هاشم صالح

بالأمس القريب، الأول من يونيو رحل عن هذا العالم أكبر فيلسوف فرنسي معاصر: ميشيل سير. وكان قد ملأ الدنيا وشغل الناس بذكائه وكتبه الناجحة التي شرحت لنا أسرار الكون طيلة السنوات الأخيرة. وكان قد أضاء لنا الطريق وجعلنا نفهم العالم الذي نعيش فيه بشكل ممتاز بفضل معرفته الموسوعية وعبقريته التي لا تضاهى.
كان آخر ظهور إعلامي لميشيل سير يوم الأحد 26 مايو أي قبل ستة أيام فقط من رحيله. وهذا يعني أنه ظل حتى آخر لحظة ناشطاً ومنخرطاً في هموم العالم. فقد جرت العادة أن ينعزل الإنسان في الغرب بضع سنوات أو بضعة أشهر على الأقل قبل أن يموت، لكي يرحل بهدوء بعيداً عن الأنظار. وهناك مثل يقول: العصافير تختبئ لكي تموت. أما هو فقد رافق العصر وشارك في برنامج يعده الإعلامي الفرنسي اللامع من أصل مغربي علي بدو بعنوان: «قضايا سياسية». وكانت آخر كلمات تلفظ بها علنيا قد حصلت في هذا البرنامج وربما كانت وصيته الأخيرة دون أن يدري حتى هو.
على أي حال لقد فاجأنا في هذا البرنامج ببعض الأفكار المهمة. فهو لا يتكلم لكي يقول عبثاً أو كلاماً فارغاً. قال ما معناه: لا تستمعوا إلى نعيق الغربان الذين يتحدثون عن انحطاط الحضارة التنويرية وزوالها. فنحن لم نعش طيلة عصور التاريخ عصراً يماثل هذا العصر. نحن في الغرب نعيش فترة سلام وازدهار غير مسبوقة. منذ سبعين سنة ونحن ننعم بالسلام والأمان. وأما في الماضي فما كانت تمر ثلاثون سنة بدون حروب بين الأمم الأوروبية الكبرى: إما بين فرنسا وألمانيا، وإما بين فرنسا وإنجلترا، إلخ.. أما الآن وبوجود الاتحاد الأوروبي فأصبحت الحروب مستحيلة عندنا. أليس هذا تقدما؟ أليست هذه نعمة لا يعرفها إلا من فقدها. أين هو الانحطاط في كل هذا؟ هل السلام انحطاط؟ هل الازدهار الاقتصادي والعمراني والتكنولوجي والطبي والصحي انحطاط؟ أعتقد أنه يشير هنا ضمنياً إلى الفيلسوف ميشيل أونفري الذي أصدر كتاباً ضخماً يتحدث فيه عن انحطاط الحضارة الغربية بل ويتنبأ بزوالها الوشيك. وكانت هذه أكبر حماقة يرتكبها.
ثم يضيف ميشيل سير في آخر كلمات تلفظ بها قائلاً: أصبح معدل العمر في البلدان المتقدمة حالياً 80 سنة. وهذا شيء لم يحصل أيضاً في الماضي أبداً. عام 1900 كان متوسط العمر 48 سنة وعام 1850 كان 30 سنة فقط. فقارنوا لكي تدركوا حجم التقدم الحاصل في تاريخ البشرية. وقس على ذلك الكثير. وبالتالي فالمجتمع يتقدم بشكل هائل. ولكن المشكلة هي أن المؤسسات السياسية التي بلورت في فترة سابقة على كل هذه المتغيرات لم تتغير ولم تتطور لكي تساير كل هذه المستجدات. هنا تكمن أزمة فرنسا وأوروبا والغرب كله.

مسؤولية المثقفين
وهنا يشير الفيلسوف الراحل بأصابع الاتهام إلى مسؤولية المثقفين عن هذا الوضع قائلاً: إنهم يتحملون مسؤولية عدم قدرة المجتمع على أقلمة مؤسساته مع الأوضاع الراهنة وتجديدها. ثم لكي يوضح فكرته أكثر فإنه يضرب على ذلك المثل التالي: قبل اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789 كان واضحاً أن المؤسسات السياسية التي تحكم فرنسا أصبحت مهترئة ولم تعد قادرة على مسايرة الوضع وتخفيف آلام السكان. ولهذا السبب انفجر الوضع برمته. ولكن كان هناك مفكر عملاق عرف كيف يشخص المشكلة ويبلور الحل والعلاج. هذا المفكر العملاق هو: جان جاك روسو. ولهذا السبب رفعت الثورة الفرنسية صورته على رؤوس الأشهاد في شوارع باريس ولم تكن تحلف إلا باسمه. ونضيف من عندنا: أما الربيع العربي فلم يرفع إلا صورة يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي وبقية شيوخ العصور الوسطى وقادة «الإخوان المسلمين». فلاحظوا الفرق بين ثوراتهم التي قذفت بهم خطوات عملاقة إلى الأمام وثوراتنا التي أعادتنا قرونا إلى الوراء! هنا يكمن الفرق بين الثورات التنويرية/‏ والثورات الظلامية.
