عمر الأحمد (أبوظبي)
بعد أن مرت بلده بأزمة اقتصادية هزت أركان ذاك الكيان المستند على قشات الشعارات المتأسلمة، وبعد هزيمة حزبه في الانتخابات البلدية في أهم المدن التركية ومعقله «إسطنبول»، يتلقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقادات شديدة اللهجة من أقرب الشخصيات إليه أحمد داوود أوغلو الذي يعد أحد قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم في البلاد بعد صمت طويل، ليزداد حجم الضغط على كاهل «الخليفة المزعوم»، ولتشغل هذه التصريحات الرأي العام المحلي في تركيا والعالمي، وتسلط الضوء على الشخصيات المهمشة، والتي أجبرت على الصمت رغم امتعاضها مما آلت إليه الأمور في تركيا التي أصبحت على فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة، مسببةً كارثة قد يعاني منها الشعب التركي طويلاً.
«الاتحاد» تفتح ملف انتقادات أحمد داوود أوغلو اللاذعة ضد السياسة «الأردوغانية»، وتتساءل عن أسباب هذه التصريحات وحيثياتها وتداعياتها، مستعينة بخبراء أكدوا أن هذه التصريحات هي غيض من فيض لم يظهر بعد للسطح، وما خفي أعظم مما ظهر، كما أن أوغلو يمثل شخصيات أخرى ممتعضة من سياسة الحزب الحاكم، لافتين إلى أن نهاية «العدالة والتنمية» باتت قريبة.
الحنث بالوعود
هاجم أحمد داود أوغلو، رئيس وزراء تركيا السابق، سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وحمّله مسؤولية أزمة تركيا الاقتصادية، وقال أوغلو، الذي كان يوماً خليفة أردوغان المختار بعناية على رأس حزب العدالة والتنمية الحاكم، إن الحزب يجب أن يواجه حقيقة تناقص الدعم الشعبي بسبب سياسات «الغطرسة». ودعا رئيس الوزراء السابق، في بيان أصدره مؤخراً، حزب العدالة والتنمية إلى مراجعة انتماء الرئيس للحزب، وكذلك تحالفه مع حزب الحركة القومية، محذراً من انحراف تركيا عن مبادئ السوق الحرة. وقال داود أوغلو، الذي لا يزال عضواً في حزب العدالة والتنمية: «لا يمكننا إدارة الأزمة الاقتصادية الواقعة من خلال إنكار وجودها. أزمة الحكم تكمن في جذر الأزمة الاقتصادية التي نعيشها».
ولقد أثارت هذا البيان وتصريحات سابقة لداود أوغلو غضب أردوغان، وكشف عدد من المقربين منه إلى أن الرئيس التركي ألمح إلى رغبته في طرد أوغلو من الحزب فيما تزايدت التكهنات عن عزم أوغلو والرئيس السابق عبدالله جول في تأسيس حزب جديد ينافس حزب العدالة والتنمية الحاكم.
وفي هذا الإطار أكد الكاتب والمحلل السياسي التركي فائق بولوط أن أحمد داوود أوغلو لم يغرد وحيداً خارج السرب، بل إنه يمثل شخصيات قوية أخرى مستاءة من ممارسات أردوغان، منها حنث الحزب الحاكم بوعوده المتعلقة بمبادئ الديموقراطية والعدالة والتنمية، لافتاً إلى أن هذه التصريحات والانتقادات تشير إلى بوادر انشقاق، متوقعاً تزايداً في هذه الانشقاقات قد تكون خلال سنة أو سنتين، وأن الرئيس التركي لن يقف مكتوف الأيدي أمامها وسيواجهها بحزم، وستدخل البلد في صراعات سياسية.
امتعاض وخلافات
من جانبه، ذكر أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت الدكتور عبدالله الغانم، أن تصريحات أحمد داوود أوغلو لها جذور، كما أنها مجملة وتملؤها اللباقة والدبلوماسية، بهدف الحفاظ على التماسك الحزبي، إلا أن الواقع عكس ذلك تماماً، وأن مثل هذه التصريحات تخفي خلافات أشد وستظهر على السطح مستقبلاً، مشيراً إلى أنها كانت نتيجة امتعاض أوغلو الذي يعد أحد الأقطاب القوية في الحزب الحاكم إزاء سياسات أردوغان.
