشبكة العنكبوتية. هكذا فالثورة الرقمية لم تعمل فقط على تقليص المسافات بين البشر، فهذا شيء قام به الحصان فيما مضى، بل إن الثورة الرقمية ألغت تماماً هذه المسافات. نحن إذن لا نعيش في نفس الفضاء الذي عاش فيه أجدادنا، وبالتالي لا نحمل نفس الرؤوس، كما أن طريقة الانتماء والوجود في العالم أضحت شيئا مختلفاً تماماً. ولكن رغم كل هذه التحولات في نظر ميشيل سير ـ وهنا يظهر فيلسوفنا كحكيم بوذي متفائل ـ ينبغي أن نلمح شيئاً أساسياً، وهو أن البشرية تسير نحو الفضيلة ونحو الغايات النبيلة، بعد أن قضى الإنسان جل أحقاب الماضي في الحروب والدمار ها نحن يقول ننعم أخيرا بالسلام.
التعاقد الطبيعي الجديد
هذه النظرة التفاؤلية عند ميشيل سير لا تتجاهل مع ذلك المشاكل العويصة التي يتخبط فيها عالمنا وعلى رأسها المشكلة الإيكولوجية. لقد غيرت الثورة الصناعية والفلسفة الحديثة بشكل عميق علاقة الإنسان بالطبيعة. كان نمط حياة الإنسان قديما يقوم على اكتساب معرفة بالمناخ والفصول وأنواع النباتات والمزروعات والحيوانات وكيفية تربيتها، وهذا كله قامت الثورة الصناعية بمحوه. لقد كان عدد الفلاحين أكبر بكثير من عدد الصنّاع في الماضي أما اليوم فقد لا تتعدى نسبة الفلاحين واحد أو اثنين في المائة. كما أن الفلسفة الحديثة وخصوصا الديكارتية جعلت الإنسان مناوئا للطبيعة، معتبرا أن مهمته الأساسية هي السيطرة والتحكم فيها. وهذا بطبيعة الحال هو ما قاد الإنسان إلى أن يصبح في مواجهتها بعد أن كان عنصراً منسجماً معها. لقد حدث كل هذا بسبب البرنامج العقلاني التقني. في هذا السياق يرفع ميشيل سير شعارا بديلا للشعار الديكارتي مؤكدا أنه: ينبغي التحكم في التحكم. لقد استنزف الإنسان كل الثروات الطبيعية، وخرب جل الأنساق البيئية كما لو أن هذا العالم ليس عالمه، كما لو أنه كائن غريب حط الرحال فوق هذا الكوكب وعليه أن يستغله كيفما شاء. ضد هذه النظرة يرى سير أنه من الضروري إدخال حد ثالث يتوسط بين الإنسان والطبيعة وهو يطلق عليه البيوجي la Biogée أي المحيط الحيوي الذي يفرض علينا بالضرورة منحه مجموعة من الحقوق، وباختصار نحن في حاجة إلى «تعاقد طبيعي» يعترف بالتعايش والإنصات للطبيعة، بدل الرغبة اللاعقلانية في تملكها واجتياحها. قرأ ميشيل سير كتاب ديكارت الشهير «خطاب في المنهج» كما لو أنه إعلان حرب يقوم به الإنسان اتجاه الطبيعة. إن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هي الحدود التي تتوقف عندها إمكانات الكرة الأرضية؟ وما الواجبات الأخلاقية الملقاة على عاتق المجتمعات المعاصرة تجاه هذه المشكلة؟ لقد ربح الإنسان معركته ضد الوحوش والبكتيريات وقساوة الطبيعة، ولكنه وصل اليوم إلى مرحلة حساسة قد ينقلب ربحه هذا إلى خسارة مدوية إذا لم يعرف كيف يتجنب الكارثة.
يفترض التعاقد الطبيعي إذن تأسيس معرفة بالطبيعة، لا تقوم على التملك بل على التفهم والانسجام والاحترام. لقد اقتصرت علاقتنا بالطبيعة: «كطفيليات تأخذ كل شيء ولا تمنح أي شيء» وقد آن الأوان لتأسيس علاقة جديدة، بقدر ما تمنحنا الطبيعة فيها خيراتها ينبغي نحن أيضاً أن نمنحها حبنا لها وعنايتنا بها. يقدم ميشيل سير مثالا شهيرا طالما تم الاستشهاد به من طرف الجمعيات والمنظمات البيئية وهو مثال السفينة. إن جميع البحارة يتصرفون بمسؤولية وبالكثير من الحيطة والحذر، لأن أي فعل خاطئ ستكون نتائجه كارثية على المجموع ككل. هكذا وبالمثل الأرض هي سفينتنا، لذلك يجب أن تكون كافة الممارسات التي نقوم بها مسؤولة وقادرة على الحفاظ على التوازنات البيئية الأساسية الكفيلة باستمرارية الحياة. فالعقد الطبيعي ينقذ الإنسان من أن يدمر نفسه بنفسه، غير أن يقظة هذا الوعي الطبيعي والأخلاقي الجديد تحتاج إلى ضرورة العناية كذلك بالجانب التربوي، لأنه وحده القادر على ولادة ما يطلق عليه ميشيل سير بالثالث المتعلم le tier instruit.