«لاسينج»يبرز طاقة الإسلام الإيجابية وقدرته على الإنجاز في مختلف الميادين
في كتاب “الأديان من التنازع إلى التنافس: لاسينج وتحدي الإسلام”، يتعرض المؤلف كارل يوسف كوشل إلى واحدة من أهم قضايا العصر، ألا وهي العلاقة بين الأديان السماوية الثلاث، عبر رؤية عقلانية تبناها الكاتب والناقد جوتهولد افرايم لاسينج قبل ما يزيد على قرنين من الزمان، فكانت آراؤه بمثابة نبراس للحق يقف في مواجهة كل أنواع التكبر والتعاظم في المجتمع الأوروبي المسيحي وثقافته تجاه الأديان الأخرى وعلى رأسها الإسلام.
يستعرض المؤلف كارل يوسف كوشل عبر صفحات كتابه “الأديان من التنازع إلى التنافس: لاسينج وتحدي الإسلام” ما قام به الكاتب والناقد جوتهولد افرايم لاسينج خلال سيرته الفكرية من جهود سعى من خلالها إلى إبراز الجوانب الإيجابية في الدين الإسلامي وسعي الأوروبيين ومستشرقيهم إلى طمسها عمداً، رغبة في تحقيق نوازع السيطرة والهيمنة على الآخر دونما الاعتماد على رؤية حقيقية وصادقة، مما يكون عليه هذا الآخر.
ومن ذلك، نجد أن لاسنيج يشدد عن قصد لغاية استراتيجية هادفة على طاقة الإسلام الإيجابية، وقدرته على التغيير وعلى إنجازاته في ميادين الفنون والعلوم، وعلى بروز أبطال ونبوغ علماء في رحابه، دون السهو عن جانب الأخلاقيات في الإسلام، منوهاً إلى سمو هذا الجانب بشكل لافت.
رفع الضيم
يعد الكتاب مبادرة أولى في سبيل “رفع الضيم” عن الإسلام وتبرئة ساحته، وأتى ذلك ضمن المصنفات التي وضعها كوشل تحت عنوان “مداخلات لرد الاعتبار”، ثم يعمد الكاتب إلى تبيان الخلفية التاريخية بخصوص أوضاع علم اللاهوت والكنية والثقافة العامة التي عاشها لاسنيج، حين بلور آراءه عن الإسلام، حيث يتعرض بالتحليل لتلك الأوضاع التي عايشها لاسينج آنذاك، وهو في طور الشباب، والتي شهدت انخراطه الحماسي في المكافحة من أجل موقف مبدئي جديد تجاه الإسلام.
ويقول كوشل، من خلال إبراز الخلفيات التاريخية نستجلي ما حققه لاسينج في كنفها بصورة جديرة بالإعجاب، وعلى هذا الأساس سنكتشف أن التقييم الجديد الذي تكفل به لاسينج لصالح الإسلام يتنافى، بل يتضارب كلياً مع موقف سلبي ضد الإسلام تبناه العالم المسيحي على مدى قرون، معتبراً إياه ديناً غير شرعي ومعادياً للمسيحية، وقد ظلت القوالب النمطية والأحكام المسبقة المتوارثة قائمة الذات، نافذة المفعول في مجال اللاهوت إلى غاية عصر لاسينج، سواء لدى الكاثوليك أو في صف البروتستانت. وقد نشأت هذه الآراء ورسخت على مجرى قرون من الدفاع ضد حملات الإسلام والتصدي لتهديده وأخطاره.
ويركز كوشل على صورة الإسلام من وجهة نظر لاهوتيين ذوي نفوذ وتأثير وأول من يعترض من الشخصيات التاريخية المهمة في سياق الجدل الكنسي ضد الإسلام رجل ولد في مدينة دمشق عام 675 في أسرة مسيحية على المذهب البيزنطي الملكي، هو يوحنا الدمشقي. وعاش يوحنا في زمن أصبحت فيه دمشق وقد استحوذ عليها العرب المسلمون عام 635، أي ثلاث سنوات بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في ظل حكم الخلفاء الأمويين مركز السطة في دولة عربية عظمى. وجراء ارتباطاته بالبلاط كان يوحنا على علاقة وثيقة بأصحاب السلطة الجدد وخبيراً بثقافتهم وبوصفه عربياً نصرانياً لم تكن اللغة لتشكل عائقاً أمامه، رد على ذلك وبالأخص أنه كان مثقفاً ثقافة تخوّل له مواجهة تحديات المسلمين والرد عليهم فيما يتعلق بأمور الدين.
