الإتحاد ـ خاص:
كان أشبه بـ 'بسمارك' ألمانيا أو 'هتلر' في توحيده لشتات المغول المتناحرين، وكان أشبه بـ 'جورج بوش' في إيمانه بحبس كل العالم في قبضة ملك واحد· وكان قائدا حربيا من الحجم الاستراتيجي، وديبلوماسيا محنكا في الوقت نفسه، يفضل استبعاد السيف عندما يكون تحقيق النصر ممكنا بالخدعة والحيلة أو بالمفاوضات السلمية!
هذا بعض ما كانه 'جنكيز خان وتفاصيل مثيرة في التحقيق التالي:
لدى ولادة 'جنكيز خان' عام 1155 أو 1162 أو ،1167 لم يكن لمنغوليا وجود كأمة أو كشعب أو كدولة أو وطن· كان اسمه الأصلي 'تيوجين'، وكان المغول مجرد قبائل بدوية موزعة ما بين رعاة في السهول وصيادين مزارعين في جبال 'خانتاي'· وكان من الطبيعي، في ظل أنماط معيشية كهذه، أن تبقى قبائل المغول في نزاع شبه دائم فيما بينها مما حول حياتها إلى كابوس مرعب ومتواصل·
وسط هذا المناخ السوداوي حصلت فاجعة 'جنكيز خان' بمقتل أبيه 'يوسيوغاي' مسموما على يد التتار· كان 'تيموجين' يومها في التاسعة من عمره، ومعنى اسمه باللغة المحلية: الحديد أو الحداد· وكان بكر أخوته السبعة، الذين هربت بهم الأم بعد مقتل الأب، هائمة على وجهها في غياهب الصحاري والجبال مع ثلاثة بغال·
كان حليبها وحليب بضع نعجات مصدر غذائهم الوحيد· لكن، ورغم كل الصعوبات تلك والظروف وقسوتها، عرف 'تيموجين' كيف يبقي حياً· وكان في حدود الرابعة عشرة عندما قتل أول رجل في حياته: قتل شقيقه، من أبيه وأم أخرى، لأنه كان يحاول أن يفرض نفسه زعيماً على رأس العائلة· و'جنكيز خان' منذ طفولته، لا يطيق ان يتزعم عليه أحد، حتى ولو كان شقيقه·
من أجل عينيها
في سن السادسة عشرة تزوج 'تيموجين' الحسناء 'المرقة' وجواهر الزبلين التي قدمها له أهلها كهدية زفاف، وضعها كهدية وديعة لدى 'توغريل'، زعيم قبيلة 'كراييت' ورفيق السلاح القديم لأبيه 'يوسيوغاي' غير ان جماعة من قبيلة 'مركيت' قامت بغارة مفاجئة وكانت عروس 'تيموجين' في عداد السبايا التي اختطفوها·· وهنا وضع 'توغريل' مجموعة من فرسان الكراييت بإمرة الشاب 'تيموجين' الذي سار بهم في مهمة البحث عن زوجته المسبية·
كانت تلك أولى المعارك 'الجماعية' لـ 'تيموجين' وكان انتصاره فيها سريعاً وحاسماً وعاد عليه بالكثير من المكاسب: استرجع زوجته وحظي بالكثير من الاعجاب والتكريم من الزعيم 'توغريل' وجماعة الكراييت·· وتتالت بعد ذلك معارك وانتصارات 'تيموجين'، ومع كل انتصار تتسع شهرته وتنتشر، وينضم إلى أمرته فرسان جدد يطيعونه كالخاتم في أصبعه· وسرعان ما ذاع صيته في كافة أرجاء السهول والجبال والصحاري: القائد المقدام الذي لا ينهزم والذي يحمل إلى فرسانه الحماية والثروة بكل نزاهة وعزة نفس وسخاء·
جيش·· الشتات
مع ازدياد عديد وتتالي انتصاراته، لم يعد جيش 'جنكيز خان' يقتصر على فرسان قبيلة الكراييت فقط بل انضم إليه فرسان من مختلف انحاء الشتات المغولي· ومن هنا كانت ولادة حلمه الأكبر بتوحيد منغوليا الكبرى· وهو الحلم الذي استغرق تحقيقه أربعين عاماً من الحروب والاجتياحات المتواصلة، فيما استغرق عشرين عاما فقط في غزو شمال الصين وبلاد الفرس·
عام 1206 أطلق 'تيموجين' على نفسه لقب 'جنكيز خان' (جنكيز معناها: الواسع جدا أو الشامل) و (خان معناها: الزعيم أو الملك أو الامبراطور الأعظم)· وفي العام نفسه قام بحصار مملكة 'تنغوت' التي يتحدر شعبها من أصول التيبت، كتمهيد لغزو امبراطورية الصين·
