اتفاق غير مقصود بين العرضين العراقيين المشاركين في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي على استخدام مقولة المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا “أنا لا أستطيع أن أنسى ولكن أستطيع أن أتسامح” رداً على ما واجهه في سجون التفرقة العنصرية أثناء حكم البيض لبلاده. وجاء عرضا “صدى” للفرقة القومية العراقية للتمثيل وإخراج حاتم عودة و”الظلال” لورشة فضاء التمرين المستمر العراقية وإخراج هيثم عبدالرازق بنفس المقولة التي تدعو للتسامح الذي يبدو أنه هو الطريق الوحيد لعودة العراق الذي أحبه أهله وأحبه كل العرب، عراق الوفرة والإبداع. دوامة الدم التي لا تتوقف، حديث الثأر الذي لا ينتهي جعل الكل يقرر أن يلتقط أنفاسه ويتساءل: ماذا بعد دائرة القتل الجهنمية؟ هناك ضحايا وهناك قتلة ولكن حتى القتلة لديهم ما يبرر ما ارتكبوه هم يرون أنفسهم أيضا ضحايا، من القاتل ومن الضحية؟ سؤال واحد له إجابات عديدة لكل شخص من وجهة نظره، حيث يروي التاريخ كما رآه لتختلف النظرة حسب كل عين رأت، من بدأ بالرصاصة الأولى.. ومن ظلم ومن كان ضحية هذا الظلم؟ المبدعون العراقيون تماما كالمواطنين تأكدوا من أن البحث عن الجاني والانتقام للضحية لا يكفي ليعود العراق بل قد يكون الباب الذي يمكن أن يؤدي لفناء الجميع. ويبدو أن الحالة العراقية قادرة على تحفيز المبدع المسرحي على البحث عن الجديد في ظل ظروف صعبة هي نفسها القادرة على منحه فرصاً للتجريب والخروج على المألوف. الرمز تميز العرضان العراقيان بالتجديد على مستوى السينوغرافيا “تشكيل الفراغ المسرحي” كما اعتمدا على الرمز حيث أدوات التنظيف وصندوق القمامة وأضابير وملفات قديمة وقاعة التواليت والجرادل والمياه كلها حملت دلالات مخلفات الماضي والإساءات القديمة والرغبة في التطهر والتخلص من الخطايا، كما جاء التجريب واضحاً على مستوى الأداء التمثيلي وحركة الممثل خاصة في عرض”صدى” الذي أخذه المخرج حاتم عودة عن “صدى النسيان” للراحل نجيب محفوظ ودارت الأحداث حول الابن “سمر قحطان” العائد لأمه “بشرى إسماعيل” ـ التي فازت بجائزة أحسن ممثلة ـ طالباً عفوها بعد أن قتل أخوته وهرب. الأم لا تستطيع أن تغفر كما أنها ليست قادرة على أن تنسى أمومتها له وكل ما تفعله أنها تصلي وتردد أذكاراً معظم الوقت وتتجه لأكثر من قبلة في إشارة إلى تعدد المعتقدات في العراق لكنها في النهاية تتجه إلى اله واحد. استخدم المخرج ببراعة خزانات المياه “الدلو” مرة بإضاءتها باللون الأحمر كأنها مليئة بالدم الذي سفكه الابن ومرة يعود إليها الضوء الأبيض لتعود خزانات مياه عادية يمكن أن يتطهر بها الابن من ذنبه كما تنعكس عليها الإضاءة لتبدو وكأنها شواهد قبور، كما ظهرت الأم وهي تغسل أعداداً كبيرة من سجاد الصلاة في إشارة إلى كثرة صلاتها وأنها لم يعد أمامها بعد أن مات كل أبنائها إلا الصلاة. سمر قحطان قال عن تجربته في “صدى”: حاولنا التجريب في مناطق الصمت بين الجملة والجملة التالية كما جاءت حواراتي كلها متقطعة بشكل مبالغ فيه لتظهر حالة الابن المطارد بذنبه الباحث عن المغفرة. أما بشرى إسماعيل فقالت: دور الأم كان غير تقليدي فهي ترمز للوطن كأنني العراق الذي أخطأ أبناؤه في حقه ومع ذلك هو مستعد للتسامح لأن المخطئ مهما كان هو الابن. العدالة وفي عرض “الظلال” جمعت الضحية إقبال نعيم أو الزوجة “رفل” والمتهم فلاح إبراهيم أو “د. فلاح” والزوج ميمون الخالدي أو “المحامي عادل” في ليلة من ليالي العراق البائسة يخبر الزوج زوجته باختياره عضواً بلجنة تحقيق في جرائم الفساد في العهد الماضي، وتقول له زوجته أن ما يحتاج إليه البلد حقاً هو العدالة لكنها تشكك في أن الجيش سوف يسهل مهمة اللجنة ويؤكد هو أن صلاحيات اللجنة محدودة لأن القرار الحقيقي بيد المحتل الأميركي، الزوجة التي يشعر المشاهد من أول لحظة أنها منهارة ومحبطة تتحول إلى وحش عندما تكتشف أن الضيف الذي جاء إلى بيت زوجها هو نفسه الطبيب الذي كان حاضراً جلسات تعذيبها بل شارك في اغتصابها، وترفض أي تشكيك في ظنونها فتقرر أن تنتقم لنفسها بقتله بينما يظل الزوج يدافع عن ضيفه الذي لم يتردد في مساعدته وهو سلوك يجعله يرفض أن يصدق أنه هو نفسه الشخص الذي شارك في تعذيب زوجته واغتصابها لذلك فهو يحاول أن يقنعها بأن ما تعتقده مجرد أوهام في رأسها خاصة وأنها كانت مغمضة العينين عند اغتصابها لكنها تتمسك بأنه هو الطبيب الذي شارك في تعذيبها وأن باقي حواسها تتعرف عليه وأنها عرفته من رائحة جسده وضحكته التي لا تنساها. ويجد الزوج نفسه بين نارين إما أن يصدق زوجته أو يصدق الضيف الذي يعترف تحت الضغط بأنه بالفعل كان يشارك في جلسات التعذيب وان اقتصر دوره على إسماعهم الموسيقى فقط، ويتحول الزوج إلى النقيض فيقرر الانتقام منه لكنه سرعان ما يتراجع ويتذكر ما كان ينصح زوجته به بترك المسألة للقانون فيقرر هو وزوجته التخلي عن قرار الانتقام، هما لم ينسيا الألم لكنهما قررا أن يتخلصا من الرغبة في الانتقام بينما يتردد صوت الطبيب المتهم عندما يحذر الزوجة من أن أبناءه سوف يأتون بعد 15 عاماً طالبين الانتقام منها في إشارة إلى أن دائرة الانتقام لن تتوقف. قاعدة تواليت على خشبة المسرح لفتت أنظار جمهور العرض على الرغم من أن أحداثه تشير إلى أن الحمام في منطقة الكواليس مما أعطى قاعدة التواليت بعداً آخر حيث تتقيأ فيها السيدة وتجلس عليها في بعض الأوقات مما يجعلها رمزاً للمخلفات الأدمية على مستوى الفكر حيث إن الثأر يعتمد على فكرة التمسك بكوارث قديمة تدعو للقرف لكن الإبقاء عليها يدعو لقرف أكبر. وفي اللحظة التي يقرر الزوج وزوجته التسامح مع الطبيب يمسك الجميع بمكانس وأدوات تنظيف في إشارة إلى أن الكل يقرر أن يكنس الماضي بكل مخلفاته ليعيشوا في مكان أكثر نظافة بعيداً عن مخلفات الماضي فيتم إلقاء الأضابير والملفات القديمة بما تحويه من جرائم فساد وظلم فالتخلص من الماضي يهدف في هذه الحالة إلى حماية الحاضر والإبقاء على الأمل في المستقبل. وحول الإجماع على خطاب التسامح في العرضين العراقيين قال المخرج العراقي عزيز خيون الذي كرمه المهرجان أن هناك رغبة حقيقية عند المبدع والإنسان العراقي في طي صفحة الماضي بكل آلامه والكل يرغب في وقف دائرة الدم الجهنمية، لذلك توافق العرضان على نفس الفكرة فالمواطن العراقي ليست لديه أي مشكلة في التعايش مع الآخر والمشكلة في السياسة وأهلها الذين يثيرون الطائفية ويتحدثون عنها.