سجال عتيق
تكمن أهمية مؤلفات يوحنا في أنها وثائق من العصر الباكر لوصول المسلمين إلى سوريا، ومن شأنها أن تطلع على وقع الإسلام والمسلمون في نفوس الأهالي المسيحيين وكيف استوعبوهم ونظروا إليهم، ويقول كوشل “لو تمعنا جيداً في مصنف يوحنا الرئيسي “مصدر المعرفة” الذي ألف فيما بعد 742، 743، لاستنتجنا أن يوحنا الدمشقي هو الباعث الأصلي للنموذج اللاهوتي السجالي العتيق، وبالتالي فهو فعلاً شخصية ريادية في تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية. وليس بعيدا عن ذلك فكرياً وإن بعد زمانياً، وفي تغيير للمشهد وفي نفس السياق، نجد أن ما مثله يوحنا الدمشقي بالنسبة إلى الشرق الإغريقي وافقه بالمقابل بطرس الجليل (1094 - 1156) في الغرب المسيحي الناطق باللاتينية”.
وبالنظر إلى مؤلفات بطرس رئيس ديركلوني، يقول كوشل “ينبغي اعتباره مؤسس جدال منتظم مع الإسلام، قائم على المجابهة العدائية، وأصبحت كتاباته مصدراً من المصادر الرئيسية للجدل المعادي للمسلمين ودينهم في أواخر القرون الوسطى وخلال حركة الإصلاح الكنسي البروتستني، ذلك أن بطرس الجليل كان أول من حرص على وضع أسس للمجابهة الفكرية مع الإسلام، واكتشف أن اللاهوت الديني يفتقر إلى معرفة كافية بالمصادر الإسلامية، فضلا عن لغة المسلمين، ولتدارك الوضع تحول بطرس إلى إسبانيا، هذا القُطر المسيحي الإسلامي الهجين”.
ويضيف كوشل “خلال رحلة قام بها خلال سنة 1142 لتفقد أديرة تعود إليه، التقى اثنين من رجال الدين المسيحي يتقنان العربية ويتمتعان بإلمام جيد بالثقافة العربية، هم روبرت الكيتوني وهرمان الدعاسي. وأقنعهما بطرس بالانخراط في مشروعه المتمثل في ترجمة القرآن، بالإضافة إلى بعض النصوص السجالية ضد الإسلام المسيحيين عرب، إلى اللغة اللاتينية”.
ترجمة القرآن
لم تمض سنة 1143 حتى كانت الترجمة جاهزة فتحققت بها أول ترجمة لاتينية للقرآن على الإطلاق، وأصبحت فيما يلي بمثابة الحجر الناطق باللاتينية، وهنا تظهر ما لهذا الإنجاز من أهمية وشأن على صعيد التاريخ الثقافي والتاريخ الديني، فهو قد شكل منذئذ المصدر الرئيسي لإطلاع الأوربيين على القرآن وبات المرجع الأساسي الذي اعتمده جل هجائي الإسلام المسيحيين الكبار. ولم يفسح هنا العمل لترجمة لاتينية جديدة إلا سنة 1698 وهي الترجمة التي وضعها القسيس الإيطالي لودفيكو مراكتشي دون أن يتجاوز روح اللاهوت التهجمي القروسطي، إذ جاءت بدورها مشعة بهذا النفس، مع مراجعة صاحبها لها بحصيلة ما تقدم من ردود جدالية حول القرآن.
وخلال عمل الترجمة التي كلف بها، عكف بطرس على تحرير ردوده الجدلية على الإسلام فضمها إلى ترجمة القرآن بعد الفراغ منها وأضاف ما نقل إلى اللاتينية من كتابات مسيحيين عرب معادية للإسلام وأصدر الكل في مجموعة سميت مدونة طليطلة.
