حينما تصبح السلطة.. لغة
بدعم من وزارة الثقافة المغربية، صدر كتاب الصحفية منية بل العافية، “المرأة في الأمثال المغربية”، وذلك ضمن سلسلة المعرفة الاجتماعية التي تصدرها دار توبقال في الدار البيضاء. وبلوحة للفنان المغربي عباس صلادي التي تعكس طقوس شعبية مرتبطة بالوعي الجمعي العربي والمغربي.
والكاتبة تنبش في حياة المرأة المغربية من خلال الأمثال الشعبية، حيث شكلت عملية تجميع الأمثال المغربية التي لها علاقة مباشرة بالمرأة هدفها في هذا الكتاب، كما حددت مجال البحث في الأمثال المتداولة في المغرب، واعتمدت في جمعها كما تقول على “روايات من خبروها واستخدموها في حياتهم اليومية، ثم على بعض المراجع التي تناولت المثل المغربي تجميعا ودراسة، وعلى ما تقدمه وسائل الإعلام من برامج إذاعية وتلفزيونية ومواضيع مكتوبة تهتم بها أو توظفها”.
وقد انصب اهتمام الباحثة على كل ما له علاقة “بالأمثال الشعبية التي تتحدث بشكل مباشر عن النساء، الأمثال التي ورد فيها ذكر أو إشارة للمرأة، الأمثال التي يتضح من منطوقها ومعناها المباشر أن المتحدثة فيها امرأة، الأمثال المخاطبة للنساء سواء بصيغة الجمع أو المفرد”.
خصائص واختلافات
وتقول المؤلفة في تقديم كتابها: “واختيارنا لأمثال استهدفت النساء، أو حضرن فيها متحدثات، لا يعني أن باقي الأمثال لا علاقة لها بهن، فالعديد منها منفتح على أكثر من قراءة ويشمل النساء والرجال، غير أننا اقتصرنا، على الأمثال التي تستجيب لمعايير جمع المتن المشكل لصورة المرأة كما ينتجها هذا الخطاب”.
وتضيف المؤلفة: واجهتنا في مرحلة جمع هذا المتن، جملة من المشاكل والعوائق التي يمكن إجمالها في ما يلي:
ـ صعوبة تمييز المثل الشعبي عن التعابير الجارية التي يسميها المغاربة “المعاني” و”المعون”، بالنظر لتوفر عدد منها على جزء هام من خصائص المثل، بشكل يجعلها تلتبس معه في الكثير من الأحيان. لذلك، اعتمدنا في عملية الاختيار، على الخصائص المحددة للأمثال، وعلى التذوق التي اكتسبنا من التداول المكثف للأمثال في المحيط الاجتماعي المغربي، وكذا على دراستنا الميدانية لها بالنظر لاهتمامنا الخاص بها خلال سنوات طوال، بالإضافة للاستئناس بآراء من خبِروا عالم الأمثال الشعبية واستلهموا منه مادة لأحاديثهم.
ـ ورود نفس المثل الشعبي بصيغ مختلفة، بالنظر لاختلاف المناطق المغربية، فكان علينا أن نختار صيغة ندرجها في البحث مع الاستغناء عن باقي الصيغ المتشابهة، تجنبا للإطالة.
ـ صعوبة كتابة العامية المغربية، خاصة وأنها تختلف من منطقة مغربية لأخرى مما عقد عملية الكتابة، وحتى الشرح أحيانا.
صور ثابتة
تشير الباحثة إلى أن الأمثال الشعبية التي اختارتها في هذا الكتاب “ليست سوى نماذج للصور المتداولة حول النساء وعلاقتهن داخل المجتمع، والتي تحمل أفكارا وتمثلات ومفاهيم نابعة من عمق التكوين الاجتماعي والعلاقات السائدة بين عموم الجمهور.
ولعل ما يمكن ملاحظته، وبشكل واضح، هو وجود صور ثابتة حول النساء تتكرر باستمرار وتشكل النمط المثالي الذي يرسمه حولهن، نوع التفكير السائد في المجتمع. وتهيمن على هذا النمط “النمط المثالي”، صور سلبية مستمدة من ثقافة تقليدية تعمل على تكريس الوضعية الدونية للمرأة في التراتبية الاجتماعية، كما أنها مستمدة من تفسيرات معينة للفكر الديني، وتأويل خاص للحكايات والخرافات، والتي يشكل قاسمها المشترك، تبرير المكانة المتدنية للمرأة في الهرم الاجتماعي وفي القيم الرائجة عنها. وحتى حينما تُذكر المرأة بشكل ايجابي، فإننا قلما نجد لها أية ميزات ايجابية أخرى، سوى تلك المرتبطة بجسدها و “أدوراها الطبيعية”. فمكانتها مستمدة من جسدها وجمالها وقدرتها على الإنجاب وعلى رعاية أسرتها وأطفالها ومهارتها في العمل المنزلي واليدوي”.
