الدقة التي تؤرخ بها نازك الملائكة لقصيدة (الكوليرا) هي محاولة منها لتثبيت سبقها لبدر شاكر السياب في كتابة الشعر الجديد كما ستلحق قصيدتها بمقترح لاسمه هو (الشعر الحر) الذي سيثير اعتراضات كثيرة؛ فالشعر الحر لا يحدد هوية الكتابة الجديدة المقترحة ويخلطها بنوع آخر منطلق تماما من حَدّي الوزن والقافية، لكن المصطلح سيشيع ويتكرس بالتداول اللاحق واستقرار مفهومه في الكتابة الشعرية العربية. كانت نازك الملائكة المولودة ببغداد في 23 آب - أغسطس عام 1923 قد أصدرت ديوانها الأول (عاشقة الليل) عام 1947، وبعد أشهر قليلة من صدوره أصيبت مصر بوباء الهيضة ( الكوليرا) وبلغ سمع نازك بطريق الراديو – وسيلة التواصل الوحيدة حينها - ما أوقع المرض من ضحايا تزداد أعدادهم كل يوم، فكتبت قصيدة بشعر الشطرين الموزون المقفى لكنها لم تقتنع بها؛ لأنها كما تقول في شهادتها القصيرة (لمحات من سيرة حياتي وشعري): “لم تعبّر عما في نفسي..فاعتبرتها من شعري الخائب”، وظلت الشاعرة تستمع لأخبار المرض، واستثارها ما تردد من أن الموتى فاقوا الألف؛ فكتبت نصا ثانيا بالطريقة التقليدية ذاتها ولم تقتنع به أيضا، وأحست - كما تقول - إنها بحاجة “لأسلوب آخر” تعبر به عن إحساسها. تستفيق نازك من النوم متكاسلة صباح الجمعة 27-10-1947 – كما تروي لاحقا في شهادتها - لتجد نفسها تحتدم بالأسى والانفعال، وبرنين قصيدة جديدة تضج داخلها عن الموت بالكوليرا، وهي تستمع للمذيع يعلن أن عدد موتى المرض بمصر قد بلغ ألفا، وأن جثثهم تتكدس في عربات تجرها الخيول باتجاه الريف المصري للتخلص منها ودرء العدوى كما يبدو، فراحت تكتب قصيدتها على بحر المتدارك وتفعيلته السريعة الخببية (فعلن فعلن) المصورة لتتابع أرجل الخيل بسبب تقارب سكناتها، وكأنها تتحسس وقع أقدام الخيل، والتي تنوه نازك في إحدى دراساتها العروضية بعلاقة خبب الخيل ببحر الخبب لأنه يسمى أيضاً (ركض الخيل): سكن الليل أصغِ إلى وقع صدى الأناتْ في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأمواتْ. ستنتهي نازك بعد ساعة من كتابة القصيدة في أفياء سطح البيت البغدادي والجو الخريفي العذب الذي يظلل السماء في ذلك الشهر من السنة، لكن ذلك الهدوء المقترن بعطلة الجمعة لن يخفف الضجيج الذي سيدور في البيت حول القصيدة مشفوعا بضحكات الأهل وسخريتهم من (الكوليرا)، كانت الأشطر غير متساوية الطول، والقافية متباعدة لا تتكرر في نهاية كل بيت . لكن نازك تعبر عن سعادتها (البالغة) بما فعلت من تجديد شكلي، حين (عجز) نظام الشطرين (عن التعبير عن مأساة الكوليرا).. وتراهن متحدية الأسرة بأن هذه القصيدة (ستغير خريطة الشعر العربي) وهي (بداية عصر جديد في الشعر العربي)، وإذ يحتج والدها بأن هذه القصيدة لن يقرأها من اعتاد رصانة المتنبي وجزالة البحتري، وأن تكرار كلمة الموت هذيان يدعو للضحك، ترد بأنها تشعر اليوم بأنها (منحت الشعر العربي شيئا ذا قيمة). إيقاعات ضاجة بالموت تتحدث نازك الملائكة