الفاهم محمد

عادة ما ننسب الأسطورة إلى المراحل الأولى لتطور الفكر البشري والحضارة الإنسانية، ففي هذه المراحل كانت الفلسفة لم تولد بعد، كما أن العلوم ليست سوى ممارسات غامضة مختلطة بالسحر، لذلك فنمط الفكر الوحيد السائد هو الفكر الأسطوري. لقد كانت الأسطورة المجال الوحيد الذي ينهل منه الإنسان أفكاره الأساسية، حول الكون والوجود وأسباب نشوء الظواهر الكونية الرئيسة مثل الولادة والموت والمرض والكوارث الطبيعية... لهذا السبب لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد وهم وخيال لا أساس له من الواقع، ما دمنا نلاحظ حضورها القوي في جل الحضارات، كالحضارة الهندية والمصرية القديمة والصينية وغيرها. وما دامت هذه الأسطورة أيضاً قد لعبت الدور الأساسي في تنظيم حياة الإنسان الاجتماعية {أي بينه وبين أخيه الإنسان} والطبيعية، {أي بينه وبين الكون}.

إذا كانت الأساطير قد ارتبطت بالحضارات القديمة، فلماذا نلاحظ عودتها في حضارتنا المعاصرة؟ وإذا كانت الأسطورة ظاهرة ثقافية قديمة - كما يُعتقد - فلماذا تثابر على الوجود رغم التقدم الحضاري؟ ما الفرق إذن بين أساطير الأمس وأساطير اليوم؟

الأساطير لا تموت
تأخذ الأسطورة شكلاً صلباً يأبى الانحلال داخل التاريخ، بمعنى أنها تظل غير قابلة للذوبان في سياق التقدم الحضاري، فهي يمكن أن تتغير أو تتحول شخوصها، وتتداخل مع نصوص وأساطير أخرى، لكنها على الأرجح لا تموت. لا يمكننا إذن أن نتحدث عن نهاية الأسطورة كما يدعي ميسلان، الذي يرى أنه نتيجة التقدم الاجتماعي يجد المجتمع نفسه يعيش هذه الصدمة بين وحدة البشر وبين العالم الذي يعيشون فيه، حيث نتيجة هذا الانشقاق هو أن: «الأسطورة تندحر نحو المجال الديني، في حين الفعل الإنساني يتجذر أكثر فأكثر في المجال اللاديني» (1) بمعنى أن تطور المجتمعات ودخولها في سيرورات تحديثية تجعل الأساطير مجرد تراث تاريخي لا غير. على عكس هذا المنظور نلاحظ اليوم العودة القوية للأسطورة، ضد النظرة التي تدعي أن المجتمعات الصناعية قد تجاوزتها تماماً.
ولكن إذا كان التحديث في اعتقاد الكاتب يقضي على الأساطير، لماذا إذن نلاحظ ولادة أساطير جديدة من داخل المجتمعات الحديثة؟
يشير روجيه غارودي، مثلاً، إلى أن إسرائيل لم تستطع أن تعلن عن حضورها إلا بفضل عملية إحياء وتحيين هائل للأساطير اليهودية القديمة، وابتكار أساطير جديدة من واقعها السياسي القريب [أسطورة أرض الميعاد ـ شعب الله المختار ـ أسطورة الهولوكوست ـ أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ...].
الأمر إذن لا يتعلق «بنزع الأسطرة « كما يدعي ميسلان، هذه العملية التي جعلت إسرائيل تتخلص من تاريخها الدوري وتتجه نحو تاريخ خطي يسير إلى الأمام ويبتعد عن النبوءات الإبراهيمية. نحن مع إسرائيل نلاحظ أن التاريخ نفسه يتحول إلى أسطورة وأن عملية «نزع الأسطرة» هي في الحقيقة إفراط في الأسطرة لن تكون نتيجته سوى: «استغلال ماض أسطوري يوجه المستقبل نحو ما يمكن أن يكون بمثابة انتحار كوني». (2)

