السيرة الذاتية شعرياً
أكثر من ثلاثين عاماً مرت على صدور المجموعة الشعرية “قصائد أليفة”، المجموعة الأولى للشاعر العراقي هاشم شفيق، جعلت من تجربته الشعرية، متمثلة في 17 مجموعة، تنجلي وتتجلى كواحدة من أبرز تجارب السبعينات في الشعر العراقي، وتشكل حالة متميزة بين جيل من الشعراء لم يكن سهلا عليهم تجاوز تجارب الستينات والخمسينات، حين كان على الشاعر العراقي ـ والعربي عموماً ـ تجاوز تجربة السياب، ومطاردة تجربة سعدي يوسف ويوسف الصايغ وحسب الشيخ جعفر وسامي مهدي وغيرهم، فجاء جيل هاشم شفيق ليرسم خطوات جديدة في تجربة الشعر العراقي، مستفيدا من كل التجارب السابقة.
نقول هذا في سياق الوقوف مع كتاب هاشم شفيق الأخير “البحث عن الزمن الحاضر: ديوان السيرة الذاتية” (دار كنعان ـ دمشق)، الذي تتجلى فيه ليس فقط السيرة الذاتية للشاعر، بل قدراته وتمكنه الشعري الذي يجعله يتحكم بأدواته ومشاعره ونصوصه المتفرقة، ليخلق من خلالها مناخا شعريا تهيمن فيه ملامح من السيرة الذاتية، وسيرة المكان والزمان التي اختزنها الشاعر في ذاكرته الشعرية، ثم أفضى بها “شعراً” عبر محطات من حياته.
في هذا الكتاب ثمة ملامح من سيرة ذاتية، بل سيرة جيل يمثله هنا شاعر متميز، يطلق شعراً، موزوناً حيناً ونثرياً حيناً آخر، يتذكر مرة، ويجمح خياله مرات، لكنه يحيل إلى “الزمن الحاضر”، وهو زمن ممتد على مدى هو عمر الشاعر، عمر يبدأ بطفولة شقية وغنية بالتجربة، وينتقل إلى الصبا والشباب، لينتهي بالمنافي وتجاربها العصية على الحصر (باريس، بيروت، دمشق، قبرص..الخ).
وبعيدا عن التصنيفات، يكتب هاشم شفيق هنا موظفا شاعريات عدة، يكتب بشاعرية “اللهجة” العراقية ومفرداتها، شاعرية القسوة، وشاعرية الخسارات والفقد. يسرد حينا بنثر عالي الشاعرية، ويتذكر حيناً آخر بشعر يقارب النثر في أسلوب كتابته، وهو في الحالين يعرف كيف يمزج الشعر بالنثر، والخيال بالواقع، والحلم بالمتحقق، والراهن بالماضي، فلا تجد كبير فرق بين تذكر ملامح الطفولة وسردها، كما تكاد تختفي المسافة بين أزمنة الطفولة والصبا والشباب، باستثناء الوعي المعرفي والشعري لكل من هذه الأزمنة المختلفة.
وبدءاً من سيرة الطفولة نجد الشاعر يقول وكأنما يتذكر برائحة الشعر “حسوت زماني/ في أقداح من صوان/ وكان الشاي أخي/ يحرس حياتي”، أو نراه يحول الذكرى واقعا “في الخلاء وجدت نفسي منثورة تستعين/ بأنفاس طليقة للريح”، ويعود ليتذكر “بئرنا كانت تورد الجيران..”، كما يتذكر عناصر بيئته “جرة الدبس”، ويتذكر خيالات طفولته “وضعت السماد لسحابة/ وشتلت نجمتين”، لتبدأ تجربة جديدة في “قرأت أكثر من نهر/ وفتنت بسطور الماء فوق التراب”، بعد أن أعلن “نتبادل أنا وأصحابي الترع والينابيع”، وغير ذلك من ذكريات الطفولة التي يترجمها تجربة وشعراً.