عن (الكوليرا) محاولة ً مسرحة ما أحاط بظروف ولادتها، لتشركنا في لحظة الانفعال الكبير التي دفعت بالنص الوليد ليظهر في تلك الصبيحة الشجية من يوم تتراخى فيه الأجساد متنعمة بالسكون والراحة، بينما كان الاحتدام داخل الشاعرة الشابة يصل ذروته فيتجسد بهيئة فنية يحكمها الهيجان الإيقاعي الذي لا يخفيه تنوع طول الأبيات أو تباعد القوافي في ختامها .. فالنسق الإيقاعي للقصيدة منضبط تماما ومستجيب لشكل تقفوي واضح الإحكام والتشدد هو المقطوعة stanza ذات الثلاثة عشر بيتا في كل مقطع، وتوالي القافية بنسق يعبر عنه خطّيا بالشكل الآتي: أب ب / ج ج ب/ د د ب/ ه ه ه ه فالقافية تتكرر بحساب وتناوب هندسي، وثمة عدد متساو من الأشطر في كل مقطع من مقاطع القصيدة الأربعة التي تحافظ فيها نازك على عدد الأبيات. كما أن تكرار كلمات: الموت والموتى والأموات وتصريفات قريبة منها بحوالي ثلاثين مرة في أبيات القصيدة الإثنين والخمسين يشيع جو الكآبة والحزن، ويصور تسارع أرجل الخيل التي تجر العربات لتلقي بالموتى من بعد. يبدأ المقطعان الأول والثاني من الكوليرا بفعل: سكن الليل...في المقطع الأول طلع الفجر...في المقطع الثاني استكمالاً لتصوير سرعة الجري ونقل الموتى، بينما يبدأ المقطعان الثالث والرابع باسم: الكوليرا.. في المقطع الثالث الصمت مرير.. في المقطع الرابع استقراراً للحدث وتصويراً للنهايات التي جاء بها الموت، وانعكاسه على بسطاء الناس كالفلاحة والطفل والمؤذن وحتى حفار القبور الذي يناله الموت فلا يظل من يواري أجساد الموتى التراب .. لكـن البنية الاستهلالية لمطالع المقاطع الأربعة تسرد بانتظام ما حدث: 1- (سكن الليل) فحلت الكوليرا و2- (طلع الفجر) فتبين الموت مجسداً و3- دل عليه اسم (الكوليرا ) وما ستشيع من 4 - ( صمت مرير). يزاوج الإيقاع الخببي بين ما يأكل الموت من الأجساد وتدافع أرجل الخيل، وتدافع تفعيلة الخبب (فعلن فعلن) وما تشيع من إيحاء بالازدحام والتدافع النغمي. القصيدة لم تتحرر تماما كما توحي أحاديث الشاعرة عنها لكنها في سياق الكتابة السائدة قدمت مشروعا جديدا ومقترحا سيقابل بمواقف متباينة حتى يستقر وتنتشر كتابته لاحقا. ردود أفعال.. ومواقف تلاحظ نازك أنها لم تتلق ردود أفعال على قصيدتها كما توقعت بعد أن نشرت القصيدة في عدد مجلة (العروبة) الصادرة في بيروت مطلع كانون الأول- ديسمبر من العام نفسه 1947 سوى إشارة أو تعليق من المجلة ذاتها. لكن القصيدة ستحظى بجدل ونقاش طويلين وخلاف حاد حين ضمتها الشاعرة إلى عدد من قصائدها الحرة ونشرتها عام 1949 في ديوانها الثاني (شظايا ورماد)، ومن أشهر القصائد السبع عشرة الحرة في الديوان ( مر القطار، والخيط المشدود إلى شجرة السرو، ولنكن أصدقاء، ويوتوبيا في الجبال، و أنا، وجامعة الظلال..) وغيرها من القصائد الحرة التي أفاضت الشاعرة في الحديث عنها، خاصة عن نظامها الشكلي في مقدمتها النارية للديوان التي بدأتها بالقول: “في الشعر ، كما في الحياة ، يصح