يقول النبي صلى الله عليه وسلم “الحكمة ضالة المؤمن، أنا وجدها فهو أحق بها”، فالحكمة جوهر مكنون دفين في أعماق الإنسان، ينبغي على المؤمن أن يطلبها، ويبحث عنها في طيات نفسه، وبين جوانحه، فالمؤمن في طلبه للحكمة هو كالإنسان الذي ينقب عن الجواهر ليتحلى بها، ويتزود بريعها، ومن ثم استحق صاحب الحكمة أن يكون في حسد من بني جنسه وأقرانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها”. ومن منطلق اهتمام الإسلام بالحكمة، بلغ العرب الذروة بالإسلام، وأصبحت الحكمة على مدار التاريخ سمتاً لهم، حتى أنه يروى أن قيصر الروم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يقول له “لقد سمعت أن أمة الإسلام هي أمة الحكمة، فهل تستطيع أن تخبرني عن أصل هذه الأشياء؟ ثم قال له أخبرني عمن لا أب له؟ وعمن لا عشيرة له؟ وعمن لا قبلة له؟ وعمن سار به قبره؟ وعن ثلاثة أشياء لم تخلق من رحم؟ وعن شيء ونصف الشيء ولا شيء ؟وابعث لي بحياة كل شيء؟ فبعث معاوية إلى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يطلب الإجابة، فقال ابن عباس “أما الذي لا أب له فهو عيسى عليه السلام، وأما الذي لا عشيرة له فهو آدم عليه السلام، وأما من لا قبلة له فهي الكعبة المشرفة، وأما من سار به قبره فهو يونس عليه السلام إذ كان في بطن الحوت، أما الأشياء الثلاثة التي لم تخلق في رحم فهم كبش إبراهيم، وناقة صالح وحية موسى، وأما الشيء فالإنسان له عقل يعمل بعقله، وأما نصف الشيء فالإنسان ليس له عقل ويعمل برأي الآخرين، وأما اللاشيء فالذي لا عقل له يعمل به ولا يستعين بعقل غيره، وأما حياة كل شيء فهو الماء الذي قال عنه الله سبحانه (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)” الأنبياء (30). من هذا المنطلق، اهتم الإسلام بتربية الأبناء على الحكمة وغرسها في وجدان الأبناء والصبيان، ولقد حفل التاريخ الإسلامي بالعديد من القصص التي يمتحن فيها الكبار حكمة الصغار، فيذكر أن المعتصم زار وزيره الفتح بن خاقان في بيته، فدخل عليه ابن الوزير وكان طفلاً صغيراً، فامتحن المعتصم حكمته، وقال له “يا بني أي الدور أحسن دار أبيك أم دار أمير المؤمنين؟ فقال له الغلام الدار الأحسن هي الدار التي يكون فيها أمير المؤمنين، فمد إليه المعتصم يده، وقال له: يا غلام وهل رأيت أفضل من هذا الخاتم؟ فقال الغلام: بلى اليد التي تلبس الخاتم” فسر المعتصم من حكمته وفطنته ورجاحة عقله وحسن جوابه، ومن ثم أصبحت تلك الذكريات التاريخية من العلامات الواقعية التي تبين قول الحق سبحانه “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ” البقرة (269). وفى الوقت ذاته، أضحت برهاناً ساطعاً على عناية هذه الأمة بالحكمة، وتنشئة الأطفال عليها، وبهذا أصبح خير الطرق لاكتساب فضيلة الحكمة والتحلي بها أن يؤخذ الناشئ بأفضل أساليب التربية الأخلاقية، وأن يرى الناشئ في المربين له قدوة يظهر من خلالها عليهم سمت الحكماء والعلماء الذين يؤثرون القناعة والاعتدال والحق والعدل في أعمالهم، والصدق في أقوالهم، إذ إن الحكمة جوهر كريم لا ينمو في غير معدنه، ولا حياة له في غير موطنه، فإذا شب الناشئ واستقام فكره كان عليه أن ينهل الحكمة من مصادرها في أقوال الحكماء وأفعال العظماء، حيث يوقن في نفسه أن لعظماء الرجال في الحياة مواقف. ومن ثم ينبغي أن يصنع لنفسه مواقف ينحني لجلالها عظماء الرجال، وهذا ما فعله لقمان الذي آتاه الله الحكمة، فرأى نفسه بين قومه إماماً للموحدين، وفي الوقت ذاته رأى ولده في زمرة الكافرين، وعلى بعد المسافة بين التوحيد والشرك فقد استطاع لقمان بحكمته أن يخرج ابنه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، فتحمل مسؤوليته التربوية تجاه ولده متسلحاً بالعلم والعمل، وهما العنصران الأساسيان في تكوين الحكمة، تلك الحكمة التي أثمرت في نفسه قيمة البر والوفاء لولده فرباه بالقدوة قبل أن يربيه بالكلام، واختار أسلوب الوعظ والإرشاد المحفوف بالتلطف كإطار عام لهذه العملية التربوية مبتدئاً في وصاياه بالأهم وهو النهي عن الكفر والشرك، مثنياً بأهمية بر الوالدين، ومعقباً على ذلك بتربية النفس والوجدان قائلاً لولده “يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ” لقمان (16). وختم حديثه مع ولده بالأمر بالعبادة والحث على الصبر، وليس أي صبر إنه الصبر الجميل الذي صقلته نار الحكمة فتخلص من الجزع والشكوى، ومن ثم انعكس نور الحكمة من الوالد على ولده فتسلح بها حتى خرج من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، ولا حرج على فضل الله سبحانه فهو القائل “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ” البقرة (269). د. محمد عبد الرحيم البيومي الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات