حنا عبود

عندما ينكبّ الفنان على إنتاج سجادة، فإنه يجعل فيها من المنمنمات زخارف مما يزخر به عقله الفني، ومن المشاهد الجميلة التي التقطتها عيناه، فتخرج السجادة لا مثيل لها. و«إنياذة» فرجيل سجادة شعرية لا مثيل لها مع أنها جمعت بين ملحمتي هومر: الإلياذة والأوديسة. وكان هذا الجمع شاملاً، لم ينس شيئاً، لا المغامرات البحرية ولا المعارك البرّية، لا الحب ولا الكراهية، لا الأسرة ولا القبيلة، لا الواقع ولا الخيال، لا المشاهد العابرة الجميلة، ولا المشاهد الضخمة الجليلة... وأهم من ذلك كله أنه لم يتخل عن الأسلوب الفخم، سواء باللغة اللاتينية أو بأي لغة أخرى نقلت الإنياذة إليها، فالفخامة لا تتجلى في الألفاظ وحدها بل في تلك الصور المادية والمعنوية التي اهتم بها كل الاهتمام، مثل أي شاعر كلاسيكي يكرس لفنه كل جهده، إن لم نقل كل حياته. إنه يجهد ليكون متمكناً من قوانين الأدب الصارمة، التي يعتقد أن أي انحراف عنها يعني السقوط في هاوية النسيان.

أدرك فرجيل قوانين أدب الملاحم والشعر الرعوي من أساتذته اليونانيين وأتقنها إتقاناً كبيراً، بل يمكن القول إن الرومان لم يتقنوا عن اليونان شيئاً أدق وأروع من فن الملحمة، فعلى سبيل المثال كان مسرحهم سطحياً، ولم نشعر أنهم صبغوا هذا المسرح بصبغة رومانية كما في ملحمة فرجيل العظيمة، التي ربما كانت الأثر الأدبي الأوحد في العصر الوثني الذي يحمل هوية الرومان. وهي تروي مغامرة البطل إينياس، في رحلته إلى إيطاليا.

عبقرية الاختيار
أحسن فرجيل الاختيار، فانتقى من شخصيات ملحمة «إلياذة» هومر «إينياس» وجعله بطلاً يقود شعبه إلى وطنه الأصلي، أرض الميعاد، إيطاليا. إنه شبيه بالنبي موسى، فيضل في البحر كما ضلّ موسى في الصحراء. وبهذه الطريقة ضمن للرومان، وكانوا قديماً من القبائل المتخلفة جداً، بطلاً يتغنون بأصله، ويفخرون بنضاله، ويقتدون بوطنيته. وجعل بطله من أجداد الإمبراطور الجديد أغسطس قيصر، فأكبر فيه القيصر هذا العمل وأكرمه كثيراً حتى أن طلبه لا يرفض. وحتى يؤكد أن «إينياس» من الأبطال الأسلاف لأغسطس قيصر، قام بطله بزيارة الجحيم، وذهب من هناك إلى حقول الإيليزيه، وصادف أباه الذي عرض أمامه الأحداث القادمة، وكيف سيظهر الإمبراطور العظيم أغسطس. وبهذه الرحلة قام بمنافسة هومر من جهة، وبكسب محبة القيصر الجديد، من جهة أخرى. ولا نظن أن أحداً قدّم قيمة معنوية للرومان كما فعل فرجيل، الذي حتى اليوم يحظى بأعظم تبجيل. ونكتفي بهذين الاختيارين، لأنهما الأبرزان في ملحمته فقط، أما بقية الاختيارات فكانت موفقة، ومعظمها يحتاج إلى مزيد من الجهد حتى يتضح.
إن ما اختاره فرجيل يشي بحس مرهف، فقد أبدع التاريخ الأسطوري للرومان، فهم- إذن- شعب جاء من سلالة الطرواديين بعد تزاوجهم بشعب إيطاليا، اللاتين. وبذلك يكون قد نفى البربرية التي كان الإغريق يلصقونها بكل الشعوب غير اليونانية. ويفخر الإيطالي اليوم بأصله الطروادي رافعاً رأسه، مفضلاً التاريخ الأسطوري على التاريخ الواقعي. ولا ننسى أنه يقتدي بملحمتي هومر اقتداء المنافسة لا اقتداء التبعية، فقد أراد أن يكون لملحمته شخصيتها وخصوصيتها، ولكن أين المفرّ، وقد سيّج عليه هومر برّاً وبحراً، فالقسم الأول من الإنياذة هو قسم بحري يشبه الأوديسة، بينما القسم الثاني رصد الحروب البرية، كما في الإلياذة، تماماً وإن اختلفت الشخصيات والأحداث.