ومن التعرض إلى الكيفية التي تشكلت بها ملامح الخلفية التاريخية الخاصة بالأوضاع اللاهوتية والكنسية والثقافية، ننتقل مع مؤلفنا إلى استقصاء صورة لاسينج عن الإسلام، خاصة حين يقوم الأخير بترجمة كتابات فولتير حول الإسلام، بحيث وجد أن فولتير كوّن صورة إيجابية عن الإسلام وهو ما يتبين في قوله “لابد وأن نعترف أنه انتزع آسيا بأسرها أو تقريباً ممن الوثنية. وقد علم الإقرار بوحدة الإله واستنكر بشدة أولئك الذين أشركوا به آلهة أخرى، كما أنه حجّر الربّا وألحّ على الصدقة والزكاة وجعل الصلاة فرضاً لا مناص منه وصير الاستسلام إلى مشيئة الإله والتسليم بالحقائق الأبدية منطلق كل شيء.
وفي ذات الفترة الزمنية يبدأ تحوّل في الموقف الفكري الأوروبي من الإسلام، بحيث أخذت الصورة الجدلية المشوهة عن الإسلام في التراجع تدريجياً لدى الأوساط المثقفة، لتفسح المجال لمنحى جديد مغاير في تقييم الإسلام والحكم في شأنه بما يتلاءم مع الواقع التاريخي، وبالنظر إليه باعتباره عقيدة عقلانية وظاهرة دينية وحضارية ذات أهمية قصوى في تاريخ العالم، ويعود الفضل في هذا التحول التدريجي إلى رجلين من أهل الاستشراق.
موضوعية ودقة
ثمّن لاسينج مجهود هذين الرجلين، لما أسهما به في توضيح صورة واحد من الديانات السماوية الهامة التي كان له أكبر الأثر في التاريخ، أما عن الرجلين فهما المستشرق الهولندي أدريان رلاند (1676 - 1718) والآخر جورج سايل (1697 - 1736). حيث نلمس لدى الأول قدراً كبيراً من المقاربة التاريخية المدققة في معالجته للإسلام، وقد وصفه الخبراء بالاستعراب والإسلاميات بكونه ريادياً ومنهم يوهان فوك.
ومن بشائر توجهه نحو الأمام وانفتاحه على عهد جديد أن يقوم كتابه الصادر سنة 1705، باعتباره مؤلفاً أوروباً، على فهم المسلمين لذاتهم، وأن يسعى فضلاً عن ذلك إلى تعديل طائفة من الآراء الخاطئة والشائعة عن الإسلام من حيث هودين.
أما سايل، والذي ولد في لندن ونشأ في محيط الجمعية التبشيرية وتعلم العربية على أيدي نصارى عرب، وهو ما مكنه من اعتماد النص العربي رأساً في ترجمة القرآن كما أنه استعان بالترجمة اللاتينية التي وضعها الإيطالي ماراتش، والتي جاءت عوضاً عن ترجمة بطرس الجليل التي سبق وأن تبناها قبل عدة قرون. هنا يشير المؤلف إلى أن ترجمة سايل التي ظهرت في طبعتها الأولى سنة 734 تميزت حسب رأي أهل الخبرة بشيء من النقاوة المتزنة، لم يراع فيها سوى نقل معاني الكتاب نقلاً واضحاً جلياً.
وإلى الآن لا تزال مقدمة ترجمته تستميل القارئ بما انطوت عليه من مستوى رفيع من الموضوعية والدقة. وقد تناول فيها صاحبها بإسهاب ووضوح نشأة الإسلام وكنهه وانتشاره بالعرض، بداية من الجاهلية إلى فترة انقسام الإسلام إلى فرق ومذاهب عقدية شتى وشدد سايل على وجه الخصوص على فضل هذا الدين في عودة مبدأ وحدة الإله إلى مركز الصدرة، وذلك بقوله “إن جوهر تعاليم القرآن هو الإقرار بوحدة الإله، وقد كان فرض هذا المبدأ من جديد الغاية الرئيسية من محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومن الحقائق الأساسية التي عمل على إعادة إحيائها أن ليس هناك سوى دين حق واحد وأنه سوف لن يأتي غيره على الإطلاق”.
