نورا محمد (القاهرة) - لم يفكر أبي لحظة واحدة في العرض الذي تقدم به الرجل العجوز لطلب يدي للزواج، بل عمت الفرحة أركان البيت ورحبت أمي وسعد أخوتي وسادت أجواء البهجة والنشوة على عكس الحال عندي، فقد أصابتني الكآبة والحزن والخوف والقلق لأن ما يحدث بعيد عن المنطق على الأقل من وجهة نظري. أنا بطبعي متمردة وعصبية وعنيدة ولا أجد لذلك سبباً أو تفسيراً إلا الظروف القاسية والفقر الذي نعيش فيه ولم يفارقنا منذ جئت إلى الدنيا وتفتحت عيناي تحملت مع أمي مسؤولية تربية أخواتي البنات الخمس وأخي الوحيد الذي يطلقون عليه آخر العنقود، ولم أعش طفولتي، بل حياتي كلها بأي شكل فمنذ نعومة أظفاري وأنا لا أعرف إلا القيام بمعظم مهام البيت مع أمي التي لا تتوقف أوامرها ولا مطالبها ولم ينطبق ذلك على بقية أخواتي حتى بعد أن كبرن ولم تجد اعتراضاتي آذاناً مصغية من أمي، وقد اعتدت ذلك كله حتى أنني الوحيدة من بينهم التي لم تذهب إلى المدرسة، ولا أعرف القراءة ولا الكتابة وان كان التعليم لا يدخل في دائرة اهتماماتي لا سابقاً ولا لاحقاً. أبي يعمل بائعاً في محل كبير لبيع الأسماك، وكانت أكثر الوجبات منها عندنا وقد مللناها ويخرج كل يوم مع آذان الفجر ولا يعود إلا بعد المغرب، ليس له يوم راحة في الأسبوع مثل كل خلق الله، وإنما عمله يتواصل ولا يتوقف إلا عند الضرورة القصوى أو المرض، لذا توَّلت أمي تربيتنا وبطريقة قاسية لأنها كانت تجد صعوبة كبيرة في تدبير شؤون المنزل وتوفير احتياجاتنا مع ضعف إمكانات أبي الذي كان يلقي في يدها ما يرزقه الله به ويحصل عليه من صاحب العمل كل أسبوع من دون أن يبقي لنفسه إلا ما يكفي لأجرة المواصلات، ومع ذلك لم تكن يوماً راضية عنه وتوبخه وتعنفه وتعيره بعجزه عن تحقيق الرخاء لنا مثل كثير من الناس وقد كان صبوراً على أذاها وتحمل منها الكثير ونحن نتعاطف معه إلا أننا لا نملك أن نفعل شيئاً. عندما تقدم لي هذا العريس كنت قد تخطيت الخامسة والعشرين ولم يتقدم شاب واحد لطلب يدي قبله، فأنا لست جميلة وأستطيع أن أعترف بذلك بكل جرأة إلا أنني مع هذا لست دميمة وموافقة أبي المباشرة التي أبداها بلا تفكير أو تريث كانت بسبب هذه الظروف، أما رفضي فله أسبابه القوية ولعلّ الكثيرين يتفقون معي فيها، فعمر العريس ضعف عمري تماماً إذ أنه في الخمسين وفي عمر أبي وهذا ما سبب لي صدمة قوية بجانب أنه متزوج وله أبناء في مثل عمري ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه لن يقيم معي باستمرار وسيشتري لي شقة ويزورني كل عدة أشهر عندما يأتي هنا في إجازة وبلا مواعيد محددة وأعتقد أن تلك الأسباب كافية لأن أرفض وبشدة لأنني قد أتحوَّل إلى خادمة لرجل عجوز يبحث عن ممرضة لا عن زوجة وكيف أكون زوجة وكل منا في واد وتفصلنا آلاف الأميال. وللإنصاف يجب أن أذكر مميزات الرجل فهو أستاذ في الجامعة وثري جداً وكريم وعرض أن يتحمل كل مصاريف