شهرزاد.. بلا أقنعة ولا أسماء مستعارة
ربما لأنه ما من حاجة أصيلة لشهريار كي تحدث الحكاية، فقد توقفت شهرزاد عن الكلام وبدأت الكتابة، إنها تعيد، الآن، رواية العالم ورواية ذاتها بعين أخرى ليس من الممكن ربما قراءتها كما كانت تفعل الجدّات الطيبات... وكما كان يُروى على ألسنة الرواة الشفويين حيث تجري إعادة إنتاج “العالم اليومي” عبر الحكايا التي تحدث في العالم كل يوم. باتت شهرزاد الآن أكثر ميلاً إلى قول ذاتها بـ “أناها” دون الحاجة لذوات أخرى مستعارة أكثر مما أنها حقيقية، لم تعد شهرزاد بحاجة إلى أقنعة أخرى سوى اسمها الخاص ولا بحاجة إلى رغبة في البوح، بل هي أكثر ميلا إلى الرغبة في الصراخ.
ربما، يكون هذا الأمر ملمحاً أساسياً في القصة التي تكتبها الآن القاصات الشابات الإماراتيات، وربما العربيات إجمالا، إذ أنّ الحكاية ليست هي العالم أو ما يقوله الآخرون في العالم عنه، أي عن هذا العالم، بل هي الذات المفردة، تماما، المتنائية عن الوعي الجمعي والغائبة عنه والواعية بذاتها بوصفها منتجاً للحكاية، والقادرة على التحكم بمصائر الشخصيات بأثر عميق من الثقافة الخاصة والتجربة الشخصية الأنثوية وفقا لطابعها “العربي” “الاجتماعي” والمعايشة اليومية لما هو حراك يومي وهضم كل ذلك في أتون مخيلة ما، فذلك كله هو الذي ينتج الحكاية مسرودةً، غالبا، على لسان امرأة، فكما لو أنْ تكتب المرأة قصة هو أن تعيد، المرأة ذاتها، الواقع اليومي بكل تفاصيله بناء على جملة أحاسيس ومشاعر أكثر مما أنْ يقام هذا الواقع بناء على وعي ذهني بضرورة تغيير واقع ما، كما كانت الحال سائدة لدى العديد من الحالات القصصية العربية النسوية حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي.
والحال أن الذات “الأنثوية” أو الذات بكل أنوثتها هي الساردة، وربما من هنا تجيء هذه الوفرة في فعل القص عن النساء وعن عوالمهن الخفية إلى حدّ بعيد عن عالم الرجال، أضف إلى ذلك الحديث عن الأطفال وعن الغرباء. فالغرباء، هنا، وربما على نحو نادر عربيا، هم كائنات إنسانية بالمجمل، بل إنه ما من موقف مسبق، تقريبا، تجاههم رغم كل ما تمرّ به المنطقة العربية من عذابات، بمعنى أن الغرباء هنا ليس بـ “آخر” بل هو شخص محض يجري التعاطف معه على هذا النحو أو ذاك وفقا لتفاصيل الحكايا وأساليب السرد والانعطافات التي يشهدها هذا السرد، إنه حكاية ما، باختصار.
ربما بسبب ذلك يكاد المرء لا يعثر على شخصية وقد انقسى عليها على هذا النحو أو ذاك، قد يجد المرء ذاتا، بوصفها شخصية، هي التي تواجه مصيرها القاسي والعنيد، إذا جاز التوصيف، لكن في تضاعيف السرد لا يجد المرء سوى التعاطف وبدرجة أقل الحياد.
في ضوء ذلك، وفي ضوء خبرة متواضعة بالقص النسوي الإماراتي، ربما من المغامرة القول بأن ما تكتبه القاصات الإماراتيات الشابات الآن، وبعيدا عن الإشكاليات التقنية السردية فيه، قد يأخذ مكانة عربية مميزة به فيما لو جرى لفت الانتباه إلى ما يحدث فيه من تحولات راهنا. إنه، ببساطة، يذكر بتلك الفورة القصصية النسوية التي حدثت في غير بلد عربي، كالأردن والعراق، مثلا لا حصرا، مطلع التسعينات وأنجبت تلك الفترة قاصات بالفعل لكنّ غياب تأثيرهن عربيا أمر يعود لإشكاليات لا مجال لذكرها هنا، لكن من الممكن تجاوزها هنا.
