ليست مشكلة أميركية بحتة، بل هناك دروس يجب على الولايات المتحدة أن تتعلمها من دول غنية أخرى عانت منها،
ما حال العمال الأميركيين الآن؟ لا الطبقة المتوسطة، ولا الفقيرة في أفضل حال منذ عقود. لكن لا يجب أن نحمل الإعفاءات الضريبية المسؤولية في ذلك، ولا انخفاض الحد الأدنى للأجور، ولا حتى جشع فئة الواحد في المائة الأكثر ثراء في المجتمع.
ففي الدول الغنية حول العالم نرى النصف الأعلى من أصحاب الدخل مستمرين في الابتعاد عن النصف الأدنى لاتساع الفجوة! ولعل نمو الإنتاجية وسط فئة العاملين الأعلى أجرا هو السبب وراء الظاهرة، لدواعي المتغيرات التكنولوجية السارية.
وبقياس تفاوت الأجور، وجد خبراء اقتصاديون أن المعدل هو 50/‏‏‏90 في الغالب الأعم، ويحسب هذا المعدل بقسمة أجر العامل من الفئة العليا على أجر نظيره في الفئة المتوسطة. وفي 2017 على سبيل المثال، كان العامل من الفئة العليا يجني نحو 108000 دولار سنويا، بينما يكسب عامل الفئة المتوسطة نحو 45000 دولار، وبذلك يصل المعدل إلى 2.4 مقابل 2.2 منذ عام 1997.
وخلال الفترة نفسها، ظل معدل 50/‏‏‏10 ساريا، ويمثل هذا المعدل أجر العامل من الفئة المتوسطة مقسوما على أجر نظيره من فئة الأعلى دخلا. وبذلك استقر المعدل نحو 2.1 في الفترة نفسها محل الإحصاء.
ومرت فترات حققت المجموعات الأدنى أجرا مكاسب خلالها، مقارنة بغيرها من المجموعات، وأشار المجلس الاقتصادي الاستشاري للرئيس مؤخراً إلى ارتفاع إيرادات فئة العاملين الأدنى دخلا مقارنة بنظرائهم من الفئة المتوسطة. وبلغت نسبة الارتفاع في أجورهم نحو 6% خلال الربع الأخير من عام 2018.
رغم هذا، فإن الاتجاه الأكثر شيوعا زيادة أجور فئتي الأدنى دخلا ومتوسطي الدخل بصورة طفيفة خلال عشرين عاما الماضية. ويبدو أن الشريحتين تتحركان بخطى بطيئة للغاية في هذا الصدد مقارنة بما كان عليه الحال قبل 20 عاما.
ولعل الوضع مماثل في الدول الغنية الأخرى. ففي بريطانيا وألمانيا على سبيل المثال، حقق العاملون الأعلى دخلا مكاسب مقارنة بالنصف الأدنى دخلا، خلال فترة الـ 20 عاما الماضية ذاتها محل البحث. وانطبق نفس الوضع تقريبا في 16 دولة أخرى من أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال الفترة من 1997 إلى 2015.
وتجدر الإشارة إلى أن المستويات المعيشية للعاملين تعتمد على مستويات أجورهم الفعلية، وليس على معدلات الأجور التي نحن بصددها. ومن ثم يصبح الأمر مضللا إذا ما التزمنا بالمقارنة بين النسب الإحصائية المتاحة.
ففي بريطانيا وألمانيا على سبيل المثال، يعد معدل 90/‏‏‏50 الذي تحدثنا عنه سلفا أقل من نظيره في الولايات المتحدة. إلا أن العامل الأميركي المتوسط يحقق دخلا يزيد بنسبة 6% عن نظيره الألماني و17% عن البريطاني من الشريحة ذاتها.
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً، فإن العامل الأميركي المتوسط احتل المركز الثالث في الدخل بين نظرائه في 18 دولة من أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، برغم تمتعه بثالث أعلى معدل 90/‏‏‏50. ومما لا شك فيه أن العامل الأميركي المتوسط يتمتع بمستوى معيشي أعلى من غالبية نظرائه في الدول الأخرى الأعضاء في المنظمة، وإن كانت الفجوة هائلة بينه وبين مواطنيه الأكثر ثراء.