الزواج كاملة من دون أن يتحمل أبي فلساً واحداً بالإضافة إلى مبلغ كبير من المال لِي في حساب باسمي وآخر أكبر منه لأبي، أو بالأحرى لأمي وهذا ما جعلهما لا يفكران في العرض فهو مغر بكل المقاييس ومن ناحية أخرى فإنهما سيتخلصان مني وليت العروض تنهال عليهما لبقية أخواتي هكذا والعريس أيضاً وسيم وهادئ الطباع وخفيض الصوت وقليل المطالب ولا شروط له إلا قبول ظروفه التي ذكرتها. رغم الفقر الذي نحن فيه فإن عروضه السخية الإغرائية التي تصل إلى حد الحلم لم تقنعني بالقبول إلا أن صديقاتي كن يحسدنني عليها ويدفعنني دفعاً للقبول به، خاصة وأنه جاء في أول زيارة محملاً بالهدايا والملابس لجميع أفراد الأسرة مع بعض الأدوات الكهربائية البسيطة والأهم المبلغ الذي دسه في يد أمي قبل أن يتلقى جواباً بالإيجاب أو الرفض ما جعلها لا تفكر في الأمر إلا بالموافقة، وكذلك ممارسة ضغوطها عليَّ فهي تعلم أنني مستعصية على الترويض وأفضل ظل الحائط على ظل رجل بهذه المواصفات. الحقائق التي حاصروني بها كانت واقعية وأنا على قناعة بها مثل أنني لن يتقدم لي شخص أفضل منه وقد يفوتني قطار الزواج نهائياً، وتلك فرصة لن تعود وأنهم لا يرون ما قلته عنه عيوباً، بل قد يكون من المميزات، فلن يكون هُناك ملل في علاقتنا وأنه سيلبي لي أكثر مما أطمح إليه وسيحقق في حياتي نقلة حقيقية قد تجاوز الأحلام وعندما قلبت الأمر على كل جوانبه وجدت أنه من الحكمة والاعتراف بالواقع أن أقبل. كان بجانب المهر والشبكة التي تذهب بالعقول شقة تمليك فاخرة في منطقة راقية لا يقطنها إلا الأثرياء والصفوة وسجلها باسمي ولم يتخوف من أي تصرف من جانبي بالاستيلاء على هذا كله في حال حدوث أي خلاف وقدم أكثر من ذلك مبلغاً ضخماً في حساب خاص بأحد البنوك، لكن واجهتني مشكلة كبرى في التعامل المصرفي فلا أعرف القراءة ولا الكتابة ولا الحساب فكيف أُتابع حركة الرصيد وكيف أقوم بالسحب، لذلك أقدمت على التعليم لهذا السبب الجوهري ورغم كبر سني فقد أحببت التعليم وأقبلت عليه بشغف لأنني اكتشفت حلاوته وأنني كنت محرومة من متعة كبرى فحصلت أولاً على شهادة محو الأمية بعدما أجدت القراءة والكتابة والجمع والطرح والأرقام ومع غياب زوجي المستمر ولشهور عوضت وقت الفراغ في الانشغال بالتعليم وحصلت على الشهادة الابتدائية وبدأت أقرأ الصحف والمجلات. لم يكن يزعجني في تلك الزيجة أكثر من وجودي وحدي كل هذه الفترات، فزوجي طيب وحنون، لكنه لا يملك الوقت للبقاء معي إلا لمدة أسبوع كل عدة أشهر وإن كان يظهر لي حبه الكبير، فيجعلني أتراجع عن طلب الطلاق حتى لو عدت إلى حياة الفقر السابقة ويبدي تمسكه بي ويعدني بأن يزيد من فترة زياراته أو قد يصطحبني معه وانتظرت تنفيذ وعوده رغم المعاناة ومرارة الصبر ولا أحد يشعر بي ولا ينظرون إلا إلى الشقة الفاخرة والسيارة الحديثة والأموال التي تجري بين يدي بجانب الأموال التي أغدق بها الرجل