أحمد عثمان (باريس)

توفي الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل سير، مساء السبت الأول من يونيو، عن عمر يناهز الثامنة والثمانين عاماً، محاطاً بعائلته، كما صرحت ناشرته صوفي بونكار.
كان سير فيلسوفا من طراز خاص: أخلاق صعبة، عاشق للعلم والمعارف، عقل موسوعي، يستعمل الكلمات بحساسية عالية، مفكر كبير للتقاليد الشفاهية، معلم قبل أن يكون بروفيسورا، وأيضاً... مهرج وممثل.
لم يزل كثير من طلابه، وبالأخص القدامى، يتذكرون الطريقة التي كان يبدأ بها دروسه: «آنساتي، سادتي، أنصتوا جيداً، ما تسمعونه اليوم سوف يغيّر مجرى حياتكم».. وفي واقع الأمر، مع الخروج من درسه، تتغيّر الدنيا، تصبح أكثر بهجة.
ولد ميشيل سير في الليزيير بإقليم غاسكوني في الأول من سبتمبر 1930: «لا يصبح المرء نجماً وإنما يولد نجماً»، كما قال. لم يتأخر عن ممارسة كثير من الهوايات: الرجبي، الموسيقى، وغيرهما. قرر الالتحاق بالمدرسة العسكرية البحرية، غير أنه لاحظ عدم قدرته على أن يكون عسكرياً. استقال، ورجع إلى المدرسة المدنية ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا. ما هو هدفه؟ أن يكون فيلسوفاً. وهكذا بدأ مسيرة أكاديمية تقليدية: بعض الوقت في الأقاليم «كليرمون-فيرون، مثلا»، ثم العاصمة «وهذا لكي أتابع مباريات رولان غاروس»، بحسب قوله، في جامعتي باريس 8 وباريس 1. وفي نفس الوقت، بدأ سلسلة طويلة من الكتب، قاربت الستين كتاباً، وعدد لا يحصى من المقالات والمحاضرات غير المؤرشفة حتى اليوم.
صدر كتابه الأول «نسق لاينتز ونماذجه الرياضية» في لحظة تاريخية حرجة: ثورة الطلاب في عام 1968. في هذا الكتاب، يذكر أن سير كان من أوائل من أدخل مصطلح البنية إلى تاريخ الفلسفة. وبذا، رآه البعض بنيويا. بنيويا، كيف وهو يكره الموضات، ويردد: «الفيلسوف الذي يحترم نفسه عليه أن لا يقرأ معاصريه»؟ ميشيل سير تلميذ نجيب لأستاذه غاستون باشلار، الذي كان مشرفاً على دبلومه في الدراسات العليا، ويرفض الفصل بين مقدمات الفكر الفلسفي ومثيلتها الخاصة بالفكر العلمي. وهكذا انطلق في رحلته في محيط الكتب والمعارف.
في هذه الرحلة هناك خمس مراحل/‏‏ أجزاء توسم حياته: سلسلة «هيرميس» من 1969 إلى 1980 (مطبوعات مينوي). كل جزء من هذه الأجزاء ديوان من النصوص القصيرة، مكتوبة تحت عنوان مميز: الاتصال، التداخل، الترجمة، التوزيع. لم يكن سير بمفرده في تناول هذا النوع من الخطابات. كان عمله يقارب إلى حد كبير عمل لوي مارتان (1931 ـ 1992).
غير أن الأصداء الطيبة التي طالت الأجزاء الخمسة من «هيرميس» (وثلاثة أو أربعة من كتبه: «فتوة»، «نيران وعلامات الضباب»، «جماليات»، «ميلاد الفيزياء») لم تكن على مستوى طموحاته. في باريس، لم يكن ملتحقاً بقسم الفلسفة وإنما التاريخ، حيث كان يدرس تاريخ العلوم. ولهذا رأى نفسه «منبوذ» الفلسفة الفرنسية.
وفي هذا الشأن، لم يتردد في قبول دعوة صديقه رينيه جيرار (1923 ـ 2015) في التدريس بجامعة جون هوبكنز بالولايات المتحدة، بادئا حياته الأكاديمية الأميركية، التي ختمها في جامعة ستانفورد.
ولكن من ناحية أخرى، كان التعويض: بالنسبة للناشرين، كتابة ميشيل سير ذات قيمة مؤكدة، وبالنسبة لكثير من القراء، كانوا يثمنون خصوبة أفكاره، وهيئته المغوية (ذئب البحار).
ومع مرور الوقت، انتهى الفيلسوف بقبول الاحتفاء به: أصبح عضواً بالأكاديمية الفرنسية. جاذبيته المجنونة جذبت جمهوراً عريضاً نحو الفلسفة، وساعدت على ارتقاء بعض المؤسسات، مثل «مدونة النتاجات الفلسفية المكتوبة بالفرنسية».
حياته رحلة بحرية/‏‏ أكاديمية، رحالة دوما على الطريق وحكّاء جيد للتاريخ. فيلسوف نادر، وبطريقته الخاصة، حكيم، وبذلك، سوف نتذكره دوما.