ثم يقول الفيلسوف الراحل: وأما الآن فلم يعد لدينا مفكرون من هذا الحجم والطراز. لا يوجد لدينا مفكرون قادرون على أن يقولوا لنا ماذا ينبغي أن نفعل أو لا نفعل. ومعلوم أن دور الفلاسفة الكبار يكمن في فك الانسداد التاريخي واختراع صيغة جديدة من صيغ الحكم والمؤسسات. رجال السياسة لا يستطيعون فعل ذلك. هذه هي مهمة المثقف بالدرجة الأولى أو بالأحرى الفيلسوف. (بين قوسين إذا كان الفرنسيون لا يمتلكون مثقفين كباراً قادرين على تشخيص أوضاعهم فما بالك بنا نحن العرب!)
ثم يحمل الفيلسوف الكبير الراحل حملة شعواء ليس على الرأسمالية ككل وإنما على الجشع الرأسمالي الذي لا يشبع. وهو جشع قد يدمر الطبيعة والمناخ كلياً إذا لم تنهض قوة كبيرة في وجهه أو ضده لكي توقفه عند حده. ثم يعترف قائلاً: نعم إن نموذجنا الاقتصادي الرأسمالي يكاد يدمر الكون. فهذا النظام ذو انعكاسات كارثية على الطبيعة والبيئة. ولكن لا ينبغي أن نسقط في نوع من التشاؤم الأسود. فالعالم ليس على حافة الانهيار بسبب ذلك. وهناك قوى عديدة أصبحت تستشعر ضرورة الدفاع عن الكرة الأرضية: أي عن الطبيعة الغناء والفيحاء. وأكبر دليل على هذا ذلك القرار الذي صدر مؤخراً في الولايات المتحدة. وهو يقضي بجعل إحدى البحيرات الخمس الكبرى في أميركا بصفتها كائناً موضوعياً أو شخصاً معنوياً لا يجوز لأحد التعدي عليه. وبعد اليوم لا يجوز لأي جهة الاعتداء على هذه البحيرة أو استخدامها لأغراض منفعية ورأسمالية رخيصة. وبالتالي فالعقد الطبيعي الذي يربط بين الإنسان والطبيعة أصبح حقيقة واقعة. ودخل هذا العقد في العادات القضائية والتشريعية للبشرية. وهو عقد يقول ما فحواه: أيها الناس ممنوع بعد اليوم أن تعتدوا على الطبيعة أكثر مما ينبغي. ممنوع حرق الغابات والأشجار من أجل إقامة المصانع أو ناطحات السحاب فوقها. هذا الشيء ينبغي أن يتوقف. يكفي. لقد أصبحنا على حافة الخطر.

فلسفة التاريخ
كل فيلسوف كبير يمتلك بالضرورة نظرة بانورامية شاملة عن التاريخ البشري وإلا فلن يستحق لقب الفيلسوف. إنه يستطيع بنظرة واحدة أن يطل على الماضي والحاضر والمستقبل. من هذا النوع كان ميشيل سير. كان مفكراً موسوعياً من الطراز الأول. كان يجمع في شخصه بين المعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية بل وحتى الدينية والأدبية. وفي كتبه الأخيرة أوضح رؤيته ليس فقط لتاريخ فرنسا وأوروبا وإنما لتاريخ العالم أيضاً. ينبغي العلم بأنه عاش في أميركا أكثر مما عاش في فرنسا: 47 سنة! كان أستاذاً في جامعاتها الكبرى وبخاصة جامعتا بوسطن وستانفورد. ومعلوم أن أميركا تشتري الأدمغة ما أن تنبغ وتدفع لها ثلاثة أضعاف المرتب الذي تدفعه فرنسا وربما أكثر.
على أي حال فالرجل يعتقد أن التاريخ البشري يسير نحو الأفضل على الرغم من كل المآسي والفواجع الحالية. فالعنف والتخلف وسوء التنمية كلها أشياء تراجعت كثيراً في المجتمعات المتقدمة والمزدهرة من أمثال أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وأستراليا. ويمكن أن نضيف إليها اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والإمارات العربية المتحدة وبقية الدول الغنية، والمتقدمة، والمتسامحة، والمستنيرة. والفقر تراجع أيضاً على عكس ما توحي المظاهر. لا ريب في أنه لا تزال هناك جزر مرعبة من الفقر المدقع في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وهو شيء لا يحتمل ولا يطاق وينبغي أن نجد له علاجاً. ولكن في المحصلة العامة تراجع الفقر في عصرنا الراهن قياساً إلى العصور السابقة، حيث كانت المجاعات تحصد الناس بالملايين بدون أي مغيث أو معين. وبالتالي فلنكف عن اتهام العولمة الرأسمالية. فهي ليست كلها سلبيات على عكس ما يزعمون. ثم جاءت الطفرة المعلوماتية الرقمية لكي تدشن أكبر ثورة معرفية في تاريخ البشرية.