ما جرى ذكره سابقا ليس سوى أفكار محضة وليست خلاصات أو نتائج قارّة وثابتة، بل هي قابلة للنفي والدحض، وهي نتاج قراءة أولى في أربع مجموعات قصصية لأربع كاتبات قصة قصيرة إماراتيات: “أوراق امرأة”، لعائشة عبد الله، صادرة عن دار الرِقيّ في بيروت، و”ضوء يذهب للنوم” لابتسام المعلا و”وجه أرملة فاتنة” لفاطمة المزروعي و”المرآة” لمنى العلي، الصادرة بثلاثتها أخيرا عن مشروع “قلم” – هيئة أبوظبي للثقافة والتراث.
أوراق امرأة
ينطوي هذا العنوان: أوراق امرأة، على ما يكاد يكون رؤية باتت كلاسيكية الآن باتجاه خلق عنوان، إذ أن عائشة عبد الله لا تحتاج من القص إلى غير القص فلا تجنح إلى ما هو شعري بل إلى سرد الواقع، أي الحياة التي تعيشها إمرأة عربية بكل تفاصيلها، كما هو دون تدخل من الفانتازيا أو دون الجنوح إليها. هنا الخيال يعيد إنتاج الواقع، لكن الواقع الأكيد والذي من الممكن حدوثه، كما هي أغلب القصة النسوية الإماراتية.
الواقع هنا هو ما تنطق به الألسنة ويدرج على الشفاة وتتناقله القلوب، بمعنى أن الواقع هو سرد لأحداث ووصف للأشياء كما حدثت وانتهت وليس وصفا لحراك اجتماعي ينطوي على تحولات ما، مع الشخصيات، يشعر المرء أنه أمام شخصيات عادية من الممكن للمرء أن يلتقيها في الطريق.
على العكس من ذلك تماماً، عائشة عبد الله في قصصها القصيرة جدا، فهي تضع القارئ أمام مستويين من السرد، هو هنا في “القصيرة جدا” أميل إلى الاختزال والتكثيف ربما بسبب تلك المعاينة التي توليها القاصة لفعل التأمل بكل تجريداته بل إن قصتها أقرب إلى التجريد:
حالة سُكْر
لا تنكروا ذلك، كلُّ واحد منا سكّير، وله خمره التي يتلذذ بشربها، ذلك ما قاله لي الورق عندما أسكرته الخمر المنسكبة من قلمي العتيق”.
ضوء يذهب للنوم
أما ما يلفت الانتباه لدى ابتسام المعلا أنها تدخل إلى، القصة التي تريد قولها، من مدخل شعري مثلما أن النثر لديها أنيق بوصفه جملة بنى تركيبية ونحوية حتى لكأنها تشعر بلذة هذا النثر أثناء ما تكتب وتعيد الكتابة.
هنا، من غير الممكن النظر إلى القصة بوصفها حدثا من الممكن تخيله أو من غير الممكن حدوث ذلك، ربما هناك زاوية أخرى للنظر للقصة حيث مداخل القص بطابعها الشعري تؤسس لحالة من التورط المباشر في نسيج السرد إنما على نحو سيكولوجي، بما يعنيه ذلك من أن هذا الفعل هو مباغتة من نوع ما لقارئ ما.
واللافت أيضا أن الشخصية الساردة في قصص الكتاب تستخدم “الأنا” أكثر مما تستخدم “الذات” التي تتواجد في مقابل الآخر، إنها “أنا” تحمل دلالة سيكولوجية أعمق، في حين هي ترى العالم وتعيد روايته كاملا غير منقوص بل وعلى نحو لا يخلو من أثر في القارئ:
“عندما تبدأ بالثرثرة في كل شيء، وتشرح الصور ثم ترسم الأغاني، وتعلّق الذكريات كقناديل فوق رأسك وتنشغل، بين ثرثرة وأخرى، بمراقبة ظلالها وهي تتأرجح على الجدران فهذا يعني أنك تحاول جاهدا أن تضع كفك على فم الوقت إذ يهمّ بالتثاؤب”. هذا هو مدخل القصة التي تحمل العنوان: iPod. فضلا عن ان عنوان الكتاب كله هو: ضوء يذهب للنوم.
وجه أرملة فاتنة
لكن فاطمة المزروعي ترى العالم من وجهة نظر أخرى، هي بالفعل مثيرة للانتباه، فهي كما لو أنها لا تعيش الحكايا بل تتلصص على الحياة من ثقب في باب.
