قصيدة التراجيديا الإنسانية وأسئلة الوجود
بينما جعل محمود درويش، في قصيدته ''أنا يوسف يا أبي''، من النبي يوسف قناعا للإنسان الفلسطيني، ورمزا لمعاناته وعذاباته التي تسبب بها إخوته أو تركوه وحيدا فيها، فإن الإنسان العراقي في قصيدة ''نهار من دم الغزلان'' للشاعر علي جعفر العلاق هو من يحمل هذا القناع وذلك الرمز، بعد أن أسهم إخوته في خلق مأساته ثم تركوه وحيدا في بئره المظلمة·
بالطبع، فإن ثمة بين المأساتين تلاحما بحيث تصلح كل منهما للارتباط بهذا القناع الرمزي، ولكن لكل من الشاعرين أسلوبه في تناول المأساة، فدرويش بملحميته ذات الطابع الغنائي، والعلاق بصوره المكثفة والمختزلة في كلمات قليلة، ولكن كلا منهما يستطيع تجسيد المأساة وملامحها، وأن يعكس الحكاية التاريخية على الواقع، ويحمل هذا الواقع على جناح تلك الحكاية·
القصيدة هي واحدة من أجمل وأرق وأعمق قصائد ديوان العلاق ''سيد الوحشتين''، وإن كانت قصائد الديوان كلها من أعذب ما قرأت من شعر منذ سنوات، بدءا بقصيدة ''المجنون'' وصولا إلى قصيدته الأخيرة في الديوان ''أرض من الأضداد'' التي يهديها إلى الجواهري، مرورا بقصائد الديوان الثماني والعشرين التي تتنوع بين قصيدة التفعيلة الواحدة وقصيدة التفاعيل المركبة وقصيدة النثر، وللشاعر أسلوبه في التنقل بين هذه الأشكال، ويجيد خصوصا تركيب القصيدة ذات الوزن الصعب المركب من تفعيلتين·
قصائد الديوان تحفل بما هو ذاتي، لكن نبرة الوطني العراقي هي التي تطغى عليها، تطغى نبرة الوحشة واليأس والمتاهة والحيرة والوهم والضحايا والدماء والوحدة والعزلة· فمنذ البداية ثمة تساؤل لمجنون ليلى ''من ترى/ أوصلك اليوم إلى هذا المتاه/ لا خفاف الإبل الحمقاء قادتك إلى ليلى/ ولا هبت على معولك النائح/ أقمار المياه''· وفي تساؤل آخر نرى الصورة المحبوكة في حفر البئر بالإبرة، وهذا التناغم بين البئر والإبرة:
كيف أوغلت؟
حفرت البئر حتى بكت الإبرة
واشتد عليك الليل
حتى اختلط الحابل بالنابل
والموحش بالأهل
حتى بلغت حيرتك الكبرى مداها
مفردات تحمل البعد التراجيدي أساسا، لكنها تحمل أسئلة الوجود أيضا، أسئلة بين الوهم والحلم، وثنائيات ومتناقضات يحتشد بها هذا العالم، وبالعودة إلى قصيدة ''نهار من دم الغزلان'' نبدأ مع فعل الأمر الساخر ''عمقوا البئر/ ونادوا الذئب/ من أقصى النوايا المظلمة''، بما يوحي باستلهام قصة يوسف الذي ألقاه إخوته في البئر وادعوا أن الذئب قد أكله· وهو ما حدث للإنسان العراقي الذي ألقي في البئر واستدعي الذئب الأمريكي من قبل العراقيين والعرب لإنقاذه بالديمقراطية الدموية التي نشهدها·
ويواصل الشاعر رسم صورة الوضع الراهن، محاولا تعريف القضية بأن سبب القصة هو جمال يوسف، وبكلمة أخرى هو المزايا التي تميز العراق، فيقول ''تعبنا/ لتكن آخر بئر هذه البئر/ تراب أم فوانيس من اللوعة والياقوت/ ليل البئر غربان من الفولاذ تنقض/ على يوسف: هل يوسف/ طفل البئر أم حيرتنا/ الكبرى/ تعبنا من جمال شرس فيه/ تعبنا من أغانيه/ المدماة، ومن أيامه المحتدمة''''·
وفي القصيدة إشارات جلية إلى الدم العربي الذي صار ماء، رغم أن الكل يؤكد أن دم الأخ والشقيق لا يصبح ماء، وثمة إشارات أخرى إلى مدن مغتصبة وشقيق يفتك بالشقيق، وسؤال عمن يفتك بمن، وذلك كله عبر صور وتساؤلات شعرية تتمثل في قوله ''غنوا: دمنا ماء، وغنوا: بابل تغتصب الآن، وغنوا: أينا يفتك بالآخر؟''· ويكمل الشاعر بسطوع صورة يوسف ''ساطع يوسف، كفاه نهار من دم الغزلان''، ويختم القصيدة بالتساؤل ''كم تغنوا بصباه الشرس/ الفاتن، لكن/ هل تمنوا موته الساطع يوما/ هل تمنوا حُلُمَه؟''·
وعلى إيقاع ''مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن/ فعلن'' المركب يكتب الشاعر قصيدته ''حبر الوحشة'' التي يرسم فيها صورة الأسى والوحشة والبكاء· وهو يختار قافية الحاء المتحركة المضمومة بنجاح حيث يقول ''كنا مضيئين، بل كنا نفيض أسى/ وغبطة، وتغني حولنا الريح/ نعاسنا ممطر عشبا، ويقظتنا/ غمامتان/ وأيدينا المصابيح''· وفي قصيدته تبلغ حدة المأساة أن يقول ''أيها الرمح الذي/ يُعْول مثل الذئب، لم يبق نديم/ غير هذا الموت/ بين الرمل والذكرى''·
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإيقاع الآخر ذي الوزن المركب ''فاعلاتن/ مستفعلن/ فاعلاتن'' الذي يأتي في قصيدة ''لي بلاد أحبها وهي تنأى''، ذات التفعيلات المدورة حيث يقول ''حجبتها الحروب أدنو فتمضي/ مثلما الغيم كم غسلت حصاها/ بالشذا والدموع كم تركتني/ لذئاب التاريخ: تفتض روحي/ قسوة كم أحبها/ وجمال يتحدى الخراب/ حتام أدنو فتجافي/ أكلما جئت غابت؟''·
ومثلما هي مطالع قصائده حمالة دهشة ولافتة للروح، كما في مطلع قصيدته ''ما أوحش الكون'' التي يستهلها بالتساؤل ''ماذا سنفعل؟ لا غيم على أفق/ ولا جياد تضيء الليل··'' مستخدما الوزن المركب والدائري، كذلك فإن نهايات قصائده تأتي مفاجئة أيضا، فهو يختم هذه القصيدة كما يأتي ''ما أوحش الكون: لا ليلى ولا بردى··''·