رد الاعتبار
انطلاقاً من المواقف السابقة يتجه لاسينج صوب رد الاعتبار إلى الإسلام عبر مؤلفه الصادر عام 1754 بعنوان “إنقاذ هرونيموي كردانوس”، حيث ذهب لاسينج في كتابه إلى تقمص دور المسلم المعبر عن وجهة نظر الإسلام في عديد من القضايا، وذلك في مطارحته لأفكار الفيلسوف الإيطالي كردانوس الذي تعرض للديانات السماوية وحاول المقارنة بينها، غير أن ذلك شابه كثير من المغالاة تجاه الأديان الأخرى لحساب المسيحية التي ينتمي إليها كردانوس.
ويقول لاسينج على لسان المسلم في كتابه مخاطباً من هاجمو الإسلام من مسيحيي ذلك العصر إن “النبي نفسه لم يتوصل إلى فتح عيونكم إلا بنصيب وأنت تنتظر مني أن أقوم بذلك؟ حسبك أن تلقي نظرة على سنته! فهل تجد شيئاً لا يتفق مع مقتضيات العقل مهما كان صارماً؟ إننا نؤمن بربّ واحد أحد، كما نؤمن بحساب وعقاب لا ريب فيهما جزاء أفعالنا. بهذا نؤمن أو، بتعبير مغاير حتى لا أستعمل لفظك الدنس، إننا على يقين من صحّة ذلك ولا شيئ سوى ذلك. فهل أدركت الآن ما يتعين عليك فعله إن رمت مساجلتنا؟ يتعين عليك أن تبرهن على اختلال تعاليمنا! أن تأتي بالدليل على أن الإنسان ملزم بأكثر من أن يعترف بالله وأن يكون فاضلاً؛ أود، على الأقل، على أن تبيّن أن العقل لا يقدر أن يعلم الإنسان هذين الأمرين، رغم أنه أوتي العقلَ لأجل هذا”. ثم يعرج المؤلف في نهاية الكتاب على الحديث عن مسرحية لاسينج الخالدة” ناتان الحكيم” التي ابدعها في القرن الثامن عشر وأجمل فيها آراءه حول التعايش بين الأديان، وتضمنت شخوصها أطراف الديانات السماوية الثلاثة، ورسمت صورة صريحة لإمكانية تجاورهم وتعايشهم، وهو ما كان عليه الحال في مدينة القدس تحت الحكم العربي الإسلامي لمئات السنين.
ناتان الحكيم
تجري أحداث “ناتان الحكيم” في القدس، ولاسينج أيضاً هو الذي اختار هذا الموضع الذي هو بالنسبة إلى اليهود والمسيحيين والمسلمين موضع ذو دلالة رمزية عميقة. لذلك فالمسرحية تجمع آراء لاسينج في أمور اللاهوت والدين. فالكثير من الأغراض اللاهوتية الكبرى في حياته عاد هنا مرة أخرى فظهر في شكل شعري فريد النوع: التسامح مع العقائد الأخرى ونقد التقاليد اللوثرية المتزمتة المتأخرة وتجاوزها ونقد المسيحية ورؤية لضرب جديد من المسيحية والإنسانية في التدين وبفضله.
جنة أرضية
“ألف شكر لله من أجل مسرحيتك ناتان عزيزي لاسينج. فمنذ أمد طويل وطويل جداً لم يسل ماء مسكر في صحاري الرمل الجافة فأنعشنا مثل هذا الذي كتبت. فهل نحن سعداء بذلك؟ فمثل هذا اليهودي ومثل هذا السلطان ومثل سيد الهيكل هذا ومثل (رشا) هذه وست أي بشر هم هؤلاء. ربي. ليت الكثير منهم يلدهم آباء عاديون. من منا لن يحب عندئذ أن يحيا في هذه الأرض لكأنه يعيش في الجنة ذلك أنه مثلما أشرت وأنت على حق تام فالإنسان يبقى دائماً أحب إلى الإنسان من الملاك. لقد وفيت بوعدك: لقد صارت ناتان من أكثر مسرحياتك وقعاً”.
من رسالة إليز صديقة لاسينج إليه في سنوات عمره الأخيرة
المصدر: أبوظبي