على أسرتي حتى تمكنت أمي من شراء قطعة أرض وبناء بيت عليها وتسبب بأمواله في نقلة كبيرة لتلك الأسرة التي كانت بسيطة، ولأنه عرف معاملة أمي لأبي القاسية، فقد خصص له مصروفاً من وراء ظهرها بعد أن توقف عن العمل في محل الأسماك وأصبح يرتدي الملابس الأنيقة ويجلس على المقهى يلتف من حوله الناس، لكن للأمانة، فإن أبي لم يتغير وكان يحدث بنعمة الله على عكس أمي التي كانت تقول دائماً هل من مزيد؟ ولا اتهم أمي زوراً، فالوقائع تدل على ذلك لأنها طلبت من زوجي - دون أن أعرف - بأن يحضر عرساناً لأخواتي على شاكلته وبالفعل تزوجت ثلاث منهن بهذه الطريقة، لكن ساهمت أمي بمبالغ كبيرة في تجهيزهن بالطبع مما آل إليها من زوجي، لكن المفاجأة أن كل هؤلاء لم يكونوا بكرمه وسخائه مما سبب لها صدمة لأنها أصبحت نهمة لجمع المال وتريد أن تؤمن مستقبل أخي الأصغر الذي ما زال طالباً في الإعدادية ولم تجد إلى ذلك سبيلاً واكتفت بنهب أموال زوجي الذي كان يعرف نهمها للمال فيلبي رغبتها وهو يعي ما يفعل. أعترف أنني استرحت لزوجي لأنه عوضني عن الحرمان الذي كنت غارقة فيه ولم يبخل عليَّ يوماً، بل كان يبالغ في الهدايا والملابس ويحاول إرضائي بشتى السبل لأنه يعلم أنني أصبت بالملل من غيابه وتقتلني الوحدة واستمرت هذه الأوضاع على مدى فترة زواجنا وقد بلغت الأربعين ولم أنجب ولا أمل في ذلك لأن زوجي بلغ هو الآخر الخامسة والستين وراودتني عاطفة الأمومة، وفكرت فيها كثيراً لكنها أصبحت أمنية مستحيلة وقد استرجعت أسباب الرفض الأولى وما زلت أرى أن عندي كثيراً من الحق فيها لأن كل هذه السنوات التي مضت لم يقض معي زوجي خلالها إلا أسابيع متباعدة، فلم أعش الحياة الزوجية، كما ينبغي أن يكون مثل كل الأزواج والزوجات. بعد هذا كله تلقيت اتصالاً من زوجي أثناء غيبته المعتادة يخبرني بأنه مريض ويطلب مني أن أسامحه عن أي تقصير نحوي وبعدها بعدة أيام انتقل إلى جوار ربه، وبالفعل حزنت كثيراً وارتديت السواد وأعلنت الحداد عليه، فالرجل لم يوجه إليَّ أي إساءة وان لم يكن هو فتى أحلامي، لكنه يستحق الوفاء والاعتراف بالجميل. لم أحصل على نصيبي الشرعي في الميراث لأنني لا أعرف زوجته وأبناءه ولا وسيلة لي للوصول إليهم واكتفيت بما أعطاني أثناء حياته وهو ليس قليلاً، ولم يكن عندي مطلب مالي منه لكن الغريب أنني وأنا في عمر الزهور وعندما كنت في العشرين لم يتقدم أحد لخطبتي، بينما الآن هرول العرسان إلى بابي وتزاحموا وعبروا لي عن حبهم وإعجابهم وهيامهم بي مع أنني افتقدت كثيراً من جمالي المحدود وعمري تجاوز الأربعين وقد قررت أن أتأكد من صحة وجهة نظري بأن كل هؤلاء طامعون في الشقة والسيارة والأموال فنصبت لهم فخاً، حيث ادعي الموافقة بشرط أن يوفر هو الشقة ويتحمل تكاليف الزواج ويقوم بمسؤولياته كرجل وزوج، فإذا بهم يهربون واحداً تلو الآخر ويذهبون بلا عودة وفقدت الثقة في الرجال ولا أريدهم.