أول ملحمة رومانسية
الأسلوب اليوناني أسلوب واقعي، يعكس ما يعمل فيه الناس وما يفكرون، وهو ليس بعيداً عن الإبداع، بالعكس، إنه أول المبدعين في العالم- ربما- أو لنقل إنه أول المنظمين والمنسقين وواضعي الأسس والقواعد. أما الأسلوب الروماني، فهو أسلوب أقرب إلى الأسلوب العبري، فيه الكثير من المبالغة. وهكذا يكون معنى كلامنا أن الأسلوب يكون واقعياً إذا ابتعد عن المبالغة، فيعالج الواقعي والخيالي والوهمي من دون صخب أو تهويل أو ابتزاز لعاطفة القارئ، بينما الأسلوب العبري أقرب إلى الرومانسية لما فيه من مبالغات. وأسلوب فرجيل ربما كان أكثر شططاً ومبالغة من الأسلوب العبري. وفي هذا الحيّز الضيق نكتفي ببعض الأمثلة الكافية لتكوين فكرة عن أسلوب فرجيل وكيف يختلف عن أسلوب هومر كل الاختلاف، وإن اعتمد على ملحمتيه منطلقاً واختياراً وتركيباً نحو إبداع ملحمة رومانية حقيقية. ومن مبالغاته أنه يجعل ملكة قرطاجة «ديدو» تنتحر بسبب تخلي إينياس عنها، فتحرق نفسها، وربما يسوّغ هذا العمل فنياً، فلا حاجة للانتظار حتى تدرج موضة الانتحار بسبب الحب، بل إن قراء «آلام فرتر» صاروا ينتحرون في أوروبا، ليس حباً، بل تضامناً مع المحبين البائسين، غير أن هناك مبالغات أخرى لا مسوّغ لها سنكتفي بالقليل منها في هذا المقام.
لنستمع إليه في النشيد الثامن يقول عن النهر:
وفي الليل التالي، والنهار الذي أعقبه،
هدأ تيبر من مياه نهره وجعل سطحه ناعماً:
جعله يجري إلى الوراء، واتزن في وقفته،
وسرى النهر عارماً لطيفاً مسالماً آمناً.
امتطى الطرواديون سفنهم، وأنزلوها من الشاطئ،
واعتلوا الأمواج، وجدفوا بسهولة.
أراد أن ينافس هومر، فجاء بما يمجّه القارئ الرزين. إن هومر جعل رب النهر (أي النهر) يضج من غزارة الدماء المراقة والقتلى الذين اختلطت أشلاؤهم، فجاشت أثباجه وفاضت جوانبه على الضفاف، وراحت الأمواج ذاتها تؤذي الجنود. الفرق كبير بين الصورتين، ولكنها المنافسة الفنية المشروعة، التي جعلت فرجيل يشطح هذه الشطحات الكبيرة جداً. إن الأسلوب الإغريقي لا يأتي بما يخالف قوانين الطبيعة عندما يصف شيئاً واقعياً يتعامل الناس معه.
لننتقل الآن إلى النشيد السابع، حيث نجد الشاعر يصف كاميلا الجميلة، وهي من أنصار ديانا، ومن تابعات أثينا المحاربة، كيف تقدمت تحارب بكل جرأة، بجريها السريع وحركاتها التي لا تكاد العين تلاحقها:
وفي مقدمة الجميع تقف المرأة المقاتلة تحارب،
تكافح بذراعيها باحثة عن المخاطر،
تسابق الريح في السهل مهما كانت الريح سريعة،
فتعدو على الحقول، دون أن تؤذي السنابل النامية:
تطير فوق البحار، وهي تسبح،
فقدماها السريعتان لا تبتلان في الموج العالي.
هكذا إذن، فبدلاً من سرعة أخيل التي وصفها هومر، يقدم فرجيل هذه الصورة ليجعل كاميلا تركض فوق السنابل فلا تميل سنبلة تحت قدميها، وتطير فوق البحار سابحة، من دون أن تبتل قدماها بالماء!
وفي ألصق الصور بالواقع يبقى فرجيل على عادته في المبالغة. ففي النشيد التاسع هناك جبار يهوي صريعاً إلى الأرض، فيصفه فرجيل على النحو التالي:
فهوى المارد أرضاً بصوت مرعد:
وخبطت أطرافه الثقيلة الأرض المرتجة،
وانفجر الدم والدماغ والزبد من الجرح الفاغر:
وقد فلع الفولاذ فروة الرأس والوجه والكتفين،
وبقي المظهر المشترك معلقاً من الطرفين.
إنها مبالغة مفرطة جداً قلما نلمح مثيلاً لها، إلا في ملاحمنا الشعبية أمثال التغريبة والزير سالم والأميرة ذات الهمة وحمزة البهلوان... فالصورة التي يتعامل معها فرجيل واقعية جداً، ولا حاجة إلى نثر هذه الأشلاء، بلا خدمة فنية للنص، فقد وجدنا أن النص لم يتأثر بهذه المبالغة. إن وحدة الموضوع عند فرجيل لا تصل إلى نهايتها عندما يتناول التفاصيل الصغيرة. بالطبع يجب ألا ننسى أن «الإنياذة» هي أول محاولة لتقليد هومر، فخشي فرجيل ألا ينجح في ذلك فعمد إلى المبالغة. «الأرغونوتيكا» ليست تقليداً لهومر، بل إنها إعادة إحياء لتراث يوناني قديم يدور حول بطل اسمه جاسون اغتصب عمه السلطة واشترط عليه أن يأتي بالجرة الذهبية من بلاد الكولخيس حتى يسلمه مقاليد السلطة، فجمع أبطال اليونان، ومنهم والد أخيل بطل الإلياذة، وأنخيس والد إينياس بطل الإنياذة، وذهب إلى بلاد الكولخيس وعاد بالجرة الذهبية واستلم العرش لأبيه، ثم له، بعد زواجه من ميديا بنت ملك الكولخيس... الخ. صحيح أنها مغامرة بحرية، ولكنها ليست مقلدة لشيء سابق، أراد أبولونيوس الروديسي أن يحييها، تحدياً لعلماء مكتبة الإسكندرية بأن «ما فات مات، ولن يعود إلى الحياة». ومع أن الميثولوجيا الرومانية هي ذاتها الميثولوجيا اليونانية، إلا أن الرومان نحوا منحى مختلفاً، فلم يجيدوا استخدام مفردات الميثولوجيا باعتبارها رموزاً لمفردات الواقع.
من كل ما سبق لا نعني أن فرجيل ابتدع «ثورة» في الأسلوب، فالثورة الرومانسية لم تظهر وتصبح تياراً كبيراً إلا بعد منتصف القرن الثامن عشر. بل لو نظرنا في كتبه الأخرى لما وجدنا هذه المبالغة، أو لم يبالغ إلى هذا الحد، ففي رعوياته تبدو الرومانسية من خلال المشاهد الطبيعية والحياة الزراعية، وليس من خلال الأسلوب المطنب المشتد في المبالغة.