حداثة الأسطورة وأسطورة الحداثة
قد تغير الحداثة وجه الأسطورة، لكنها لا تقضي على مضمونها الذي تتم صياغته بلغة جديدة وفي سياقات غير منتظرة. إن المناطق المجهولة والغامضة التي يتم غزوها من طرف العلم سرعان ما تولد مناطق الظل الخاصة بها، حيث تجد الأساطير مرتعها، لذلك ثمة مجازفة كبيرة في القول إن: «إمكانية إحداث إلغاء الأسطوري هي من طبيعة العقل البشري» (3).
لا يعني هذا بطبيعة الحال أن نترك الأساطير تكتسح أذهاننا، إذ في زمن الذرة والخلية والأقمار الاصطناعية يبدو أنه من غير اللائق الاعتقاد في الأساطير. ولكن المقصود من كل هذا هو ما أبانه روجيه غارودي من أن ارتقاء الوعي الإنساني من شأنه أن يستلهم هذه الأساطير العظيمة في التراث الإنساني، مثل الرامايانا في الهند أو الإلياذة والأوديسة في اليونان أو غيرها حينها تظل هذه الأساطير موحية بقوتها الدلالية، وحاملة لقيم إنسانية تتعلق بالنبالة والحب والسعادة. فأن تتم قراءة الأسطورة في ضوء التاريخ شيء، أما أن نقرأ التاريخ في ضوء الأسطورة فهو شيء آخر.
وبمعنى آخر، ينبغي الحذر من أن نمنح للأساطير دلالة أنطولوجية كما لو أن مكوناتها ينبغي أن تتجلى في الواقع، بل ينبغي بالضرورة التمييز بين المستوى الرمزي والمستوى الأنطولوجي، ماعدا ذلك فإننا سنحول الأساطير إلى إملاءات تخاطب مباشرة المعطى الواقعي، وهذا بطبيعة الحال من شأنه أن يخلق تجاوزات قد تكون فظيعة أخلاقيا وسياسيا.
نستطيع أن نقول إذن إن الأساطير وككل الإنتاجات البشرية هي عرضة للتحولات الكبيرة التي عرفها التاريخ، ولكن بينما الأسطورة تتراجع فإن عملية الأسطرة تعرف ازدهاراً، وهي تختفي مندسة في العديد من المجالات ذات الطابع الحداثي. ثمة أساطير تختفي وراء العلم وأخرى في السياسة، بل يوجد بعضها داخل الفكر الفلسفي ذاته.
يقدم أليكسي لوسيف (4) العديد من الأمثلة لتوضيح كيف أن مفكري الأنوار مثل ديكارت يخفون داخل أنساقهم الفلسفية العقلانية، ووراء انتصاراتهم للمعرفة العلمية أساطير كامنة. فديكارت - مثلا - بإعلائه من فكرة الذات المفكرة، وجعلها أساس الحقيقة لم يكن في الحقيقة ينتصر سوى لميثولوجيا الذات الفردية، التي أصبحت مميزة للثقافة الأوروبية خلال هذه المرحلة.
يبدو هذا الأمر مفاجئاً إذ كيف يمكن أن ننظر إلى الفكر الأنواري باعتباره حاضنا للأساطير، وهو الذي اعتبر دائماً فكراً عقلانياً يتنافى مع أي مضمون أسطوري؟
ولكن ألم يسبق لأدورنو ودوركهايمر في كتابهما الشهير: «جدل التنوير» أن ربطا بين التقاليد الأنوارية والأساطير؟ حيث أوضحا أن الأنوار قد انقلبت إلى ميثولوجيا. بل أكثر من ذلك من خلال إعلاء فكرة الذاتية وفكرة السيطرة والمبدأ الكلياني للعقل، وغيرها من المفاهيم الشهيرة التي ميزت كتابات ديكارت وكانط وهيجل، لم تكن الأنوار في حقيقة الأمر تفعل شيئا آخر سوى أنها تهرب من قول ما هو أساسي. أو كما أشار هابرماس في معرض نقده لموقف الكاتبين: «يفهم دوركهايمر وأدورنو الأنوار بوصفها محاولة بائسة للهروب من قول المصير» (5).
ما هو أساسي إذن هو قول المصير ولكن ما معنى ذلك حقا؟