برغم هذا، فإن معدل النمو في أجر العامل المتوسط ظل عند 0.5 % سنويا في الولايات المتحدة، وكندا، وفرنسا. ولم يسجل أجر العامل ذاته أي زيادة في اليابان. وتوحي الطبيعة السائدة لهذا النمط بوجود ظاهرة عالمية مستترة للمسألة.
وقد يرجع التفسير المحتمل للظاهرة إلى زيادة إنتاجية العاملين الأفضل تدريبا، والأعلى تعليما مقارنة بالأدنى منهم مهارة، نتيجة للمتغيرات المهنية والتكنولوجية. بمعنى آخر إذا اتسعت الفوارق في مستويات الإنتاجية، ستتزايد الاختلافات في الأجور بالتبعية.
ولكن ليس الأمر هنا هو أن أمريكيين أثرياء يستغلون مواطنيهم الأفقر منهم. فالعاملون الأمريكيون في فئة الأعلى دخلا ليسوا ممولين على عكس ما يعتقد. إنهم إداريون ومدراء حاصلون على شهادات جامعية، ومطورو نظم برمجيات وأجهزة كمبيوتر، وممرضات، ومندوبو مبيعات، ومشرفون. أما العاملون المتوسطون فهم ممن توقفوا دراسيا عند مرحلة التعليم الثانوي.
ومن الملاحظ أن ألمانيا، على سبيل المثال، تطبق نظاماً يعتمد بكثافة على التدريب المهني. فمن يعجزون على الالتحاق بالتعليم الجامعي لديهم مهارات تؤهلهم لسوق العمل وتدربوا عليها فعليا وهم في مرحلة التعليم الثانوي. ولعل ذلك التدريب في حد ذاته هو ما يعزز إنتاجيتهم مقارنة بنظرائهم الأمريكيين. ويجب أن نشير هنا إلى أن متوسط الإنتاجية في أميركا مرتفع عموما، وإن كان أميركيون كثيرون يعانون انخفاض إنتاجيتهم بسبب عجز النظام التعليمي الأميركي عن تطوير مهارات عمل حقيقية لدى من لا يلتحقون بالتعليم الجامعي.
إن العمال الألمان المدربين مهنيا، وكثير منهم في قطاع الخدمات، يتميزون بأدائهم الجيد نسبيا مقارنة بخريجي مرحلة التعليم الثانوي في الولايات المتحدة، ناهيك عن الأميركيين المتسربين من التعليم في هذه المرحلة.
ويشعر بعض المدراء التنفيذيين في وادي السليكون بالقلق حاليا إزاء مخاطر شطب وظائف أعداد كبيرة من العاملين، إذا ما أحسن استغلال عبقريتهم هم بالتزامن مع انتشار ما يعرف بالذكاء الصناعي. فصور التقدم التكنولوجي تميل إلى تفضيل فئة العاملين الأعلى مهارة مقارنة بأصحاب المهارات الأدنى. لكن إذا أصبح الذكاء الصناعي مشكلة مستقبلا، فكيف ستكون أبعادها ؟ إذ أن أسواق العمل ضيقة بالفعل وليست بطيئة فحسب.
ومع هذا، فمن المنطقي أن نبقى قلقين إزاء أثر التطورات التكنولوجية مستقبلا. فقد تزيد الإنتاجية إلى حد يقل فيه الطلب على العمالة الأقل مهارة. ولن يكون الحل هنا بتحجيم التقدم التكنولوجي أو الردة عنه، إذ أنه المحرك الرئيسي لرفع مستويات المعيشة. ولن يكون الحل كذلك في ضمان الدخل للفقراء. فسيكون هذا بمثابة ضمادة وليس العلاج. إن المشكلة الجوهرية هي الفجوة المتزايدة في مستويات الإنتاجية.
وختاما، فإن الهدف الذي يجب على واضعي السياسات في قطاعي التعليم وسوق العمل أن يضعوه نصب أعينهم هو رفع مهارات النصف الأدنى من أصحاب الدخل حتى يتمكنوا من التنافس بفعالية أكبر مع الفئة الأعلى دخلا. فتقليل فجوة المهارات هذه هي السبيل الوحيد لعلاج مشكلات الطبقتين الوسطى والعاملة.

بقلم: إدوارد ب. ليزير