يقول ميشيل سير ما معناه: حتى قبل عشرين سنة ما كان طلابي يعرفون شيئاً عن الموضوعات التي سأدرسهم إياها. كانوا يجهلون كل شيء. وأما اليوم وبفضل الإنترنت فيكفي أن يفتحوا على موسوعة «ويكيبيديا» لكي يأخذوا فكرة شاملة عن موضوع الدروس المقررة لهم. بل وحتى الأمراض أصبحوا يعرفون عنها أشياء كثيرة قبل استشارة الطبيب وأصبحوا يناقشون الأطباء في الأمراض التي قد تصيبهم. وهذا شيء ما كان يحصل في الماضي أبداً. لم يكن أي مريض يتجرأ على مناقشة الطبيب في مرضه. وكل ذلك بفضل الإنترنت والثورة المعلوماتية التي عممت المعرفة بكل أنواعها. إنها أكبر ثورة ديمقراطية في تاريخ المعرفة والفكر البشري. بمعنى آخر لقد تحققت ديمقراطية المعرفة التي لم تعد محصورة بالأغنياء وعلية القوم وإنما عممت شعبياً على أوسع نطاق. فحتى الفقير أصبح يستطيع التوصل إلى المعرفة تماماً كالغني بشرط أن يمتلك حاسوباً إلكترونياً. وأصبحنا جميعاً من فقراء وأغنياء، من أساتذة وطلاب، من عرب وأجانب، نستطيع بنقرة واحدة أن نستعلم عن أي موضوع كائناً ما كان: فلسفي، أو اقتصادي، أو أدبي، أو ديني، أو سياسي، الخ.. أليس هذا تقدماً يا بشر؟ أحسدوا أنفسكم على هذه النعمة التي لا تقدر بثمن. أحسدوا أنفسكم على أنكم لم تموتوا قبل ظهور الثورة الرقمية والمعلوماتية. فحتى لو كنت أسكن قرية نائية في أعماق الصحارى أو رؤوس الجبال فإني لن أنقطع عن المعرفة بشرط واحد: أن يكون معي حاسوب إلكتروني يربطني بالعالم كله!
ثم ينتفض ميشيل سير في أحد كتبه الأخيرة ضد أولئك الذين يقولون بأن الماضي كان أفضل من الحاضر. إنهم يشعرون بحنين طوباوي نوستالجي إلى الماضي ويعبرون عن تقززهم من الحاضر. ضد كل هؤلاء ألف ميشيل سير كتاباً كاملاً قال فيه ما معناه: أيها السادة اعرفوا ماذا تقولون وزنوا الكلمات قبل أن تلقوها جزافاً. هل تعلمون كيف كان الماضي قبل خمسين أو ستين سنة حتى هنا في بلد متقدم كفرنسا؟ يا شباب أنتم لم تعيشوا تلك الفترة بل ولم تكونوا قد خلقتم بعد. أما أنا فأعرف كيف كان الماضي. أنا بحكم عمري المديد 87 سنة عشت الماضي وعشت أهوال الحرب العالمية الثانية قبل سبعين سنة. وعرفت الفقر والجوع في تلك السنوات العجاف. ثم هل تعلمون ماذا كان في الماضي؟ في الماضي كان يحكمنا أشخاص من نوعية فرانكو، وهتلر، وموسوليني، وستالين.. يا لهم من شجعان! يا لهم من عظماء! لقد خلّفوا وراءهم عشرات الملايين من القتلى والجرحى والمعطوبين. هل تتأسفون على هذا الماضي؟ هل تحنون إليه؟
إضافة إلى ذلك اسمحوا لي أن أقول لكم ما يلي: في الماضي كانت الأوبئة تحصد الناس بالملايين دون أن يجدوا لها علاجاً. وأما اليوم فقد اختفت تقريباً كلياً من على وجه الأرض بفضل تقدم الطب والصيدلة واختراع الأدوية الجديدة التي تشفيك بضربة عصا سحرية. ولهذا السبب يقول لنا ميشيل سير بأن البطل الفرنسي الجديد لم يعد نابليون بونابرت وإنما الطبيب الاختصاصي الذي يشفي الناس من أمراضهم المستعصية. نعم إن أبطال العصور الحديثة هم الأطباء والصيادلة ومخترعو الأدوية الذين يخففون آلام البشرية.
هذا هو ميشيل سير. لقد كان مفكراً موسوعياً على طريقة ديدرو أو غوته أو كانط أو هيغل أو بالأخص أستاذه الكبير: لايبنتز. كان يعرف كل شيء تقريباً. وكان ـ وهذا أهم شيء ـ شخصاً طيباً في أعماقه الداخلية. كان شهماً كريماً يحب الخير للبشرية جمعاء ويهمه مستقبل الكرة الأرضية كلها وليس فقط فرنسا. كان ميشيل سير أمة وحده كما قيل عن فولتير سابقاً. ولا ريب في أن فرنسا تفقد اليوم برحيله آخر عمالقتها الكبار.