وتأمل الباحثة بمؤلفها هذا أن تكون قد وفقت في جزء من هدفها، المتمثل في “جمع المثل وطرحه وفق رؤية تنتقل به من منتج جعلته مميزاته ووضعيته في المجتمع، خارج نطاق النقد والمساءلة، وأضفى عليه المجتمع طابع القدسية، إلى منتج ثقافي مرتبط ببنية اجتماعية وبتبرير سلوكات وعلاقات تراتبية قائمة، مما سيجعلنا نقارب هذا المنتوج بشكل نقدي. فالمثل الشعبي ـ برأي المؤلفة ـ اكتسب “سلطة مكنته من الرسوخ، حتى لدى أولئك الذين يرفضونه، وبذلك استمر في التأثير وتوجيه ثقافة المجتمع أفرادا وجماعات”. ويمكن القول أن هناك ثلاث قضايا كبرى يمكن طرحها في هذا السياق:
ـ أولى هذه القضايا هي أن الأمثال التي يتم إنتاجها، سواء من طرف الرجل أو المرأة، تعكس موازين القوى داخل المجتمع، والتي تعتبر المرأة الحلقة الأضعف فيها، وتميل لصالح سيطرة ثقافة ذكورية، حيث يكون الرجل هو الأقوى وهو المبدأ والمنتهى. وتقع ضمن هذه التراتبية الجنسية ـ رجل وامرأة ـ تراتبية أخرى اجتماعية يسود فيها الغني على الفقير والقوي على الضعيف والحرة على “العبدة” ـ الأَمة ـ والولود على العاقر والمتزوجة على المطلقة والأرملة والعانس... وغيرها من الدرجات في سلم القيم الاجتماعية السائدة.
ـ ثانيها، أنه لا يمكن دراسة مجتمع ما، انطلاقا فقط من علاقاته الطبقية والاجتماعية، بمعزل عن ثقافته السائدة، بل أكثر من ذلك، إن دراسة الأمثال، تبين إلى أي حد تلعب الثقافة دور المحافظ على التقاليد، والتي تصبح عبارة عن بنيات متجذرة وراسخة يصعب اقتلاعها. وهذا ما يحيلنا على إشكالية عميقة تتعلق بدور الثقافة بمفهومها الشامل في التأثير على التحولات الاجتماعية.
ـ ثالثها، أن هذه الثقافة تتماهى، في الكثير من الأحيان، مع الفكر الديني الشعبي، حيث يصعب التمييز بين المنتوج الثقافي الاجتماعي كالمثل، وبين المعتقدات الدينية كما هي رائجة لدى عموم الجمهور. فالمثل كبنية تعبيرية تقترب من بنية الحكمة. والمثل أيضا بإحالاته ومرجعياته التقليدية التي تستعمل في الثقافة الدينية المتداولة، يكتسب نوعا من القدسية، التي هي في عمقها ليست سوى تمثل إيديولوجي سائد لدى الجمهور، بينما المثل، بمختلف متغيراته الزمانية والمكانية، ليس سوى منتوج ثقافي مرتبط بوضع تاريخي معين له شروطه ومحدداته.
يبدو ضروريا ـ بالنظر إلى شرطنا التاريخي المعاصر ـ طرح سؤال مفاده: هل المجتمع المغربي اليوم، كسائر المجتمعات، على إشكال توثيقية وإعلامية متطورة ـ من ثقافة تدوينية ومجال سمعي بصري وإلكتروني ـ قد تُعوض هذا المنتوج أو تُقلص من إمكانيات استخدامه؟ يبدو أن المثل ما زال صامدا في ظل الأشكال التواصلية الجديدة.
وتبقى قيمة الكتاب في كون المؤلفة أدرجت بعض الأمثلة التي كانت تشكل “تابوهات” في عقود خلت. وقد نجحت منية بل العافية بعد جهد جبار في جمع تلك الأمثال وحفظها من الضياع والتلاشي.