عبد الله السعدي يرى العالم بعين الطفل ويرسمه بمخيلته
يُقام في متحف الشارقة للفنون بمنطقة الشارقة القديمة معرض «رحلة إلى قمر قند وفيديو» للفنان عبد الله السعدي في إطار فعاليات بينالي الشارقة العاشر الذي تقيمه مؤسسة الشارقة للفنون ويستمر حتى السادس عشر من الشهر المقبل.
في هذا المعرض كما لو أن الفنان السعدي يستعيد الطفل/ الفنان الذي فيه، فيستعير عفويته في تقنيات الرسم كي يجسّد المشهد الطبيعي من حوله؛ كما لو أنهما يرسمان معا ما يعرفان وما يريان في آن واحدٍ. وربما من هنا جاءت الأعمال جميعا التي تتقشف في اللون والخط والمرسومة بالألوان المائية والخطوط القوية من الحبر الذي استخدم الفنان أقلاما خاصة لإنتاجها في أعمال لا يتجاوز حجم الواحدة منها الأربعين سنتمترا طولا في عشرين مثلها عرضا لكن عددها يتجاوز الستين على الأقل وقد تمّ إلصاقها على جدار العرض دون الإطار الكلاسيكي للوحة دون جامع بينها سوى التقنية في الأداء بشكل أساسي ومن ثم اللون والخط على نحو أقلّ.
وبدءا، فإن الأعمال في «رحلة إلى قمرقند وفيديو» هي نتاج رحلة قام بها السعدي عبر منطقة جبلية صحبة الحمار «قمرقند» التي وثّق خلالها المشهد الطبيعي على الحجر والصور الفوتوغرافية وشريط فيديو، كأنما يسعى الفنان إلى خلق العديد من الخيارات الفنية أمامه ليختار من بينها فيما بعد الرسم وقد عدّلت عليه المخيلة إنما بمرجعية تلك الوثائق التي منحته اللون والشكل وربما التقنية في الأداء أيضا.
تظهر أغلب المشاهد الطبيعية في أعمال السعدي مرئية بعين طائر يحلق فوق المشهد الجبلي، حيث البني بتدرجاته المتفاوتة تُبرز العمق السحيق للوادي مثلما تقيس ارتفاع الجبال، حيث التقشف الشديد في التكوين فلا يرى المرء إلا ما يوحي ويشير وحيث الحضور البشري أو الحضري شديد الندرة في اللوحات فلا تظهر سوى السيول زرقاء غالبا في أسفل الجبال وبضعة أشجار وكلاب تسكن بيوتها الخاصة بها في ما البشر في غياب مديد أو كأن الفنان لا يريد لأحد أن يرى ما يراه هو فيعيد تشكيل المشهد الجبلي بلا تفاصيل تقريبا إنما برغبة عميقة في استعادة الطفل الذي فيه من الحياة اليومية إلى حياة ملؤها العزلة والانشغالات الصغيرة بالرسم وإعادة الرسم، وفي حين يتم تشكيل ما هو جبلي وطبيعي أو حتى برّي بالون البني المتدرج يستخدم الفنان قلمه الخاص لتحديد وجود بشري نادر بخطوط فقط توحي بذلك ولا تصرّح به إلا عبر التأويل أحيانا وكذلك هي الأشجار التي لا تظهر إلا عبارة عن دوائر خضراء فقط مثلما يراها المرء من نافذة طائرة بدأت توشك على الهبوط.
وهذا التقشف يستمر في بعض اللوحات التي يظهر فيها المشهد البحري، أو بصورة أدقّ المشهد الصخري/ الجبلي الذي لا يفصله عن البحر أيّ حاجز، ولوهلة أولى يعتقد الناظر إلى هذه الجبال بأن عبد الله السعدي قد منح تلك الصخور لون السماء في حين أن البحر ليس سوى خطوط رسمها القلم متموجة لتوحي بالبحر. إن الطبيعة في هذه الأعمال قد تمّ تجريدها إلى خطوط أساسية، وهي إنْ بدت حادّة وقوية لعين الناظر فإنها غير منفعلة، أي أن الإحساس بالطبيعة هو إحساس رجل اعتاد الحياة في المشهد المرسوم ذاته لا في المشهد على حقيقته أو كما هو عليه.
وعلى نحو مثير للإدهاش والمتعة يظهر البحر أخضر داكنا لا تسرّي عن وحشته سوى تلك الصخور السماوية التي يخالط لونها أحيانا انعكاس أخضر البحر عليها. إنما تبقى الأشكال عبارة عن خطوط هي في الأصل مجموعة من النقاط المتلاصقة التي يتشكل منها خطّ يمتد من هنا إلى هناك فتمنح الشكل للعين.
ثم يعود السعدي إلى المشهد الجبلي مرئيا من العين ذاتها، أي عين الطائر، أوما يسمى بعلم العمارة بالمساقط الرأسية، كما في الأعمال التي في مستهل المعرض، غير أن الاختلاف الجوهري هنا يكمن في أن الفنان/ الطفل يرسم خرائط للعالم من العلى إلى الأسفل ويسمي المناطق التي يمرّ بها و»قمرقند» مكتوبة بالقلم ذي المداد الأسود ذاته. وما يمنح الأعمال هذه جماليتها المختلفة هو مراقبة الفنان لتقلب الفصول على الجبال، فيكتشف الناظر إلى العمل تغيّر لو ن التربة الجبلية عبر تدرجات اللون البني وعبر ما يشبه انجرافات طبيعية لهذه التربة فضلا عن العودة إلى جريان الوديان في السيول بلونها الأزرق السماوي الذي هو من الدرجة ذاتها التي منحها الفنان لمشهد الصخور المطلة على البحر. وفي آخر الأمر، سوف يكتشف المتفرج إلى أعمال السعدي في رحلته إلى «قمرقند» أن الأعمال جميعا بلا ظلال، أي المشهد الذي التقطه الفنان بعد جهد وعناء غير موجود بل ربما يكون متَوَقَّعا في أحسن الأحوال، أو كما لو أن المشهد قد رسمته رغبة ما حرّكت الأصابع وكذلك المخيّلة التي خلقت الشكل، إلى حدّ أنّ العالم غير الموجود قد أُعيد منحه شكلا مرئيا بعين طائر لايرغب في التوقف عن التحليق أبدا.
اما في ما يتصل بالفيلم الذي يرافق المعرض، فصمته مديد وبدا بلا أية مؤثرات صوتية أو موسيقية، وفي أحد مقاطعه تتبدى المفاجأة فالأزرق السماوي الذي كان يحسب المرء أنه من لون السماء سرعان ما سيكتشف أنه اللون ذاته للرقاع الحجرية التي خطّ عليها الفنان السعدي بإزميله مشاهد تلك الجبال، على الأقلّ بوصفها اسكتش هو أيضا وقد أصبح وثيقة فنية.
المصدر: الشارقة