ولفت إلى أن هذه الانتقادات تشكل ضغطاً كبيراً على أردوغان، علاوة على ضغط انتكاسة حزبه في الانتخابات البلدية، والتي خسرها في أهم المدن التركية الكبرى، وهي أنقرة وإسطنبول وأزمير، مضيفاً أن الرئيس التركي سيكون له رد فعل قوي تجاه هذه الانتقادات بناءً على شخصية أردوغان والتي لا تحب المواجهة، لافتاً إلى أن الانشقاقات ستتوالى خاصة إذا بدأت بشخصيات تحظى بشعبية واسعة.
وتطرق الغانم إلى التأثير الاقتصادي على هذا الصراع، حيث ذكر أن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا ستكون الورقة الرابحة لكلا الطرفين والمحك الحقيقي للحزب الحاكم وللمعارضة، وأن من يحل الأزمة سيحظى بشعبية كبيرة، موضحاً أن الشعب التركي يراهن على الأحزاب المعارضة والتي ستحاول إثبات نفسها في هذا المحك الاقتصادي، بينما سيحاول الحزب الحاكم (الحرية والعدالة) إنقاذ نفسه عن طريق حل الأزمة الاقتصادية وإن لم يستطع سيخسر شعبيته وسينهار.
وتحدث الغانم عن قرار لجنة الانتخابات بإلغاء نتائجها وإعادتها مرة أخرى، حيث ذكر أن تدخلت سلطة أردوغان في النتائج سيزيد ذلك من الانقسام، لافتاً إلى أنها تعطي إشارة سلبية إلى «نية» تغيير النتائج، وستطرح تساؤلات حول أسباب إعادة الانتخابات في إسطنبول بالذات دون غيرها مما يؤثر على صورة الحزب. وأضاف أنه إذا انكشف التلاعب ستحدث فضيحة تهز الحزب مشعلة الأوضاع السياسية في تركيا.
قوى صامتة
بدوره، ذكر خبير الشؤون التركية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية محمد عبدالقادر خليل، أن تصريحات داوود أوغلو المنتقدة لأردوغان كانت غير مباشرة وأشبه بدراسة أكاديمية توحي بأنه ممنوع من الحديث، مضيفاً أنها تأتي في سياقين الأول مرتبطاً بالخسارة المدوية لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية للمدن التي تمثل مركزاً وثقلاً سياسياً مكتظاً بالسكان ومحوراً للاقتصاد القومي. أما السياق الثاني، فيرتبط بالأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا والتي أيضا مرتبطة بخسارة الانتخابات البلدية، مشيراً إلى أن هذا الانتقاد يعكس قوى صامتة، ولكن غير ساكنة ومهمة، وغير راضية عن الأوضاع السائدة، وتنذر بعدم استقرار الأوضاع في البلاد إن استمرت سياسة أردوغان.
وأضاف أن هذه التصريحات تشير إلى تبلور جبهة تقودها شخصيات رئيسة في الحزب، خضعوا للصمت الإجباري على رأسهم أحمد داوود أوغلو والرئيس السابق عبدالله جول، مضيفاً أنه من المرجح أن يشهد الحزب انشقاقات ليعيد تكرار سيناريو حزب العدالة والتنمية نفسه حينما انشق من حزب الفضيلة عام 2001.
وأوضح أنه من الممكن أن تظهر قيادات شابة جديدة مرتبط بالمعارضة، مثل أكرم إمام أوغلو الذي قد يكون شخصية سياسية بارزة في المستقبل، وتكون هذه القيادات أكثر قدرة على التعامل مع الناخبين تتمتع بشخصية وقدرة خطابية جذابة. وتطرق خليل إلى «الدورات الحزبية» والتي تبدأ بحدث رمزي في البلاد كتدهور اقتصادي، ثم تتحرك عقارب الساعة، ويحدث تغييراً كبيراً يحل به حزب معين محل آخر، وقال إنه تتعدد وتتزايد مؤشرات نهاية حقبة «العدالة والتنمية»، ذلك أن الانتخابات البلدية كشفت «تحولاً جيلياً» أوشك على الحدوث، ففي الوقت الذي خاض فيه حزب العدالة الانتخابات في مدن تركيا الكبرى بجيل قديم هيمن عليه رئيس وزراء، ومجموعة من الوزراء السابقين، فإن «تحالف الأمة» دفع بمرشحين شباب في البلديات الكبرى، وكانت المفاجأة قدرتهم على إقصاء مرشحي العدالة في إسطنبول، وأنقرة، وأزمير، وأنطاليا، فضلاً عن أغلب المدن الساحلية.
