المثقفون العرب... وسجال الصعود التركي
في سياق الانشغال العربي على كل المستويات السياسية والنخبوية، فضلا عن المؤسسات البحثية ووسائل الإعلام بالصعود التركي وتداعياته الإقليمية والدولية، يثار التساؤل التالي: ما هي ملامح خطاب المثقفين العرب تجاه هذا الصعود التركي واتجاه التغير الذي لحق السياسة الخارجية التركية؟
ونجد من بين المثقفين من وصف تأثير الصعود التركي بأنه "خطف الأبصار وأسر القلوب". وآخر يقول: "إن الشرق الأوسط دخل العصر التركي". وثالث يناشد وزير خارجية تركيا بإنقاذ بلاده قائلًا: "لا تتركنا يا داود أوغلو"، لأنك "تحمل في حقيبتك أفكاراً وتمنيات وحلولاً وضمادات وعقاقير". ورابع يرى بأن ثمة "تحولات استراتيجية مهمة في المنطقة أسهم فيها الموقف التركي". هذه التحولات جعلت "إسرائيل خالية من أي تحالفات إقليمية للمرة الأولى منذ تأسيسها". وخامس يقول: "أصبحت إسرائيل تسعى إلى استمالة تركيا عن طريق وساطة واشنطن" بعد أن كان العكس هو الذي يجري.
وسادس يرى أن: "تركيا الخلافة ستعود بإذن الله قريبا"؛ لأن الجسد العربي صار بعد زوالها "هزيلا ومهترئا"، وبعودة تركيا أي "الخلافة" يعود "العز والمجد". وسابع يرد التغير في الموقف التركي من الحليف الاستراتيجي "إسرائيل" إلى "صحوة ضمير المسؤولين الأتراك"، هذا الموقف الأخير في غاية الغرابة، كونه يرد هذا التحول في المسائل السياسية والاستراتيجية إلى الضمير، وبالتالي يسقط من اعتباره العوامل الموضوعية سواء أكانت داخل تركيا أو في محيطها الإقليمي والدولي، ويعزل المجتمع التركي بكامله عن هذا "التحول الكبير" ويحصره فقط في ضمير المسؤولين الأتراك. أي دكتاتورية ورومانسية وليس أكثر من ذلك!
والأغرب أن بعضهم يصف الشعب التركي بأنه "شعب من أفضل شعوب المسلمين"؛ لأنه "شعب يتميز بحميَّة إسلامية عالية، وبرُوح إيمانية رائعة". بأي مقياس قاس ذلك؟ لا نعلم. والأكثر غرابة عندما تساءل أحد المثقفين العرب: "هل توحد تركيا المشرق العربي؟".
وفي لغة مفعمة بالتمني والرغبات صور أحدهم تركيا بالقوة الرئيسية في المنطقة، وأنها ستلعب أدواراً "حيوية في كل الملفات المطروحة، رغم أنف إسرائيل ولوبياتها". وفي ضوء هذه الرؤى، يتبن أن بعض العرب الذين بدؤوا بملاحظة التحول في السياسة الخارجية التركية، تعاملوا تعاملاً ساذجاً ومبالغاً فيما يخص هذا التحول، والدور الموعود لتركيا، ليس الإقليمي فحسب بل والعالمي أيضاً.
والملفت للنظر أن هناك هالة كبيرة أحاطت هذا التغير التركي، ورسم دور يفوق طاقة تركيا وقدراتها، وكأنها تعمل في فراغ دون أخذ قدراتها الفعلية وارتباطاتها الجيو-استراتيجية، فضلًا عن إضفاء نوع من الرومانسية والبطولة والشجاعة والمرونة الفائقة عليها. وبالتالي إحلال رغباتهم الذاتيّة محلّ الواقع، وكأننا لا نحلل هذا التحول المرتبط بدولة تتحرك في سياق إقليمي ودولي يضع عليها قيوداً بقدر ما يفتح أمامها فرصاً للتحرك، بل يتجاوز هذا "التحليل"، وكأنك تقرأ لعاشقة تكتب عن عشيقها، أو عاجزاً ينتظر المخلص. مع العلم أن تركيا لا تملك إلا القليل من الوسائل الخاصة اللازمة لتحقيق مصالحها، التي لا تتناسب مع ارتباطاتها الاستراتيجية وتطلعاتها الإقليمية.
هذا التبسيط هو هروب من الواقع وانحياز وتشويه لحقيقة هذا التغير في السياسة التركية، واستغراقاً في الرومانسية والخيال، بعيدا عن ارتباطات الواقع وحدود الحركة. وهذا يؤكد أن الفكر العلمي والموضوعي لم يكن جزءاً من خطاب هؤلاء، بل سيطر الفكر الرغبي، والرومانسية الفاقعة على العقلانية، والتمني على الواقع، والحلم على الحقيقة. ولكن التساؤل هنا: هل توافق تركيا على هذه القراءات؟ بعبارة أخرى: كيف ترى تركيا نفسها؟
إذا كانت تركيا بهذه القوة، كما يصورها هؤلاء، لماذا لم توفق حتى الآن في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟!، ولو كانت تركيا كذلك لما شعرت بأنها مهملة؟ ولما انحاز الاتحاد الأوروبي إلى اليونان، خصم تركيا اللدود؟ ولما فضلها على تركيا في مجالات الأمن والدفاع وغيرها من المجالات الأخرى.
ولو كانت بهذه القوة لحسبت واشنطن لتركيا ألف حساب قبل أن تستخدم "قضية الأرمن" ضدّ تركيا، عندما قررت لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس الأميركي بوصف المجازر التي وقعت عام 1915، وراح ضحيتها آلاف من الأرمن، بـ"الإبادة الجماعية"، ولما صوت البرلمان السويدي أيضا على قرار يعتبر ما جرى مع الأرمن هو إبادة، بل ذهب البرلمان السويدي أبعد من ذلك حيث نص القرار أن "السويد تعترف بإبادة عام 1915 ضد الأرمن، والآشوريين، والسريان، والكلدانيين، واليونانيين، الذين كانوا مقيمين" في أراضي السلطنة العثمانية، وبالتالي كل الأقليات المسيحية التي كانت مقيمة هناك. وذلك دون أن تعير العلاقات التركية-السويدية أي اهتمام.
والغريب أن من الكتاب من اعتبر أن هذين القرارين يعدان في الحقيقة "انتصارا لتركيا"، رغم أن تركيا سارعت إلى التنديد بهذا التصويت، وعبرت عن استيائها وامتعاضها. وهكذا يتبين أن تركيا لا تشكل قيمة كبرى للاتحاد الأوروبي وبخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، الذي قلل من قيمة تركيا الاستراتيجية، ما أثار نقاشات داخلية حامية حول دور تركيا الإقليمي، لإعادة تقويم أهميتها الاستراتيجية، وإعادة تحديد مكانتها في المنظومة السياسية الجديدة على الصعيد الدولي.
ولكن هذا لا يعني أنها فقدت قيمتها. نحن لا نقلل من قيمة تركيا، فلها مكانتها واحترامها، ولكن نقلل من قيمة المبالغة في الدور التركي.
وهنا نستطيع أن نقدم فرضية أولية وهي: أن أولوية المشروع التركي في المنطقة ستكون اقتصادية، وسيبتعد قدر الإمكان عن الأبعاد السياسية والاستراتيجية التي تثير حساسية المشاريع الأخرى في المنطقة.
عياد أحمد البطنيجي - كاتب فلسطيني
ينشر برتيب مع «مشروع منبر الحرية»