أحمد شعبان (القاهرة)

تسبب وقوع الكثير من الفتن في العصور الإسلامية الأولى في خشية علماء الأمة وفقهائها وولاة أمرها على الحديث النبوي من الكذب والتدليس والوضع فيه، لذلك نشأت مدارس علوم السُنَّة، وقد نال هذا العلم الكثير من الاهتمام.
وتعد دار الحديث النورية من أقدم هذه المدارس وأعرقها، أنشأها السلطان نور الدين زنكي، ملك الشام وديار الجزيرة ومصر، وأمر أن يتولى إدارتها أصحاب الأهلية العلمية، وأنشأ بها مكتبة كبيرة بحيث تكون كتبها مادة مرجعية لطلبة العلم الشرعي، وأولى مهمة التدريس فيها والإشراف عليها إلى أبرز أعلام عصره، وهو الحافظ أبوالقاسم ابن عساكر.
وكانت مجالس ابن عساكر في دار الحديث النورية ذات هيبة ووقار حافلة بالعلم، وكثيراً ما كان يحضرها السلطان زنكي، فقد عقد بن عساكر مجالس إسماع للحديث.
قال ابن الأثير الجزري، في كتابه «التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية في الموصل» عن السلطان نور الدين زنكي: وبنى في دمشق أيضاً داراً للحديث ووقف عليها وعلى المشتغلين والدارسين لعلم الحديث وقوفاً كثيرة، وهو أول من بنى داراً للحديث.
وذكرت المصادر التاريخية أن هذه الدار لم يشترط في وقفيتها أن يحصر تدريسها في مذهب معين، فقد استقبلت علماء من كل المذاهب الحديثية المعتبرة، فبانيها حنفي وأول من بنيت له شافعي وممن تولاها شيخان حنبليان هما البعلبكي والحارثي وشيخان مالكيان هما الأنفي وابن سيد.
وتقع هذه الدار في مدينة دمشق بسوق العصرونية، بين دار الحديث الأشرفية والمدرسة العصرونية، وقال عنها الرحالة ابن جبير: من أحسن مدارس الدنيا مظهراً مدرسة نور الدين، وهي قصر من القصور الأنيقة ينصب منه الماء من شاذوران وسط نهر عظيم ثم يمتد في ساقية مستطيلة إلى أن يقع في صهريج كبير وسط الدار، فتحار الأبصار في حسن ذلك المنظر.
وذكرها بعض المحدثين والمؤرخين الأوائل منذ إنشائها حتى القرن الثامن الهجري بثلاث تسميات: دار الحديث النورية، ودار السُّنة النورية، ودار السُّنة، وعرفت في عهودها الأخيرة بالمدرسة النورية الصغرى.
ولأهمية دار الحديث النورية، فقد تخرج منها وأخذ عن شيوخها كبار العلماء والمؤرخين والمحدثين في القرنين السادس والسابع للهجرة كابن الأثير والمقدسي والمزي وابن كثير والنووي والذهبي والحسيني وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم.
تولى إدارة دار الحديث النورية والتدريس بها عدد كبير من العلماء منهم الإمام أبو القاسم علي بن هبة الله ابن عساكر الدمشقي، ثم تولاها ابنه أبو محمد القاسم وأسمع تاريخ والده بعد وفاته «تاريخ دمشق».
اشتهرت الدار في أنحاء العالم الإسلامي، فاستقبلت من علماء دمشق والواردين إليها لإسماع الحديث ومنهم ابن أبي العجائز والخشوعي والنصيبي، وقال الرحالة الشهير ابن جبير الأندلسي إنه نزل فيها، وممن أخذ الحديث وروى فيها الإمام العز بن عبد السلام والإمام الذهبي والمؤرخ الكبير ابن الأثير.
وممن تولى مشيختها علاء الدين بن العطار تلميذ النووي وراوي كتبه، والمؤرخ الحافظ البرزالي والحافظ الإمام أبو الحجاج المزي صاحب التآليف الحديثية القيمة، وكان للإمام الفقيه ابن كثير نصيب في إدارتها، وكان ترتيبه في التعاقب الإداري والتعليمي هو الحادي والعشرين في أسماء هؤلاء العلماء.
دمرت الدار في الغزو المغولي لدمشق، حتى قام العالم الشيخ محمد أبو الفرج الخطيب في العام 1270 هـ، بإصلاحها وجلب الماء إليها، وأعاد إليها سيرتها الأولى في التعليم والدراسة، وكان يخلو فيها للدرس والمطالعة ويقصده الناس للفتاوى، حتى عرفت باسمه «مدرسة الشيخ أبي الفرج الخطيب» وتولاها بعده ابنه عبد القادر الخطيب، ثم حفيده أبو الفرج الخطيب وأولاده من بعده.