السفارة الأميركية في العراق... ومهمات ما بعد الانسحاب
لسنوات طويلة كان الدبلوماسيون الأميركيون في بغداد يشعرون بالتهميش مقارنة بنظرائهم العسكريين الذين هيمنوا على مقاليد الأمور في العراق من خلال التحكم في ميزانية كبيرة، وانفرادهم بنفوذ واسع استفادوا منه طيلة الفترة التي أعقبت غزو بلاد الرافدين.
وهذا الواقع يعترف به "كاميرون مونتير" الرجل الثاني في السفارة الأميركية ببغداد الذي يقول: "على رغم أننا في أكبر سفارة أميركية بالخارج، إلا أنني في كل صباح عندما أستيقظ وأتعامل مع العسكريين أكتشف حجم التأثير الضيق للسفارة"!
ولكن يبدو أن هيمنة العسكريين على زمام الأمور داخل العراق في طريقها إلى التغير، فمع قرب انتهاء مهمة الولايات المتحدة هناك، التي دامت سبع سنوات، يعكف الدبلوماسيون الأميركيون على إعادة تعريف النفوذ الأميركي في بلد احتكر فيه القادة العسكريون قوة السلاح ومليارات الدولارات وسياسة التدخل المباشر لرسم ملامح السلطة في العراق. وفيما يتراجع الحضور العسكري بدأت السفارة الأميركية في ممارسة دورها وتكريس نفوذها لتحديد إحدى أهم العلاقات الثنائية المعقدة بين بلدين لما تنطوي عليه من تحديات جسيمة ورهانات مستقبلية. ومن جانبهم ما زال العديد من العسكريين مترددين في تسليم زمام الأمور إلى المدنيين خلال فترة الانتقال السياسي التي يعتبرونها بالغة الحساسية بالنسبة للعراق، ومرد تخوفهم هو التشكك الذي يساورهم في قدرة المدنيين على التدخل لحل المشاكل التي قد تنشأ في العراق بعد انسحاب الجنود.
وللتعبير عن توجس العسكريين من تولي وزارة الخارجية تسيير المصالح الأميركية في العراق خلال المرحلة المقبلة يقول أحد القادة العسكريين رفض الإفصاح عن اسمه: "لا شك أن العراق حاليّاً يسير في طريق إيجابي، ولكن ذلك ليس أمراً مسلماً به، ولا يمكننا فقط الانسحاب وكأن الأمور ستصلح من تلقاء نفسها دون تدخل ومراقبة"، غير أن الدبلوماسيين يرون أن طروحات زملائهم العسكريين والمخاوف التقليدية التي يجهرون بها في مناسبات عديدة غير مبنية على أساس متين، مؤكدين أنهم أكثر قدرة في هذه المرحلة على الاستفادة من المكتسبات الأمنية التي تحققت والاستمرار في مراقبة الساحة العراقية.
وفي هذا الصدد يوضح الدبلوماسي "مونتير" أن المسؤولين الأميركيين سيعملون من الآن فصاعداً على مراقبة الحكومة العراقية لكنهم لن يسعوا إلى السيطرة عليها، أو التحكم في مجريات الأمور، مضيفاً أن الدبلوماسيين يجدون أنفسهم أكثر قدرة على التأقلم في البيئات التي تغلب عليها الفوضى وعدم الانتظام وهم مؤهلون أكثر من غيرهم في التعامل معها، وهو ما لا يستطيع العسكريون القيام به لأنهم يميلون إلى فرض السيطرة والتحكم في الأمور، وصولا إلى ما يعتقدون أنه الوضع المثالي. وقد لخص الدبلوماسي الأميركي وجهة نظره قائلا: "إن كل من يعتقد أننا ما زلنا في عام 2006 فهو خاطئ" في إشارة إلى الفترة التي كانت فيها الولايات المتحدة هي الآمر الناهي في العراق والمتحكم الأوحد في زمام الأمور. ويصر المسؤولون العسكريون والدبلوماسيون على سلاسة الانتقال في العراق من السيطرة العسكرية إلى التواجد المدني، مدركين في الوقت نفسه حجم التحديات التي تنتظر العراق.
وفي سياق الانتقال إلى الإشراف المدني في العراق حدد الدبلوماسيون والعسكريون في السنة الماضية أكثر من 1200 مشروع ومبادرة يتعين على المسؤولين العسكريين تسليمها إلى نظرائهم المدنيين، أو إلى الحكومة العراقية، وتتوزع تلك المشاريع بين المهمات الكبرى التي تتولاها الولايات المتحدة مثل الإشراف على المصالحة الوطنية وتعزيز سيادة القانون في العراق، وبين المشاريع الصغرى مثل تنظيم ورشات التدريب للجيش العراقي، في حين قدر الدبلوماسي "مونتير" أن 80 في المئة من المشروعات سيتم تسليمها للعراقيين أنفسهم.
ولكن التحديات سرعان ما انتصبت أمام عملية الانتقال تلك التي ينتظرها العراق بسبب الانسداد السياسي الذي بلغته البلاد بعد الانتخابات التي أجريت في السابع من شهر مارس الماضي، والتي عقدت من مأمورية المسؤولين الأميركيين الذين يتعين عليهم الانتظار إلى غاية تشكيل حكومة عراقية جديدة، وأكثر من ذلك تبرز انشغالات بشأن مصير بعض المشاريع الأساسية.
فعلى سبيل المثال لم يفتتح العراقيون بعد مستشفى ابن سينا الذي سلمه الجيش للمسؤولين العراقيين مجهزاً بأحدث المعدات الطبية، هذا بالإضافة إلى المرافق العسكرية التي سلمت إلى العراقيين بما فيها بعض القواعد العسكرية التي تعرضت للنهب صبيحة مغادرة القوات الأميركية، وبالطبع هناك مهام يصعب تسليمها للسفارة الأميركية في بغداد مثل عملية جمع المعلومات الاستخبارية، أو المبادرات التي يسميها الجيش بـ"مكافحة تأثير التدخل الإيراني"، فضلا عن دمج عشرات الآلاف من قدماء المتمردين في الجيش بعدما تحولوا إلى صحوات تحارب "القاعدة".
ولعل التحدي الأكبر الذي تسعى السفارة الأميركية بصلاحياتها الموسعة إلى مواجهته هو نقاط التماس بين المناطق العربية والكردية في كركوك وغيرها من المدن والبلدات، بحيث من المقرر إحداث ثلاثة مواقع دبلوماسية على امتداد الحدود المتنازع عليها، ومن المرجح أن يستمر التواجد العسكري على الحدود العراقية حتى بعد انسحاب الجزء الأكبر من تلك القوات، لاسيما أن الخلافات الحدودية والصراع على المناطق المتنازع عليها لن ينتهي بخروج كامل القوات الأميركية من العراق مع نهاية عام 2011.
إيرنيستو لوندونو وكارين ديونج - بغداد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة
«واشنطن بوست»