وفي سيرة الصبا، يختلط الذاتي بالجمعي، الخاص بالعام، بدءا من “هذا عام سقوط الأفئدة/ سقوط الروح إلى آخرها/ وسقوط الحرير/ إنها نهايات التاج..” يعني سقوط ملك العراق فيصل الثاني حيث يقول “وكان العام “الثامن بعد الخمسين”، فهنا نجد تطلعات، حرائق، تظاهرات، دم، مناجل ومطارق، ويتذكر الشاعر “خرجت من النشيد الملكي إلى نشيد العامة/ فرحا بانتصاري على الأبجدية”، لكن على الصعيد الشخصي نرى الصبي “اليتيم” وتبعات ذلك الشعور باليتم.
وفي هذا الفصل نجد ما أسماه البعض “معجماً للروائح والنباتات والأحجار. إذ تحتشد فصولها بأسماء لا تحصى لموجودات الطبيعة وأنواع الخمور وأسماء المقاهي والحانات. الحانة هي بيت ومأوى ومصير للعراقي. هذا الولع بالمسميات الغريبة نجده بوفرة في نصوص هاشم كأنه عطّار بغدادي قديم لم يغادر دكانه الأول”.
وتمتد السيرة إلى مرحلة الشباب، لتتعدد المحطات من “بغداد في مطلع السبعينات”، حيث يبدأ النص بنص موزون مكتوب بطريقة النثر، وينتقل إلى نثر شعري مكتوب بطريقة شعر التفعيلة، وننتقل إلى “باريس نهاية السبعينات”، الذي يبدأ بصورة شاعرية يقول فيها “في أرض النور دنوت من الحلم/ تشردت على أرصفة “السان ميشيل”، وباريس مقهى..”، متذكراً المقاهي وشعراء فرنسا الكبار: أندريه بريتون ورامبو، وبعض معالم باريس.
وفي “بيروت مطلع الثمانينات” تمضي الرحلة في أفق جديد، أفق يعبر عنه الشاعر بالقول “في بيروت أقمت داخل سحابة/ منخرطا في الحنان/ الحنين إلى الجموع فتنني”. وفي بيروت الثمانينات يرى الشاعر هزيمة الثورة والإنسان، يرى عورات الزعماء ويكتب “عن الأدب والثورات/ وعن الرايات التي تخفق في الكهوف والسراديب” ثم “نمضي في السفائن/ ذات فجر حزين ومحاصر/ صوب مدائن أخرى”. وهنا تأتي دمشق مطالع الثمانينات ونقرأ روحاً جديدة حيث يقول “هدأت موجتي/ فنظفت فيها ندوبي/ وما خلفته الحروب” وتبدأ جولة استراحة المحارب، جولة في الضوء الدمشقي وهجرة في الياسمين وسوق الحميدية. وفي قبرص أواسط الثمانينات عالم جديد آخر يدخله الشاعر أنيسا للأغارقة.. القبارصة اليونانيين.. الذين “على مناكبهم تجلس الشمس وهم يفلحون الأدب..”.
هي قصائد تجتمع فيها السيرة، بالمعنى العريض وليس الضيق للسيرة، مع الكثافة والومضة والصور الشعرية، كما يجتمع السرد والاستعادة التذكارية مع قدر هائل من ذكر أسماء الأمكنة والعناصر النباتية والحيوانية، حتى رأى البعض في هذا الديوان معجماً للكائنات الحية وللأمكنة التي تنقل فيها الشاعر عبر فصول كتابه/ حياته.
ويقول الشاعر هاشم شفيق عن تجربة كتابة سيرة الطفولة “كتبتها هكذا بشكل عفوي، من دون تكلف، الخيال كان يحلق بي ومداد البعيد أخذ يقترب ويسلس لي، حين بدأت أكتب طفولتي وجدتني أكبر فصرت صبياً وهنا كان هيّناً عليّ التمادي، حين رأيت الآفاق تنفتح أمامي وأنا أنمو لأدخل مرحلة الشباب، في هذه المرحلة بالذات أحسست أنني أوثّق حياتي، فتسللت إلى التواريخ والمشاهد ما أدى إلى اندلاق وعاء التفاصيل أمامي، الوعاء الذي راح يدخل في شقوق هذه المرحلة ويرسب في عمق الزمن ويطفو على السطح متسرباً نحو الحواف، ومما ساعد على امتصاصه وتشربه هو حضور المكان بكامل جلاله وطوله”.