كان 'جنكيز خان' قائدا عسكريا عبقريا فعلاً، يخوض معاركه التكتيكية ضمن رؤية استراتيجية، ويعتمد في معاركه على العقل أولا قبل القوة الضاربة التي كان يتميز بها· ومن هذا المنظور، كان يرى انه من الأفضل عدم الخوض في قتال مباشر عندما يكون ممكناً تحقيق النصر بقوة الخدعة والمناورة·
رابط بقواته حول قلاع 'مملكة الجن' فارضاً عليها حصاراً محكماً، مرسلاً إلى سفوح أسوارها وحدات استخبارية خاصة تستطلع ما أمكنها من معلومات حول وضع العدو الداخلي·· وبعد أن قام بتحويل مجرى مياه 'النهر الأصفر' لتعطيش المحاصرين، أرسل اليهم مفاوضين يعرضون عليهم تسليمه ما بحوزتهم من حيوانات داخل الحصون كفدية حربية يدفعونها مقابل انسحاب قواته، واستجابة المحاصرين لهذا الطلب أوقعتهم في المجاعة التي أحدثت بلبلة وضعفا في قواتهم، وهنا حلت الساعة المناسبة أمام 'جنكيز خان' لإطلاق جنوده في غزو قوات محاصرة منهكة القوى·
مملكة الجن
بين كافة حروبه، وما أكثرها، كانت حرب غزو الصين المعركة القومية الأكثر أهمية وتاريخية لدى المغول· وكانت بالدرجة الأولى حرب ثأر وانتقام من المجازر التي كان جيش مملكة الجن (الصين) قد الحقها بالمغول قبل مئة عام والتي جرى فيها سوق خانات المغول كالعبيد وإذلالهم وتعذيبهم في سجون البلاط الامبراطوري في بكين·
وقد استمر حصار 'جنكيز خان' لسور الصين العظيم أكثر من سنتين، لكنه قام خلال ذلك بغزو وضم منشوريا·· كما استطاع، بشتى أنواع الحيل والمناورات، إيصال وحدات استطلاعية إلى داخل بكين نفسها، لكن ضخامة مساحة أراضي الصين جعلته يدرك عجزه عن احتلالها كلها، فعرض حلاً سلمياً على بلاط 'ملوك الذهب' في بكين الذين سارعوا بالموافقة على تسليمه اقليم 'كاي ـ اونغ' عند ضفاف النهر الأصفر مقابل فك الحصار· ومضى عام دبت فيه المجاعة في قلب بكين بفعل افتقارها إلى مياه النهر، فتحركت قوات 'جنكيز خان' لاحتلالها·
وهنا أعاد 'جنكيز خان' تنظيم جيشه وفق نظام عشري خاص بحيث قسمه إلى كتائب تضم الواحد منها عشرة آلاف مقاتل أو مئة ألف، وتضم كل واحدة من فصائل الكتيبة عشرة جنود أو مئة أو ألف جندي، وبحيث يكون ممنوعا على أي جندي ترك وحدته والالتحاق بوحدة أخرى وتحت طائلة قتلة رهن وضابط وحدته المسؤول·· كما ابتكر تكتيكات جديدة في عمليات التقدم والاقتحام في طليعتها وضع أسرى العدو في الصفوف الأمامية لاستخدامهم كدروع بشرية، أما الأسلحة والذخائر فقد جعلها على قاعدة (ما خف وزنه وكبرت فعاليته)!
لا تحاصر
وكقائد ستراتيجي تاريخي لم يكن 'جنكيز خان' يعتمد أسلوبا ثابتا في القتال· كان الأساس عنده استقاء معلوماته من الجواسيس، وعلى أساس تلك المعلومات يضع لكل معركة خططها وتكتيكاتها الخاصة·· ولم يكن يتواني حتى عن وضع دمى بأشكال فرسان على ظهور خيل المؤن لإعطاء العدو انطباعا بكثرة هائلة في عديد جيشه· كما كان يأمر جنوده، للغاية نفسها، بإشغال مواقد تفوق بعشرة أضعاف المواقد التي يحتاجونها فعلاً لتحضير أطعمتهم·· وكان لا يحب محاصرة العدو أجمالا لكي لا يجعله يستشرس في المواجهة، حيث كان يقول: 'ان العدو المحاصر في قلعة يصبح هائجا كالقطعان المحبوسة في مكان ضيق'!