إنها تقتنص حكايا تعيد كتابتها بقَدْر كبير من المشاعر في بناء الشخصية والالتواءات المفاجئة في الحدث نفسه، بحيث يحدث هذا الأمر هكذا على نحو عفوي كما لو أن امرأة ما هي التي تدير الحدث – السرد في هذا العالم لكن وفقا لما ترى وتحسّ.
واللافت أيضا أن فعل المراقبة أو التلصص على الحياة هو فعل مؤثر في التمظهرات السردية ليس في “وجه أرملة فاتنة” بل في أغلب القصص.
لكن، قصة “كان الصوت يأتي من بعيد” مختلفة في المزاج بل وفي منحاها التجريبي، تأخذها القاصة على نحو أنها نوع من “اللعب” عندما يعني ذلك أن اللعب هو نوع من التجريب، فتبدأ بعد العنوان مباشرة باستكماله بحيث أصبح العنوان ليس عتبة للدلالة بل عتبة للقول، للحكي وللسرد:
“كان الصوت يأتي من بعيد – العنوان، وفي السطر الأول:
وكنت أعرف مصدره، وكنت متيقنا من أنه يأتي من هناك من حيث ذلك المنزل القديم”.
المرآة
وأخيرا، تميل منى العلي إلى تحليل الحدث أكثر من توصيف وقائعه وكذلك في بناء الشخصيات، لكنها، بعد ذلك، تجنح إلى إحداث نوع من المفارقة في “قفلة” قصتها على نحو ما نصف قفلة قصيدة، لكن المفارقة هنا تحتاج إلى دراسة أخرى من خارج أدوات القراءة الانطباعية، كهذه القراءة، او حتى أدوات النقد الأدبي ربما إلى أدوات الدراسات السيكولوجية للشخصيات كما للحدث الذي ليس بحدث واقعي تماما بل هو نفسي وحلمي ويحتاج إلى إعادة قول وتفسير، لنأخذ مثلا قصتي “المقهى” و”النقطة”، سنجد أن منى العلي في كتابها لا ترسم الواقع بل ترسم حدثا تتخيله:
“ما بالها هذه النقطة تحاول تحاول زحزحة دائرتها خارج نطاق خطوطها المائية؟
تتمرد على طبيعتها لتقذف بنفسها عليّ.
هاي أنتِ!
ماذا تريدين مني؟
تلطخينني ببرودتكِ، دعيني أتلذذ برائحة السمك الذي يحك لي أنفي ليذكرني أن وقت الغداء قد حان”.
? ?فاطمة المزروعي في قصصها تبدو كما لو أنها لا تعيش الحكايا بل تتلصص على الحياة من ثقب في باب
? ?عائشة عبد الله لا تحتاج من القص إلى غير القص، فتجنح إلى سرد الواقع كما، هو دون تدخل من الفانتازيا
? ?منى العلي لا ترسم الواقع بل ترسم حدثا تتخيله.. وتجنح إلى إحداث نوع من المفارقة في “قفلة” قصتها
? ?ابتسام المعلا تباغت القارئ بمداخل القص الشعرية فتؤسس لحالة من التورط السيكولوجي المباشر في نسيج السرد
قصص قصيرة جداً
عائشة عبدالله
أمل
فتح عينيه، نظر إلى أشعة الشمس وهي تشقّ ظلام الليل بسيفها اللامع، ابتسم، نزل إلى الشارع، رأى أن كل شيء قد تحوّل إلى رماد إلا نبتة صغيرة أطلّت برأسها من شقٍّ في الرصيف القديم.
صدى
للموت صدى لم يسمعه غيره، عندما أصغى إليه جيدا وجد نفسه وحيدا في مكان مظلم، بكى ولطم وجهه لأنه فقد شعاع النور الذي ينبعث من عينيه.
حبس
في سويداء القلب حبَسَتْهُ، أدارت المفتاح ألف مرة في باب من فولاذ، لكنها نسيت أن تصبَّ بقية الفولاذ في فتحة المفتاح.
نهاية
قال: لكل شيء نهاية ........
أقفل الباب من خلفه ورحل.
أسدلَتْ ستائر قلبها، وأطبقت جفنيها على دمعة كادت أن تسقط في قلب رجل آخر، لتلعب بين ذراعيه لعبة الحب.
قصر
شيَّدتْ قصرا، أحاطته بأسوار عالية، رقصت بين ذراعيه مغمضة العينين.
قال لها: لن أرحل، ما دامت أسوارك مشيدة.
عندما علت الأمواج أدركت أنه من رمال.