الإنياذة والتنميط
في كل ما كتبه هومر لا نجده يفضل الإغريق على الطرواديين لا من حيث الفرد ولا من حيث العرق، فهكتور شخصية أدبية يضاهي أخيل وأكثر، بينما في «الإنياذة» لا نجد هذا الأدب المحايد الذي يتوخى الجمالية الفنية قبل أي شيء آخر. إنها فاتحة نمط كبير هو أدب الحرب والحب، فلا توجد حرب إلا ورافقها حب. سوى أننا يمكن أن نضيف شيئاً آخر إلى هذا النمط وهو الفخر بالأعراق، وقد لاحظنا هذا في الأدب، وبخاصة في أدب الاستقلال، حيث كل السيئات تنصب على الأعراق المناوئة، وكل الحسنات تضفى على الشعب الوطني، فالعبقرية والماضي المجيد والتراث التليد والشرف والكرم والإخلاص... هو من حكر هذا الشعب الوطني... وفي فترة الحرب الباردة انتعش هذا الأدب، فصارت قصص الحرب العالمية، سواء الأولى أو الثانية، أو الحرب بين البيض والحمر، تقدم لنا نوعاً من النكهة الرومانسية، وهي إدخال قصة حب ضمن معمعان الحرب، وهذا ما نجده في «الحرس الفتي» و«الأوبكوم السري» و«بالحب»... وبالطبع لا يقاس هذا على الواقع، فقصص سور برلين الذي أقامه خروشوف، التي تظهر الهرب والقفز عن السور حباً بالشعب الألماني العظيم، كثيرة جداً، مع أن الهرب والقفز من على السور قد يكون لأغراض أخرى... في «الإنياذة» كل شيء من أجل الرومان، فحتى الشابان اللذان راحا يتجسسان على معسكر العدو، يوم أرادوا الوصول إلى إينياس لإخباره بما يحصل، وهي من القصص الرومانسي المبكر، إنما ذهبا من أجل عظمة هذا العرق العظيم. وفي الحرب الباردة كثرت قصص التجسس، ولكن هذه المرة كانت تأخذ مادتها من الواقع، فما أكثر جواسيس الشرق والغرب! وحتى الروايات التاريخية التي ظهرت في عصر النهضة إنما كانت ترمي إلى ما رمت إليه «الإنياذة» من تكريم وتأصيل الشعب العريق الذي قدم للعالم الحضارة والرقي، وسوى ذلك ما يشكل أساس الشعور القومي، حقيقياً كان أو وهمياً.