الأبدية والسقوط
بالنسبة لهابرماس قد يكون المصير هو هذا الأفق المحزن الذي وصل إليه العقل الأنواري، وهو يتخلى عن طابعه النقدي لكي يتحول إلى عقل أداتي وليس تواصلياً، غايته القصوى هي السيطرة على الطبيعة.
إن «اللامعقول» الذي تعرضه الأسطورة لا يمكن النظر إليه كذلك باعتباره «لا معقولا» إلا من وجهة نظر علمية متحمسة، والحال أن اللامعقول في الوقائع والأحداث التي تعرضها الأسطورة هو من وجهة نظرها إشارة إلى ما لا يمكن اختزاله وفهمه بلغة العقل، أي أنه إشارة إلى الجانب الدراماتيكي للوجود، وهو نفسه الجانب الذي حاولت الفلسفة الأنوارية تجاهله وتفاديه. إن الأسطورة تسمي ما هو غير قابل للتسمية، تقول كارين أرمنسترونغ: «الأسطورة تدور حول المجهول. حول أشياء لا نملك منذ البداية كلمات للتعبير عنها، تنظر الأسطورة في قلب الصمت الكبير « (6).
إن الأسطورة تقول إذن ما لا يمكن أن نقوله بلغة العقل، فحقيقتها توجد خارج اللغة. إنها تقول إن الإنسان يتألم ويسقط عميقا في الغموض، ويبدو أن تجربة السقوط والمعاناة هاته هي التي تُفضَّل في نهاية أي تحليل فينومينولوجي للأساطير.
إن ما تتحدث عنه الأسطورة هو الأبدية، والأبدية ما هي إلا الزمان الذي يقع خارج الزمان، أي زمان البدء الذي لا يمكن استعادته. إن الأبدية هي التي سمحت للحاضر بأن يكون موجودا، لكن الأبدية نفسها لا يمكن أن تتحول إلى حاضر. أن تنتصب الأبدية في الحاضر وتحل داخل التاريخ، فتلك هي الأوهام التي تحاول الأساطير المعاصرة أن تغرسها في الأذهان، لكنها بذلك لا تصنع سوى مأساة الحياة المعاصرة وآلامها.
أن يعيش الإنسان الأبد، وأن يخاطب الأبدية معناه أن يلتقط الوجود ككل، أن ينفلت من فخ الزمان التاريخي، وشرك اللحظة وارتهاناتها، أن يقرأ الرمز كرسالة إنسانية، أن يفكر في وحدة الجنس البشري رغم الاختلافات العديدة التي أججتها السياسة والاقتصاد. وإذا كانت هذه الوحدة قد تحطمت داخل التاريخ وصنعت تمزقاته، فإن النظر إلى الأبد من خلال الرمز الذي تحضنه الأسطورة يفيد في تملك هذه الأسطورة بدل أن تملكنا هي. إن الأساطير المعاصرة تختلف شكلاً ومضموناً عن أساطير الأمس بالنظر إلى أن هذه الأخيرة كانت معنية بدرجة كبيرة بتصوير مسألة الانفصال، سقطة الوجود الأبدية. أما أساطيرنا اليوم فهي من خلال إعلاء مسألة الذاتية المطلقة تعتقد أنه بإمكانها عقلنة هذا الانفصال، أو ربما تجاهله وتقديم بديل عنه، لذلك لاحظ إرنست كاسيرر (7) بحق أن الأساطير القديمة إذا كانت تنبع من الخيال، فإن أساطيرنا هي على العكس من ذلك موجهة بوعي وإرادة، يقول: «لقد وصفت الأسطورة دائما بأنها نتيجة لفعل لاشعوري، وبأنها نتيجة لانطلاق الخيال، ولكننا في الأساطير السياسية الجديدة نرى الأسطورة تتبع مخططا فهي لا تظهر عشوائيا، إنها ليست ثمرة شيطانية من صنع خيال خصب. إنها أشياء مصنوعة قد صنعها صناع مهرة ماكرون إلى أبعد حد» (8).
ينطبق هذا على الأساطير المؤسسة للكيان الصهيوني، وقبلها الأساطير المرتبطة بالمركزية الأوروبية وما تلاها من استعمار وحروب عالمية، وادعاء مزعوم لتفوق الرجل الأبيض. أما حالياً فليس هناك مثال أنصع من الأساطير التي يؤججها التطرف الإرهابي.
.............................
الهوامش

1 ـ ميشيل ميسلان، علم الأديان مساهمة في التأسيس. ترجمة عز الدين عناية، ص 274.
2 ـ روجيه غارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ترجمة جريدة الزمن، ص 56.
3 ـ ميسلان، علم الأديان، ص 301 .
4 ـ أليكسي لوسيف: فلسفة الأسطورة، ترجمة منذر حلوم، ص 93.
5 ـ يورغين هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ص 183.
6 ـ كارين أرمنسترونغ. تاريخ الأسطورة، ترجمة وجيه قانصو، ص 9.
7 ـ إرنست كاسيرر: الأسطورة والدولة. ترجمة أحمد حمدي محمود، ص 372.
8 ـ المرجع السابق، ص 372 .