وقال إن ذلك ليس مؤشراً على بداية «شيخوخة» العدالة ونخبته فحسب، وإنما حجم الخسارة الانتخابية ومداها ارتبط بأن الحزب حينما خاض انتخابات إسطنبول رأى أنها مصيرية، وقال أردوغان: «إن من يخسر اسطنبول يخسر كل تركيا»، ومن أجل ذلك دفع بثاني أهم شخصية في نظامه السياسي لخوض انتخابات البلدية، وهو بن علي يلدريم، رئيس البرلمان، ورئيس الوزراء السابق، لذلك، فإن هزيمته على يد أكرم إمام أوغلو لا تعبر عن حدث عابر، وإنما عن (هزيمة جيلية) لحكم أردوغان في تركيا».
وذكر خبير الشؤون التركية أن الأهمية تتزايد بالنظر إلى محركات أساسية منها ما يتعلق بتصاعد ظاهرة التحول من قبل قاعدة الحزب باتجاه الأحزاب الأخرى، لاسيما أن عدداً من قادتها بات يتبني خطاباً سياسياً جاذباً للقاعدة الشعبية المحافظة، وتأسيساً على رفض سياسات الهيمنة التي يتبناها الحزب تجاه مختلف مؤسسات الدولة، خصوصا أن خبرة ما بعد التحول الدستوري (2017)، وتأسيس «النظام السلطوي» في مرحلة ما بعد انتخابات الرئاسة (2018) لم يفض إلى استقرار، بل جعل من حالة التوتر السياسي الحالة السائدة في تركيا، فلم تتراجع وتيرة الاعتقالات، كما لم تتحسن أحوال البلاد السياسية والاقتصادية.
وأضاف أن طبيعة الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها تركيا، والتي تشكل، بدورها، محدداً رئيساً لانحيازات المواطنين السياسية، فكانت أحد أهم أسباب الصعود السياسي لأردوغان ورفاقه عام 2002 لم يتعلق بجاذبية خطابهم السياسي، بقدر ما ارتبط ذلك بطبيعة الأزمة الاقتصادية التي جاء على خلفيتها هذا الصعود ودفعت به، وذلك بعدما شهدت الساحة التركية العودة لسياسة تركية أصيلة ارتبطت بـ«التصويت العقابي»، بما أفضى إلى صعود جيل جديد من السياسيين وإقصاء سابقيه.
وتطرق خليل إلى قرار إعادة الانتخابات البلدية، حيث أكد أن القرار سيزيد من شريحة المعارضين والمنشقين، ومن ضمنهم فئة رجال الأعمال، موضحاً أن القرار يشير إلى وجود توتر في البلد مسببها لها غموضاً سياسياً ما يؤثر على الوضع الاقتصادي، حيث إن الاستقرار سبب رئيس للازدهار الاقتصادي.
هزات اقتصادية خطيرة
من جانبه، أكد أستاذ الاقتصاد والعلاقات الدولية في جامعة زايد، الدكتور شريف العبودي، أن العوامل الاقتصادية كانت أبرز الأسباب التي أدت إلى تصريحات ناقدة من أحمد داوود أوغلو أحد أبرز الشخصيات في الحزب، والتي كانت تحظى بمناصب رفيعة وأدوار مهمة في الدولة أبرزها منصب رئيس الوزراء منذ 2014 وحتى 2016. وأوضح العبودي أن التراكمات المترسبة في فترات ماضية بالإضافة إلى ما آلت إليه الأمور خاصة في الحزب آخرها الخسارة بالانتخابات البلدية في مدن كبرى كأنقرة وإسطنبول وأزمير وغيرها، أدت إلى ظهور هذه الانتقادات، لافتاً إلى أن تركيا مرت بهزات اقتصادية كبيرة مؤثرة، نظراً لبلد اقتصادي بحت، منها فقدان الليرة التركية لـ30% من قيمتها العام الماضي مقارنة بعقد مضى، مشيراً إلى أن انخفاض سعر سيستمر في إيذاء الاقتصاد في المستقبل، علاوة على ارتفاع معدل البطالة 14%.
وأضاف العبودي أن النتيجة الاقتصادية أدت إلى قلة الاستثمار مما نتج عنه تباطؤ الاقتصاد وهو عكس على الدعم السياسي لأردوغان، وأثرت بشكل كبير على حزبه، ما جعله يخسر الانتخابات البلدية لتتراجع شعبيته، سواء على مستوى داخل الحزب أو خارجه.