تطبيق عبارة برنارد شو: اللا قاعدة هي القاعدة الذهبية”... محتجة بأن الشعر وليد الحياة، وأن الحياة ليس لها قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها. لكن ذلك كله لم يكن إلا تنظيرا سوف تتراجع نازك عنه متمسكة بنظام بيتي صارم وموضوع منكشف واستخدام محدود للتفعيلات وتوزيع للقافية بشكل محسوب عدديا يؤكد ضرورتها في الشعر، بعد أن وصفت القافية في مقدمتها تلك والمؤرخة في3/2/1949 بأنها “الحجر الذي تلقمه الطريقة القديمة كل بيت” وأنها تضفي رتابة على القصيدة ، وتُنزل بها خسائر(فادحة)!. لقد كانت نازك منصفة وصادقة حين وصفت تجاربها في قصائد الديوان الحرة بأنها “لون بسيط من الخروج على القواعد المألوفة” وطغيان الشطرين على الكتابة الشعرية لقرون عديدة. لكنه ليس خروجا على طريقة الخليل العروضية بل ( تعديل لها)، وسنذكر ذلك للتنبيه على أنها قالت عند نظم الكوليرا: “إن ضرورة التعبير قد ساقتها لاكتشاف الشعر الحر”، وهذا ينقلنا للجدل حول الأولوية بين (الكوليرا) كأول نص بالشعر والحر و قصيدة (هل كان حبا) للسياب الذي نبه في حاشية القصيدة إلى أنها “من الشعر المختلف الأوزان والقوافي”. لقد صدر ديوان (أزهار ذابلة) للسياب ببغداد في النصف الثاني من شهر كانون الأول عام 1947 وفيه قصيدته الحرة الوحيدة (هل كان حبا) وهو الشهر الذي ظهرت في بدايته قصيدة (الكوليرا) في مجلة العروبة ببيروت، وهذا التسجيل الدقيق لتاريخ كتابة القصيدة وتاريخ نشرها يريد إثبات الريادة الزمنية لنازك، وهو أمر تجاوزته الدراسات النقدية التي ترى الريادة فنية لا تاريخية، وتجدها استمراراً في تجديد أسلوبي ورؤيوي تحكمه القناعة والإصرار دون تردد. لقد كانت الشاعرة في أوج حماستها وهي تكتب (الكوليرا)، وتحاول أن تأسر تداعيات المرض وترجيعات الموت الذي يتكرر بشكل لافت كمفردة ودلالة معاً.. فتعافت القصيدة من مرض التكرار البيتي ورتابة القافية، وسيخف حديث نازك عنها بعد أن خف ضغط سياق القصيدة ، وبعد أن صار الموت حدثا عاديا سواء في الواقع أو في تمثيله شعريا. لكنّ تلك الهزات الشعورية المتأتية من المأساة تحتاجها القصيدة كلما برد جسدها أو مرض فتاقت إلى عافية و ميلاد جديد. سكنَ الليل أصغِ إلى وقع صدى الأناتْ في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأمواتْ صرخات تعلو، تضطربُ حزن يتدفق ،يلتهبُ يتعثر فيه صدى الآهاتْ في كل فؤاد غليانُ في الكوخ الساكن أحزانُ في كل مكان يبكي صوت هذا ما قد مزقه الموتْ الموت، الموت، الموتْ يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموتْ طلع الفجرُ أصغِ إلى وقع خطى الماشين في صمت الفجر، أصخ، انظر ركب الباكين عشرة أمواتٍ، عشرونا لا تحصِ، أصخ للباكينا اسمع صوت الطفل المسكين موتى، موتى، ضاع العددُ موتى، موتى، لم يبقَ غدُ في كل مكان جسد يندبه محزون لا لحظةَ إخلادٍ، لا صمتْ هذا ما فعلت كف الموتْ الموتُ، الموتُ، الموتْ تشكو البشريةُ تشكو ما يرتكب الموتْ