وقد أثبتت أفكار 'جنكيز خان' الحربية هذه جداوها الهائلة في معركة غزو خوارزم في بلاد الفرس، التي أقحم فيها مئتي ألف من جنوده·
احتل مدينة 'اوترار' أولا ثم انطلق منها لاحتلال مدينتي 'اورغنتش' و'بخاري' وصولا إلى سمرقند·
وكان يختار النخب المثقفة والمختصة من أسرى العدو ويرسلهم إلى منغوليا للمساهمة في إنشائها وتطويرها، فيما يبقى الأسرى العاديين عبيداً لأعمال وخدمات جنوده، وأما السبايا من النساء، فكان يستأثر لنفسه بالأجمل والأفضل من بينهن، ويقال انه كان لـ 'جنكيز خان' ثماني جاريات مخصصات للاستعمال الشخصي في بخارى وسمرقند، وبالاجمال كان لديه 'جيش حريم' من حوالي خمسمئة جارية موزعة على مختلف البلدان والممالك التي غزاها واحتلها·
أفغانستان
بعد سقوط خوارزم قام 'جنكيز خان' بخلع سلطانهم في افغانستان، ثم أرسل قواته لمطاردة جيش ابنه حتى ضفاف نهر الهندوس، فيما قام القائدان المغوليان 'جيب' و'سبوتاي' بمطاردة السلطان عبر خرسان· وتساقطت خلال ذلك في يد قوات 'جنكيز خان' كبريات مدن آسيا الوسطى، من 'بلخ' إلى 'مرو' إلى 'هرات' وهنا كان الشوط المغولي على الأعداء في منتهى البساطة: الاستسلام أو القتل·
وبالاجمال، دامت حروب 'جنكيز خان' في آسيا الوسطى زهاء الستة أعوام، سالت خلالها الدماء أنهارا وتحولت المدائن والممالك إلى ركام ورماد وإلى أرض محروقة ترامت على حوالي 8000 كيلومتر من شمال غرب بلاد فارس إلى روسيا الوسطى مروراً بجبال القوقاز وسهول الكبتشاك·
وكان 'جنكيز خان' يرى، بكل بساطة، انه 'مادام في السماء إله واحد فقط، فلا يجب أن يكون على الأرض سوى ملك واحد فقط'! وعلى ما في هذه القناعة من صلف وجبروت، فانها أدت إلى تحقيق انسجام وتعايش إيجابي بين الشعوب والأعراق وإلى تسامح ديني لا مثيل له في التاريخ في كافة البلدان والممالك التي وحدها 'جنكيز خان' تحت رايته المغولية·
لغة وبريد
وبعكس ما يشاع عن وحشيته وقسوته، فقد كان 'جنكيز خان' ذا رؤية ستراتيجية حتى من الناحية الثقافية والاجتماعية أيضاً· فبعد ان قام بتوحيد العرق البدوي المغولي وبدمجه بالأعراق الأخرى المهزومة، عمل على تحويل اللغة المغولية المحكية إلى لغة مكتوبة للمرة الأولى في تاريخها، وهي: لغة الايغورية·· كما أدرك أهمية الاتصال والتواصل فأنشأ شبكة بريد عملاقة على امتداد عشرات ومئات الكيلومترات·
وبعقله الثاقب أدرك 'جنكيز خان' بطلان فكرة الخلود التي كان زرعها في نفسه كبير كهنة التاوستية الهندوسية الوثنية· وهذا ما جعله يعقد العزم على ضرورة غزو مملكة 'الي تانغوت' (الإله ـ السماء) الوثنية، التي كانت نقضت حلفها معه خلال توجه جيشه الكبير إلى غزو بلاد فارس·
وتبقى المفارقة الكبرى ان 'جنكيز خان'، فارس الفرسان الذي أمضى حياته في المعارك والحروب، كان يفضل الصيد على القتال· وخلال احدى حفلات الصيد سقط فارس الفرسان عن حصانه وأصيب بجروح وكسور تسببت له بنزيف داخلي أودى بحياته في منطقة 'غانسو الشرقية' في يوم من أيام شهر اغسطس من العام 1227
أورينت برس