القاهرة (الاتحاد)

انطلقت شهرة إبراهيم عليه السلام، وتحدث الناس عن معجزته ونجاته من النار، وموقفه وكيف أخرس النمرود وأبطل مزاعمه، واستمر في دعوته لله تعالى، بذل جهده ليهدي قومه، حاول إقناعهم بكل الوسائل، ورغم حبه لهم وحرصه عليهم، فقد غضب قومه وهجروه، ولم يؤمن معه سوى امرأة ورجل، المرأة «سارة»، وقد صارت فيما بعد زوجته، والرجل هو لوط، وقد صار نبياً، وحين أدرك إبراهيم أن أحداً لن يؤمن بدعوته، قرر الهجرة.
بعد أن قام عليه السلام بدعوة قومه بشتى الطرق والوسائل، فلم يجد منهم إلا الإعراض، قرر أن يهاجر من بلدته إلى مكان آخر لينشر دين الله وليدعو قوماً آخرين للعبادة، «وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»، «سورة العنكبوت: الآية 26»، وهاجر إبراهيم من أرض بابل بالعراق إلى بلاد الشام، الأرض المباركة ثم ما لبث أن تركها وهاجر إلى مصر.
قال القرطبي، هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار، قال إني مهاجر من بلد قومي ومولدي، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي، فإنه سيهدين فيما نويت إلى الصواب، وما أشار إليه جل وعلا من أنه بارك العالمين في الأرض المذكورة التي هي الشام.
وقال ابن كثير في «البداية والنهاية»، لما هجر إبراهيم قومه في الله، وهاجر من بين أظهرهم، وكانت امرأته عاقراً لا يولد لها، ولم يكن له من الولد أحد، بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر، وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل نبي بُعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده، فعلى أحد نسله وعقبه، خِلعة من الله وكرامة له، حين ترك بلاده، وأهله وأقرباءه، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل، ودعوة الخلق إليه.
والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام، وهي التي قال الله عز وجل: (... إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)، «سورة الأنبياء: الآية 71»، خرج عليه السلام من بلده وبدأ هجرته، سافر إلى مدينة تدعى أور، ومدينة تسمى حاران، ثم رحل إلى فلسطين ومعه زوجته، المرأة الوحيدة التي آمنت به، وصحب لوطاً الرجل الوحيد الذي آمن به، وبعد فلسطين ذهب إلى مصر، وطوال هذا الوقت وخلال هذه الرحلات، كان يدعو الناس إلى عبادة الله، ويخدم الضعفاء والفقراء.
كانت سارة لا تلد، وأصبح إبراهيم شيخاً، وابيض شعره، فقدمت سارةُ، السيدةَ «هاجر» لتكون زوجة له، وولدت هاجر ابنها الأول «إسماعيل»، ثم جاء بها وبابنها الرضيع عند البيت الحرام، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شيء؟، قالت له ذلك مراراً، ولا يلتفت إليها، فقالت: الله أمرك بهذا؟، قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا، فانطلق حتى إذا كان عند الثنية، استقبل البيت، ودعا: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، «سورة إبراهيم: الآية 37».
وإبراهيم أول من ضاف الضيف، وقلم أظفاره، وقص الشارب، وأول من يُكسى الحلة يوم القيامة.